الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
(بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأثرها في الخطابة)
أثر القرآن في بلاغة الرسول، وبلوغه صلى الله عليه وسلم الغاية في البيان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أ- أثر القرآن الكريم في بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم:
الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق تأثرًا بكتاب الله على الإطلاق، لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم آية في فصاحة القول وسمو البيان، بل كان أبلغ العرب قاطبة، وهذه قضية لم تكن في يوم من الأيام موضع ارتياب من منصف قديم أو حديث، صديق أو عدو، وقد كانت هذه البلاغة العالية أثرًا طبيعيًّا لأسباب توافرت لها، ونتيجة حتمية لمقدمات أدت إليها، فالنبي محمد عربي، وهو من خير العرب قبيلة، ومن أعلاهم نسبًا، ومن أعظمهم بيتًا.
العرب سادة الأمم، وقريش سادة العرب، وبنو هاشم سادة قريش، ومحمد سيد بني هاشم، بل هو -صلوات الله عليه- سيد الأولين والآخرين، ومن مظاهر سيادة قريش أنها كانت أفصح قبائل العرب لهجة، وأصفاها بيانًا، وأعذبها منطقًا، وأقواها لسانًا.
ولقد تهيأ للغة القرشية قبل الإسلام من عوامل النقاء والصفاء والفصاحة والبيان، ما جعلها جديرة بأن ينزل بها القرآن، بأن ينزل بها كتاب الله تعالى، ذلك الكتاب الذي تحدى العرب ببلاغته وفصاحته، بالقول الجزل واللطيف العذب من ألفاظه، وبالرائع البارع من تراكيبه، وبالرفيع السامي من معانيه.
ولم يكد يقترب يوم ميلاد الإسلام حتى كانت اللغة القرشية سيدة لغات العرب بلاغة وفصاحة، وهذا مصداق قوله تعالى في شأن القرآن الكريم:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 192 - 195) ومن المؤكد أن القرآن نزل كله أو جله بلغة قريش،
وقد وصف القرآن الكريم قريشًا باللدد في الخصومة. قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (مريم: 97) وأكد هذا المعنى في قوله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 57، 58) فوصفهم بالجدل وبالخصومة الشديدة.
وهذه الأوصاف -اللدد والمبالغة في الخصومة والجدل- كلها تعني ذرابة اللسان ونصاعة البيان، والقدرة على تصريف القول وتشقيقه، والذهاب به كل مذهب عند المحاجة بين هذه القبائل، القرشية المستقرة في بطحاء مكة.
وبين هؤلاء القوم الذين عُرفوا باللَّسن والفصاحة، قضى محمد بن عبد الله طفولته الثانية وشبابه وكهولته، ويصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأثر نسبه في قريش واسترضاعه في بني سعد، فيقول:((أنا أعربكم؛ أنا من قريش، ولساني لسان سعد بن بكر)) أما السر الأعظم في بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو التدبير الإلهي بأن يكون محمد أفصح العرب، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء: 113) فقد امتن الله على رسوله بأنه أنزل عليه الكتاب والحكمة، وبأنه علمه علومًا لم يكن يدري عنها شيئًا، والله سبحانه إنما يمتن بجلائل النعم، فلا شك أن مما تدل عليه هذه الآية أن الله عز وجل ألهم رسوله روائع البيان، وخصه بالمثل الأعلى في فصاحة اللسان.
ب- شواهد على أن الرسول بلغ الغاية في البيان البشري:
وذلك في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 113) دليل على سمو بلاغة النبي، ذلك أن الله امتن عليه بتعليمه ما لم يكن يعلم،
وبأن فضله عليه عظيم، فلا جرم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في الفصاحة مثالًا يحتذى بين قوم يقدسون البيان، كما كان مثالًا يحتذى في مكارم الأخلاق.
فالله سبحانه لا يمتن على رسله إلا بالفضائل الكبرى، ولا يصف فضله بأنه عظيم حتى يكون من ذلك تمييزه الرسول على أقرانه بفصاحة اللسان، وقوة البيان، وربما أشارت إلى ذلك أيضًا الآية الكريمة:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) فهي لم تذكر ما يعطيه الله لرسوله، أي أن المفعول الثاني ليعطي قد حُذف، وحذف المفعول يُؤذِن بالعموم، فلا شك أن مما أعطاه الله لرسوله -فرضي- البيان، ولا يكون الرضا حتى يكون متفوقًا فيه على غيره من فصحاء العرب.
والبيان فضيلة في كل بيئة وفي كل زمان ومكان، وهو عند العرب في حياة النبي وقبلها فضيلة الفضائل، ثم إن سياق الآية يفيد أن الله سيعطيه جلائل النعم، فبدهي أن الله أعطى لرسوله نعمة البيان على أتم ما تكون، ومما يدل على ذلك ما ورد في الآية الكريمة {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (النساء: 63) والمعنى: قولًا بليغًا في أنفسهم، أي يغوص فيها ويبلغ غاية ما يراد منها. وقيل: أن المراد بالقول البليغ أن يكون الوعظ بكلام بليغ، وكل المعاني تؤكد أنما يقوله الرسول يتسم بالبلاغة ويمتاز بها.
قال السيد رشيد رضا في تفسيره (المنار): "وفي الآية شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة على الكلام البليغ، وهي شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في موضعه، وهذا بمعنى إيتاء الله تعالى نبيه داود الحكمة وفصل الخطاب، وما أوتي نبي فضيلة إلا أوتي مثلها خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. وشهادة الله تعالى له في هذا المقام أكبر شهادة، وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر التبيين على أنه بعض الغايات التي أنزل القرآن من
أجلها. قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 64).
ولا يمكن أن يقوم الرسول بهذا التكليف الشاق، وأن يؤدَى على أكمل وجه هذه المهام المتعددة، إلا إذا كان غاية في البيان ومثلًا عاليًا في الفصاحة، كما لا بد أن يكون له امتياز على أولئك الفصحاء الأبيِناء، حتى يظهر فضله موضع فخرهم وأنبل فضائلهم، فلا يتعاظمهم إلا أن يكون الرسول فيه المثل الأعلى، فالبيان هو الوسيلة الناجحة في الإقناع، وإلزام المدعوين الحجة، وحملهم على أن يصدقوا الرسول فيما جاء به، وأن يخجلوا من تكذيبه بعد أن تقوم عليهم الحجة، ويفحمهم البرهان بالفصاحة التي وهبها الله سبحانه لهارون، وقد خاف موسى أن يضيق صدره ولا ينطلق لسانه، حين يكذبه القوم الظالمون، قال حين يكذبه القوم الظالمون فرعون وملؤه:{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} (الشعراء: 12، 13) وعبارة القرآن: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (القصص: 35) رائعة قوية.
ولا شك أن فصاحة هارون كانت العامل الأقوى في شد العضد؛ لأنها هي التي نوه بها موسى وأعلن عن حاجته القصوى إليها، فالفصاحة -إذن- من أقوى الدعائم التي تقوم عليها الرسالات، ومن أهم الوسائل التي يتحقق بها البلاغ.
جـ- الصحابة يصفون بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم:
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ((ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول: مات حتف أنفه، وما سمعتها من عربي قبله، وقد وصف النبي مرة سحابة، وأصحابه يسمعون فقالوا له: ما رأينا الذي هو أفصح منك!! فقال: وما يمنعني من ذلك، فإنما أنزل القرآن بلساني، لسان عربي مبين)).