الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس
(بدء الوحي، وبداية الدعوة السرية)
بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وفترته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه واتبع هداه، وبعد:
لقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ونزول صدر سورة اقرأ نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الاعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، طريق الله المستقيم المؤدي إلى النجاة في الدنيا والآخرة، ويعلق الأستاذ العقاد على ذلك بقوله:"لقد تحوّل خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط، وكما لم يتحول من بعد أيضًا".
وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق، وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان، ولا تطمسها الأحداث، وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه السورة، ولم يجئ بعده تصور، في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعًا، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية.
ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض، وتبينت خطوطه ومعالمه؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، لا غموض ولا إبهام، إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد.
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة، الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد، والذي كان فرقانًا في تاريخ البشرية لا في تاريخ أمة ولا جيل، والذي سجلته جنبات الوجود كله، وهي تتجاوب به وسجّله الضمير الإنساني، وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها، وأن يذكر دائمًا أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان.
أيقن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله بعد أن نُقشت تلك الآيات من سورة اقرأ في صدره، وبعد حديث ورقة بن نوفل له، وازداد يقينه بعد نزول الآيات الأولى من سورة المدثر، فقد روى جابر بن عبد الله الأنصاري وهو يحدِّث النبي صلى الله عليه وسلم عن فترة الوحي فقال في حديثه:((بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر*قُمْ فَأَنذِر} (المدَّثر: 2) إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} (المدَّثر: 5) فحمي الوحي وتتابع)).
وهذه الآيات الأولى في سورة المدثر، فيها الأمر من الله سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم بإنذار البشر، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فهي تمثل في حياة محمد صلى الله عليه وسلم حدًّا فاصلًا بين عهدين، عهد ما قبل البعثة الذي يمثل أكثر عمره صلى الله عليه وسلم والذي لم يكن فيه مكلفًا من الله تعالى بشيء، وعهد ما بين البعثة الذي يمثل أخطر وأصعب مرحلة في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مرحلة تغيير طريق البشرية، وهي مرحلة خطيرة عندما نتصورها بكل أبعادها، فها هي الأوامر الربانية تأمره صلى الله عليه وسلم أن يترك عهد النوم، وأن يشمّر عن ساعد الجد، ليس لتغيير عقيدة قومه فحسب، بل لتغيير مسار البشرية بأكمله، ونقل تلك البشرية من طريق الهلاك والردى الذي كانت تتردى فيه، إلى طريق النجاة الذي يؤدي إلى سعادة الدنيا، والنجاة العظمى في الآخرة.
وهذه المهمة وهذا التكليف الإلهي لم يكن يسيرًا، بل كانت دونه من الصعوبات والأخطار ما لا يستطيعه أحد سوى محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله تعالى لهذه المهمة الشاقة، ونجح فيها -كما يشهد التاريخ- أيما نجاح، ووضع البشرية على الطريق الصحيح، وأوضح لها السبيل الحق وأنار لها الطريق، ولم يعد لفرد أو جماعة أو فئة عذر في تنكب طريق الحق، والزيغ عن الهدى والنور.
فترة الوحي:
واطمأن محمد صلى الله عليه وسلم لصدق ما رأى وما سمع، وتيقن أن الذي كان يأتيه هو وحي الله، وتأكد أنه فاز بذلك فوزًا عظيمًا، وحتى يستوعب كل ما رأى وتهدأ نفسه فترَ الوحي، وانقطع عنه جبريل عليه السلام، فمكث صلى الله عليه وسلم أيامًا لا يرى جبريل، فحزن حزنًا شديدًا، وأخذ يدور بسببه بين رؤوس الجبال عساه يراه ويحدثه، والمدة التي انقطع فيها الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتفق عليها المؤرخون، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يومًا؛ ليشتد شوق الرسول للوحي، وقد كان.
فإن الحال اشتد به عليه الصلاة والسلام حتى صار كل ما أتى ذروة جبل بدا له أنه يرمي نفسه منها، حذرًا من قطيعة الله له، بعد أن أراه نعمته الكبرى، وهي اختياره لأن يكون واسطة بينه وبين خلقه، فيتبدى له الملك قائلًا: أنت رسول الله حقًّا، فيطمئن خاطره ويرجع عما عزم إليه، حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين، فعاد إليه الوحي.
فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه: وفتر الوحي فترة، حزن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا؛ كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
هذا وإن قصة عزمه عليه الصلاة والسلام على أن يرمي نفسه من ذرى الجبال، على الرغم من ورودها في البخاري، إلا أنها ليست على شرط الصحيح؛ لأنها من البلاغات، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يُخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي، الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.
ولو أن هذه الرواية كانت صحيحة لأولناها تأويلًا مقبولًا، أما هي على هذه الحالة فلا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مخرج لها، والتعليل الصحيح لكثرة غشيانه صلى الله عليه وسلم في مدة الفترة رؤوس الجبال، أن الإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان، فإنه يحب هذا المكان ويلتمس منه ما افتقده، فلما انقطع الوحي صار صلى الله عليه وسلم يكثر من ارتياد قمم الجبال -ولا سيما حراء-؛ رجاء أنه إن لم يجد جبريل في حراء فيجده في غيره.
وليس أدل على ضعف رواية رغبته في الانتحار، من أن جبريل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم كلما أوفى بذروة جبل: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا، وأنه كرر ذلك مرارًا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وصرفه عما حدثته به نفسه، كما زعموا.
عودة الوحي:
قال ابن حجر: "وكان ذلك -أي: انقطاع الوحي أيامًا- ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العَود، فلما حصل له ذلك، وأخذ يرتقب مجيء الوحي أكرمه الله بالوحي مرة ثانية".
قال صلى الله عليه وسلم: ((جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جِواري هبطت، فلما استبطنت الوادي فنوديت فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئًا، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئا، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثْت منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض، فأتيت خديجة فقلت: زملوني زملوني -أي: دثروني- وصبوا علي ماء باردًا. قال: فدثَّروني وصبوا عليَّ ماء باردًا فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر*قُمْ فَأَنذِر*وَرَبَّكَ فَكَبِّر*وَثِيَابَكَ فَطَهِّر*وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} (المدَّثر:1 - 5) وذلك قبل أن تفرض الصلاة)).
ثم حمي الوحي بعد، وتتابع، وهذه الآيات هي مبدأ رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحي، وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه:
النوع الأول: تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير، وذلك في قوله تعالى:{قم فأنذر} فإن معناه حذِّر الناس من عذاب الله، إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغي والضلال، وعبادة غير الله تعالى، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق والأفعال.
النوع الثاني: تكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى على ذاته، والالتزام بها في نفسه ليحرز بذلك مرضاة الله، ويصير أسوة حسنة لمن آمن به، وذلك في بقية الآيات، فقوله:{وثيابك فطهر} الظاهر منه تطهير الثياب والجسد؛ إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجسًا مستقذرًا، وإذا كان هذا التطهر مطلوبًا، فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس الأعمال والأخلاق أولى بالطلب.
وقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} معناه: ابتعِد عن أسباب سخط الله وعذابه، وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته. وقوله:{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِر} أي: لا تحسن إحسانًا تريد أجره من الناس، أو تريد له جزاء أفضل في هذه الدنيا.
أما الآية الأخيرة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه، حين يفارقهم في الدين، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده، وبتحذيرهم من عذابه وبطشه فقال:{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر} .
ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي، في صوت الكبير المتعال، بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء، إلى الجهاد والكفاح والمشقة. {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر*قُمْ فَأَنذِر} كأنه قيل: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي يحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم، وما لك والراحة، وما لك والفراش الدافئ والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟! قم للأمر