الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(تابع الإيمان بالقضاء والقدر)
أقسام القدر، وحكم التكذيب به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته وصار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:
حكم من أنكر القدر:
من أنكر القدر فقد جحد أصلًا من أصول الشريعة وقد كفر بذلك؛ قال بعض السلف رحمه الله: انظروا إلى القدرية بالعلم؛ فإن جحدوه كفروا؛ وإن أقروا به خصموا، فإنكار القدر كفر بالله -جل وعلا- ينافي أصل التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: القدر نظام التوحيد؛ فمن كذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده، يعني الإيمان بالقدر هو النظام، يعني: السلك الذي تجتمع فيه مسائل التوحيد حتى يقوم عقدها في القلب؛ فإذا كذّب بالقدر، معنى ذلك: انقطع السلك؛ فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد.
وهذا ظاهر؛ فإن أصل الإيمان أن يؤمن بالأركان الستة التي منها الإيمان بالقدر، قال ابن عمر:"والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر". لأن الله -جل وعلا- لا يقبل إلا من مسلم.
الإسلام شرط في صحة قبول الأعمال، ومن أنكر القدر ولم يؤمن بالقدر فإنه لا يقبل منه، ولو أنفق مثل أحد ذهبًا.
ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، هنا في قوله:((تؤمن بالقدر خيره وشره)) القدر منه ما هو خير ومنه ما هو شر: خير بالنسبة لابن آدم وشر بالنسبة لابن آدم؛ فالمكلف قد يكون عليه قدر هو بالإضافة إليه خير، وقد يكون عليه القدر
بالإضافة إليه شر، وأما بالنسبة لفعل الله -جل وعلا- فالله سبحانه وتعالى أفعاله كلها خير؛ لأنها موافقة لحكمته العظيمة؛ ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ثنائه على ربه:((والشر ليس إليك)).
فالله -جل وعلا- ليس في فعله شر؛ فالشر بما يضاف للعبد أصيب العبد بمصيبة فهو شر بالنسبة إليه؛ أما بالنسبة لفعل الله فهو خير؛ لأنها موافقة لحكمة الله -جل وعلا- البالغة، والله سبحانه وتعالى له الأمر كله.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك". وهذا لأن القضاء والقدر قد فرغ منه، يعني: تقدير الأمور قد فرغ منه، والله -جل وعلا- قد قدر الأشياء وقدر أسبابها؛ فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدر؛ كما أن نتيجته مقدرة.
ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله -جل وعلا- جعلك مختارًا، وأنك لست مجبورًا؛ فالقول بالجبر منافٍ للقول بالقدر، يعني القول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان؛ لأن العبد مختار وليس بمجبر؛ لأن التكليف وقع بذلك.
والجبرية طائفتان: طائفة غلاة وهم: الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون: إن العبد كالريشة في مهب الريح وحركاته حركات اضطرارية، ومنهم طائفة ليست بالغلاة وهم الأشاعرة ونحوهم الذين يقولون بالجبر في الباطن وبالاختيار في الظاهر، ويقولون: إن العبد له كسب: وهذا الكسب هو أن يكون العبد في الفعل الذي فعله محلًّا لفعل الله؛ فيفعل به فيكون هو محلًّا للفعل، ويضاف الفعل إليه على وجه الكسب -على ما هو معروف في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة.
ذكر مرتبة الكتابة:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة))، هذا فيه دليل على مرتبة الكتابة، وقوله:((إن أول ما خلق الله القلم)) معناه -على الصحيح عند المحققين-: أنه حين خلق الله القلم؛ فأول هنا ظرف بمعنى: حين، وإن اسمها ضمير الشأن محذوف، إنه أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، يعني: حين خلق الله القلم قال له: اكتب، فيكون قول:((اكتب)) هذا من جهة الظرفية.
وأما أول المخلوقات؛ فالعرش سابق في الخلق على القلم؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في الصحيح: ((قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)) فقوله: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب))، أنه حين خلق قال له: اكتب، والعرش كان قبل ذلك؛ فإذن الكتابة كانت بعد الخلق مباشرة، بعد خلق القلم؛ وأما العرش فكان سابقًا، والماء كان سابقًا أيضًا؛ ولهذا نقول: الصحيح أن العرش مخلوق قبل القلم، كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
والناس مختلفون في القلم الذي
…
كُتِب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أم هو بعده
…
قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه
…
عند الكتابة كان ذا أركان
كيفية الإيمان بالقدر:
أقسام التقدير:
أ- التقدير العام لجميع الكائنات: وهو الذي كتب في اللوح المحفوظ قبل خلق السَّمَوَات والأرض بخمسين ألف سنة.
ب- التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد من نفخ الروح فيه إلى نهاية أجله.
جـ- التقدير السنوي: وهو تقدير ما يجري كل سنة، وذلك ليلة القدر من كل سنة قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 3، 4).
د- التقدير اليومي: وهو تقدير ما يجري كل يوم من عِزٍّ وذُلٍّ، وعطاء ومنع، وإحياء وإماتة، وغير ذلك؛ قال تعالى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29).
هل الإيمان بالقدر ينافي مشيئة الإنسان في أفعاله الاختيارية؟
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها؛ لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له، أما الشرع؛ فقد قال الله تعالى في المشيئة:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} (النبأ: 39) وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (التغابن: 16) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286).
وأما الواقع فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي وما يقع بغير إرادته كالارتعاش؛ لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى وقدرته؛ لقول الله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير: 28، 29) ولأن الكون كله ملك لله تعالى، فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.