المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تأليف قلوب الصحابه واستمالتهم، والاهتمام بأمرهم، وتفقد أحوالهم، وقضاء حوائجهم - أصول الدعوة وطرقها ٣ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌حقيقة مذهب السلف في الإيمان بالقدر، والنصوص الدالة عليه

- ‌تعريفات القضاء والقدر، والفرق بينهما

- ‌أدلة وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌الدرس: 2 تابع الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌أقسام القدر، وحكم التكذيب به

- ‌الاحتجاجُ بالقدر لترك الواجبات وفعل المعاصي احتجاجٌ باطلٌ

- ‌أثر الإيمان بالقدر على المسلم

- ‌الدرس: 3 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (1)

- ‌أهداف دراسة السيرة النبوية، والبيئة التي نشأت فيها الدعوة

- ‌الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بأعباء الدعوة

- ‌دلائل النبوة في مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 4 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (2)

- ‌عصمة الله رسولَه صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية

- ‌الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سن الخامسة والعشرين حتى بلوغه الأربعين

- ‌الدرس: 5 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (3)

- ‌حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي

- ‌حال النبي عند نزول الوحي عليه، وصور ذلك الوحي

- ‌حديث بدء الوحي وما فيه من الفوائد

- ‌الدرس: 6 بدء الوحي، وبداية الدعوة السرية

- ‌بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وفترته

- ‌مرحلة الدعوة السرية

- ‌الدرس: 7 دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

- ‌أساليب المشركين المتنوعة في إجهاض الدعوة

- ‌السخرية والتكذيب، وصد الناس عن الدعوة، والاعتداء، والمطالب التعجيزية

- ‌الدرس: 8 تابع دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

- ‌الهجرة إلى الحبشة، وما يستفاد منها

- ‌مرحلة ما بعد وفاة أبي طالب والسيدة خديجة، والرحلة إلى الطائف

- ‌الدرس: 9 دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة

- ‌المسلمون يبدءون الهجرة إلى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية

- ‌الإعداد والتخطيط للهجرة، والدروس المستفادة منها

- ‌الدرس: 10 تابع دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة

- ‌تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة إلى المدينة

- ‌نتائج الهجرة

- ‌ملامح شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 11 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تريبة أصحابه

- ‌تربية الصحابة على أخلاق الإسلام السامية

- ‌وُدُّ النبي صلى الله عليه وسلم ووفاؤه، وتفقُّد أحوال أصحابه، وكرمه

- ‌غضبه صلى الله عليه وسلم وشدته في الحق

- ‌الدرس: 12 تابع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تريبة أصحابه

- ‌أثر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

- ‌تأليف قلوب الصحابه واستمالتهم، والاهتمام بأمرهم، وتفقد أحوالهم، وقضاء حوائجهم

- ‌الدرس: 13 تعريف بالمدعو وبيان حقوقه وواجباته، وسنة الاختلاف

- ‌التعريف بالمدعو، وبيان حقوقه وواجباته

- ‌سنة الاختلاف، والاختلاف فى علم الفقه، والاختلاف بين الصحابة

- ‌الدرس: 14 أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم، والدعوة على الوجه الأمثل

- ‌أصناف المدعوين: الملأ، وجمهور الناس، والمنافقون، والعصاة

- ‌تنوع الخطاب الدعوي وفق أحوال المدعوّين

- ‌أحوال الدعوة في الأقطار الإسلامية، وكيف تكون الدعوة على الوجه الأمثل

- ‌الدرس: 15 معاملة غير المسلمين وكيف يدعون إلى الإسلام

- ‌القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في دار الإسلام

- ‌الأساس الفكري لتسامح المسلمين، وتبليغ الدعوة لغير المسلمين

- ‌الدرس: 16 أساليب الإقناع والتأثير النفسي: الخطابة

- ‌الخطابة: تعريفها، وقيمتها، وتاريخها، ومكانتها في العصر الجاهلي

- ‌خصائص الخطابة في العصر الجاهلي وأغراضها

- ‌الدرس: 17 بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأثرها في الخطابة

- ‌أثر القرآن في بلاغة الرسول، وبلوغه صلى الله عليه وسلم الغاية في البيان

- ‌أمور مهمة في وصف بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمثلة من كلامه

- ‌الدرس: 18 من أنواع الخطابة الدينية: خطبة الجمعة

- ‌الجمعة: تعريفها، وفضلها، وسننها، وشروطها، ووقتها، ومن تجب عليهم

- ‌آداب الجمعة

- ‌الدرس: 19 خطبتا العيدين، والخطب الدينية في موسم الحج

- ‌صفة صلاة العيد وكيفيتها

- ‌الخطب الدينية في موسم الحج

- ‌شروط وجوب الحج، وصحة أركانه، وواجباته ومحظوراته

- ‌الدرس: 20 تابع الخطب الدينية في موسم الحج

- ‌بيان بعض أحكام الحج

- ‌ركوب الطائف، وسنن الوقوف بعرفة، والدفع إلى منى

- ‌الدرس: 21 من أساليب الإقناع العقلي ووسائله

- ‌الجدل

- ‌المحاجة، والمناظرة، والمحاضرة، والندوة، والدرس الديني

الفصل: ‌تأليف قلوب الصحابه واستمالتهم، والاهتمام بأمرهم، وتفقد أحوالهم، وقضاء حوائجهم

وجاء رجل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزل عن ناقته سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أأطلق ناقتي وأتوكل، فقال عليه الصلاة والسلام: اعقلها -أي اربطها- وتوكل)).

‌تأليف قلوب الصحابه واستمالتهم، والاهتمام بأمرهم، وتفقد أحوالهم، وقضاء حوائجهم

تآلف النبي صلى الله عليه وسلم لقلوب أصحابه واستمالتهم والاهتمام بأمرهم وتفقد أحوالهم وقضاء حوائجهم:

أولًا: تآلف النبي صلى الله عليه وسلم لقلوب أصحابه واستمالتهم:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عليّ رضي الله عنه: "أوسع الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، وكان يتألّف قلوبهم، ويكرم كريمهم، ويتفقدهم في شئونهم، ويعطي كلًّا من جلسائه نصيبه من التكريم، حتى يحسب جليسه أنه ليس أحد أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره؛ حتى يكون هو المنصرف منه، ومن سأله حاجة لم يرده إلّا بها، أو ميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب، ولا فاحش ولا عياب، ولا مداح، يتغفّل عما لا يحب، ولا يقابل أحدًا بما يكره، إلّا أنه في الحق من أشد الناس غيرة على حرمات الله، وإنكارًا على انتهاك آداب الشريعة، يجالس الفقراء، ويصغى إلى العبد والأرملة والمسكين".

قال أبو هريرة رضي الله عنه: ((دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: زن وأرجح، فوثب البائع إلى يده صلى الله عليه وسلم يقبلها، فجذب يده وقال: هذا ما تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك، إنما أنا رجل منكم، ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال: صاحب الشيء أحق أن يحمله)).

ص: 206

وكان في مجلسه كثير الصمت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن يتكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسمًا، وكان كلامه فضلًا لا فضول ولا تقصير، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، قال ابن أبي هالة: كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر.

وإليك نموذج من تأليفه صلى الله عليه وسلم لقلوب من حوله:

في السنة السادسة من الهجرة عزم عليه الصلاة والسلام على أن يوسّع نطاق دعوته إلى الله، فكتب ثماني كتب إلى ملوك العرب والعجم، وبعث بها إليهم يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكان من جملة من كاتبهم بطل من الأبطال، وملك من الملوك، ثمامة بن أثال الحنفي، سيد من سادات بني حنيفة، وشريف من أشرافها، بل هو ملك من ملوك اليمامة، فلا يُعصَى له أمر، ولا يرد له طلب، كان بطلًا مغوارًا فارسًا شجاعًا، فلما وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منه إلّا أن تلقاه بالازدراء والإعراض، أخذته العزة بالإثم، فأصمَّ أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير، ثم ركبه الشيطان فأغراه بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووأد دعوته، فدأب يتحيّن الفرص للقضاء على النبي -صلى الله عليه سلم، حتى أصاب منه الغرة، وكادت أن تتمّ الجريمة الشنعاء، لولا أنّ أحد أعماله أثناه عن عزيمته، في آخر لحظة نجّى الله النبي صلى الله عليه وسلم من شره ومن مكره.

ولكن ثمامة وإن كان قد كفّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلّا أنه لم يكفّ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جعل يتربّص بهم حتى ظفر بعدد منهم وقتلهم شرَّ قتلة، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر، ما كان منه إلّا أن أهدَرَ دمه، وأعلن ذلك في أصحابه.

لم يمض على ذلك طويل وقت، حتى عزم ثمامة بن أثال على أداء العمرة، انطلق من أرض اليمامة موليًا وجهه شطر مكة، وهو يمنّي نفسه بالطواف حول

ص: 207

الكعبة، والذبح للأصنام، بينما كان ثمامة في بعض طريقه قريبًا من المدينة، نزلت به نازلة لم تقع له في الحسبان، وذلك أنّ سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم كانت تجوس خلال الديار؛ خوفًا من أن يطرق المدينة طارق، أو يريدها معتدٍ بشر، فأسرت السرية ثمامة وهي لا تعرفه، وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، أتت السرية بثمامة إلى المدينة وشدته إلى سارية من سواري المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف عليه بنفسه، وعلى أسيرهم، وأن يأمر له بأمره.

لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهمَّ بالدخول، فإذا به يرى ثمامة مربوطًا في السارية، فقال لأصحابه: أتدرون من أخذتم؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: هذا ثمامة بن أثال الحنفي، هذا ثمامة ملك من ملوك العرب، وسيد من سادات بني حنيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: أحسنوا إساره، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى أهله، وقال: اجمعوا ما كان عندكم من طعام وابعثوا به لابن أثال.

ثم أمر بناقته أن تحلب له بالغدو والرواح، وأن يقدّم إليه لبنها، وقد تمَّ ذلك كله قبل أن يلقاه عليه الصلاة والسلام، أو يكلمه بكلام، ثم إنه أقبل عليه الصلاة والسلام على ثمامة يريد أن يستدرجه إلى الإسلام، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال بكل ثقة واعتزاز: عندي يا محمد خير، فإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالًا فسلْ تعط منه ما شئت.

تركه النبي صلى الله عليه وسلم يومين على هذا الحال، يؤتَى له بالطعام والشراب، ويكرم أيما إكرام، ويحلب له من لبن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه بعد يومين فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة كلامًا لم يزد عليه شيئًا، قال: ليس عندي إلّا ما قلت لك من قبل، فإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد مالًا فسلْ تعط منه ما شئت، التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: فكوا وثاقه، فكوا وثاق

ص: 208

ثمامة وأطلقوه، ففكوا وثاقه وأطلقوه، غادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى، حتى إذا بلغ نخلًا من حواشي المدينة فيه ماء، أناخ راحلته عنده، وتطهر من مائه، فأحسن طهوره، ثم أعاد أدراجه إلى المسجد، وما إن بلغ حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

ثم التفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الأديان كلها إليّ، ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح أحب البلاد كلها إلي، ثم أردف قائلًا: لقد كنت أصبت في أصحابك دمًا، فما الذي توجبه عليّ؟

قال عليه الصلاة والسلام مبشرًا لثمامة: لا تثريب عليك يا ثمامة، فإن الإسلام يجُبّ ما قبله، وبشره بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه، فانبسطت أسارير ثمامة، وقال: والله لأصيبنّ من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك، ولأضعنّ نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك.

ثم قال: يا رسول الله، إني خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبماذا تأمرني أن أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امضِ لأداء عمرتك، ولكن على شرعة الله ورسوله، وعلمه ما يقوم به من المناسك.

مضى ثمامة إلى غايته، حتى إذا بلغ بطن مكة، ووقف يجلل بصوته العالي قائلًا: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، فكان ثمامة أول مسلم على ظهر الأرض دخل مكة ملبيًا، سمعت قريش صوت التلبية والتوحيد، فهبت مغضبة مذعورة، استلّت السيوف من الأغماد، اتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الرجل الذي اقتحم عليها عرينها، ولمّا أقبل

ص: 209

القوم على ثمامة رفع صوته بالتلبية والتوحيد، وهو ينظر إليهم بكلِّ كبرياء وعزة، فهمّ فتًى من فتيان قريش أن يرديه بسهم، فأخذوا على يديه، وقالوا: ويحك! أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة، والله إن أصبتموه بسوء قطع قومه عنكم النيرة وأماتونا جوعًا، ثم أقبل القوم على ثمامة بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها، وقالوا: ما بك يا ثمامة؟ أصبوت وتركت دينك ودين آبائك، قال رضي الله عنه: ما صبوت، ولكني تبعت خير دين، اتبعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أردف في كل عزٍّ وافتخار: أقسم برب هذا البيت، إنّه لا يصير لكم بعد عودتي إلى اليمامة حبة من قمحها، ولا شيء من خيراتها حتى تتبعوا دين محمد عن آخركم، رسول الله.

اعتمر ثمامة بن أثال على مرأى من قريش كما أمره عليه الصلاة والسلام أن يعتمر، ذبح تقربًا إلى الله، لا إلى الأنصاب والأصنام، ومضى إلى بلاده فأمر قومه أن يحبسوا النيرة عن قريش، وأن يقاطعوا قريشًا حتى ترضخ وتعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم فاستجابوا له وأطاعوا أمره، قطعوا خيراتهم عن أهل مكة.

أخذت المقاطعة والحصار الذي فرضه ثمامة على قريش يشتد شيئًا فشيئًا، حتى ارتفعت الأسعار على قريش، فشا فيهم الجوع، اشتد فيهم الخوف، حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم أن يهلكوا جوعًا، عند ذلك خضعوا وذلوا وكتبوا للرسول صلى الله عليه وسلم يتوسلون ويقولون: إن عهدنا بك إنك تصل الرحم، وتحض على ذلك، وهأنت قد قطعت أرحامنا، فقتلت الآباء بالسيف، وأمتّ الأبناء بالجوع، وإن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا وأضرّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث إلينا بما نحتاج إليه فافعل، فما كان منه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، إلا أن كتب إلى ثمامة بأن يطلق إليهم ميرتهم، فأطلقها.

ص: 210

ظلّ ثمامة ما امتدت به الحياة وافيًا لدينه، حافظًا لعهد نبيه صلى الله عليه وسلم فلمّا التحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وطفق العرب يخرجون من دين الله ذرافات ووحدانا، وقام مسيلمة الكذاب في بني حنيفة يدعوهم إلى الإيمان به، وقف ثمامة موقفًا شجاعًا في وجه مسيلمة الكذاب، وقال لقومه: يا بني حنيفة، إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه، إنه والله لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به، ثم قال: يا بني حنيفة، إنه لا يجتمع نبيان في وقت واحد، وإن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نبي بعده، ولا نبي يشرَك معه، ثم انحاز بمن بقي على الإسلام من قومه، وأخذ يقاتل المرتدين جهادًا في سبيل الله وإعلاء لكلمة الله، فجزى الله ثمامة بن أثال عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأكرمه بعد ذلك بالجنة التي وعد الله بها المتقين.

فلنا مع هذه القصة عبر وعظات ودروس ووقفات، وقد ضرب لنا عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة وأجمل الصور في فنّ تعامله، وتنوعه في أسلوبه في دعوته، وعرض رسالته صلوات ربي وسلامه عليه، فمن تلك الدروس:

أولًا: يجب على الدعاة إلى الله أن ينوّعوا في أساليب النصح إلى الله؛ فتارة يكون بالمخاطبة والمحاورة، وتارة يكون بالمكاتبة والمراسلة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: يجب أن نتحلى ويتحلى الدعاة إلى الله بالحكمة والبيان والموعظة والإحسان، كما قال الله سبحانه وتعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) فقد أحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثمامة حتى أسلم ثمامة.

ثالثًا: لا بد من استئلاف قلوب الناس بالكلمة الطيبة والعطاء والمساعدة، فقد أكرم عليه الصلاة والسلام ثمامة أيّ إكرام، مع أنه من أعداء الله ورسوله، فكان ذلك الإحسان سببًا في إسلامه.

ص: 211

رابعًا: على المسلم أن يسخّر كل ما يملك من طاقات وجَهْد وأموال وعقار وجاه وسلطان وفكر وبيان في سبيل نصرة دين الله تعالى، والذبّ عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على التجار وأصحاب رءوس الأموال أن يدافعوا عن دين الله ودين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يدافعوا عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضربوا الحصار على تلك الدول الكافرة الظالمة المعتدية بمقاطعتها، وعدم استيراد منتجاتها، كما فعل ثمامة بقريش، بمنعه النيرة حتى رضخوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خامسًا: اصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين: فقد صدَع ثمامة بما أمر به، وأعرض عن الجاهلين، فقد كان أول مسلم على وجه الأرض يدخل مكة ملبيًا بالدعوة إلى دين الله، فالدعوة إلى دين الله والذبّ عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مسئولية الجميع، وكل إنسان بحسب طاقته وقدرته ومكانته واستطاعته، كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).

ثانيًا: الاهتمام بأمر أصحابه صلى الله عليه وسلم وتفقّد أحوالهم وقضاء حوائجهم:

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الاهتمام بأصحابه، والقارئ للسنة النبوية الشريفة يرى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود من مرض من أصحابه، ويتبع جنازة من مات منهم، وإذا افتقد أحدهم في صلاة الصبح سأل عنه، ومن كان منهم في حاجة إلى المال ساعده بماله، وحثّ الصحابة على مساعدته، وهكذا كان حريصًا على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعلى إفشاء روح الحب والتعاون والاحترام فيما بينهم.

وإليك بعض مظاهر هذا الاهتمام وذلك الحرص منه صلى الله عليه وسلم على أصحابه:

ص: 212

عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبًا دعا له، وإن كان شاهدًا زاره، وإن كان مريضًا عاده))، وعن علي بن الحسين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة فعجّل فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما عجلت أني سمعت صبيًّا يبكي، فخشيت أن يشق ذلك على أبويه)).

وعن أنس أن أعربيًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، وعليه برد، فجذبه فشقّ البرد حتى بقيت الحاشية في عنق النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بشيء.

وعن أبي هريرة قال: ((والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، وإن كنت لأعتمد بيدي على الأرض من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون فيه، فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله عز وجل، ما أسأله عنها إلّا ليستتبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مرّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فعرف ما في نفسي وما في وجهي، فتبسّم وقال: أبا هر، الحق، فاتبعته، فدخل فاستأذنت فأذن لي، فوجد لبنًا في قدح، فقال لأهله: أنى لكم هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان، فقال: يا أبا هر، انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: فأحزنني ذلك، وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، إذا جاءته صدقة أرسل بها إليهم، ولم يرزأ منها شيئًا، وإذا جاءته هدية أرسل إليهم فأشركهم، فأصاب منها.

قال: فأحزنني إرساله إياي، وقلت: أرجو أن أشرب من هذا اللبن شربة أتغذّى بها، فما يغني عني هذا اللبن في أهل الصفة، وأنا الرسول، فإذا جاءوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، ولم يكن في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله بد، فانطلقت إليهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، وقال صلى الله عليه وسلم:

ص: 213

أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: قم فأعطهم، فآخذ القدح، فأعطي الرجل حتى يروى، ثم يردّه إليّ حتى روي جميع القوم، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ القدح فوضعه على يديه، ثم رفع رأسه فنظر إليّ فتبسَّم، وقال: اقعد، فقعدت، فشربت، وقال: اشرب، فما زال يقول: اشرب اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا، قال: فأرني، فرددت إليه الإناء، فحَمَد الله عز وجل وشرب منه)).

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدّث بالحديث أو سأل عن الأمر كرره ثلاثًا ليفهم ويُفهم عنه.

وعن جابر بن عبد الله قال: ((قفلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة، فتعجّلت على بعير لي قطوف، فلحقني راكب من خلفي فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راءٍ من الإبل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يعجلك؟ قلت: كنت حديث عهد بعرس، قال: أبكرًا أم ثيبًا؟ قلت: ثيبًا، قال: فهلّا جارية تلاعبها وتلاعبك، قال: فلما ذهبنا لندخل قال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا -أي: عشاء- لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة)).

وغيرها من المواقف والأحاديث التي تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على أصحابه واهتمامه بهم، وتفقده لأحوالهم برغم ما كان من ضيق وقته وكثرة أشغاله صلى الله عليه وسلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 214