الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8). وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر؛ وتتجلى هذه السماحة بعد ذلك في مواقف كثير من الأئمة والفقهاء في الدفاع عن أهل الذمة واعتبار أعراضهم وحرماتهم كحرمات المسلمين.
ونكتفي هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي شارحًا بها معنى البر الذي أمر الله به المسلمين في شأنهم؛ فذكر من ذلك: الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار، وعن قدرة على إزالته لطفًا منا بهم لا خوفًا ولا تطيعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم: إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم إلى جميع حقوقهم.
الأساس الفكري لتسامح المسلمين، وتبليغ الدعوة لغير المسلمين
الأساس الفكري لتسامح المسلمين:
- وأساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم، وأهمها:
1 -
اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيًّا كان دينه أو جنسه أو لونه، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية.
ومن الأمثلة العملية: ما ذكرناه من قبل: وهو ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله: "أن جنازة مرت على النبي صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفًا؛ فقيل له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي فقال:((أليست نفسًا)). بلى ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكانة؛ فما أروع الموقف وما أروع التفسير والتعليل.
2 -
اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع -بمشيئة الله تعالى- الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية والاختيار فيما يفعل ويدع: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29){وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118)، والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب؛ كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة.
3 -
وليس المسلم مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم؛ فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا؛ إنما حسابهم إلى الله في يوم الحساب وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين؛ قال تعالى:{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج: 68، 69) يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى: 15) وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر وبين مطالبته ببره والإقساط إليه، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد.
4 -
إيمان المسلم بأن الله تعالى يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم، ويعاقب الظالمين ولو كان الظلم من مسلم لكافر؛ قال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) وقال صلى الله عليه وسلم:
((دعوة المظلوم -وإن كان كافرًا- ليس دونها حجاب)) قال صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المظلوم ليس دونها حجاب)).
شهادة التاريخ:
وقد حفل الواقع التاريخي للأمة الإسلامية في مختلف عصورها وشتى أقدارها بأروع مظاهر التسامح الذي لا يزال الناس يتطلعون إليه إلى اليوم في معظم بقاع الأرض؛ فلا يجدونه، وهذه معاملة المسلمين في العصرين الأموي والعباسي لغير المسلمين من أهل الذمة:
أما في العصر الأموي؛ فأكتفي بنقل هذه السطور من كتاب (قصة الحضارة) لـ"وول ديورانت" يقول: لقد كان أهل الذمة المسيحيون الزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام؛ فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير.
ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ والأرقاء والشيوخ والعجزة والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل: لا يُقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها:2.5% المائة من الدخل السنوي.
وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية؛ ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانينهم.
أما العصر العباسي -عصر ازدهار الحضارة الإسلامية- ومكانة أهل الذمة فيه؛ فيكفينا مؤنة الحديث فيه صفحة أخرى ننقلها من كتاب (الإسلام وأهل الذمة) للدكتور الخربطلي؛ لأنه يعتمد فيما يقرره على المراجع التاريخية الأساسية، أو على كتابات المستشرقين أنفسهم:
اشتهر بين أهل الذمة في العصر العباسي كثير من العظماء مثل: جرجيس بن يختيشوع، طبيب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وقد وثق الخليفة فيه وأكرمه، ومن هؤلاء: جبرائيل بن يختيشوع، طبيب هارون الرشيد، الذي قال الرشيد عنه: كل من كانت له حاجة إليّ فليخاطب بها جبريل؛ لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني، وكان مرتب الطبيب عشرة آلاف درهم شهريًّا.
واهتم الكُتَّاب المسلمون بالأديان والمذاهب؛ فكان ابن حزم الأندلسي مُلمًّا بالإنجيل واللاهوت المسيحي إلمامًا تامًّا، وألمّ ابن خلدون بالإنجيل والتنظيمات الكنسية وتحدث عن بعضها في مقدمته، وكان القلقشندي يرى ضرورة معرفة الكتاب بأعياد الذميين الدينية.
وذكر المقريزي كثيرًا من التفاصيل عن أعياد النصارى واليهود وتحدث عن فرقهم المختلفة، وذكر أسماء بطارقة الإسكندرية، وتحدث كل من القزويني والمسعودي عن طوائف أهل الذمة؛ نرى هذا واضحًا في كتاب (التنبيه والإشراف) للمسعودي.
واعترف كيرتون بتسامح حكام المسلمين؛ فقال: كان سلوك الحكام المسلمين في الغالب أحسن من القانون المفروض عليهم تنفيذه على الذميين، وليس أدل على ذلك من كثرة استحداث الكنائس وبيوت العبادة في المدن العربية الخالصة، ولم تخلُ دواوين الدولة قط من العمال النصارى واليهود؛ بل إنهم كانوا يتولون في بعض الأحيان أرفع المناصب وأخطرها فاكتنزوا الثروات الضخمة، وتكاثروا وتكاثرت لديهم الأموال الطائلة كما اعتاد المسلمون المساهمة في الأعياد المسيحية.
تبليغ الدعوة لغير المسلمين:
دعوة غير المسلمين إلى الإسلام إما أن تكون في الداخل أو الخارج؛ فدعوة غير المسلمين الذين يعيشون في بلاد الإسلام تكون من خلال المعاملة الطيبة؛ بحيث يشعرون أن الإسلام هو الذي يحث المسلمين على ذلك، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى؛ على المسلمين، وخصوصًا الدعاة منهم، أن يكونوا قدوة طيبة ومثالًا صالحًا لدينهم بأن يتخلقوا بأخلاق الإسلام، وأن يترجموه على أنفسهم ترجمة عملية؛ فيتأثر بهم من يخالطهم من غير المسلمين.
أما دعوة غير المسلمين في البلاد الغير إسلامية؛ فله عدة طرق:
منها:
1 -
استئجار بعض الصحف والمجلات الغربية في هذه الدول؛ بل إنشاء مجلات إسلامية، وخاصة للأطفال، تشرح الإسلام على بساطته وجماله.
2 -
الاتصال بالعلماء والأدباء الغربيين، وإطلاعهم على الإسلام من مصادره ومن منبعيه الفياضين وهما: الكتاب، والسنة.
3 -
تأليف الكتب والنشرات المبسطة، أو الرسائل الصغيرة المبسطة التي تشتمل على حقائق الإسلام، وتترجم إلى لغة الأقوام المراد تبشيرها، ودعوتهم إلى الإسلام؛ بحيث تكون هذه الكتب والنشرات والرسائل موضحة لحقائق الإسلام من ناحية العقيدة، ومن ناحية العبادة، ومن ناحية التكليفات الخاصة بالمجتمع؛ فتكتب باللغات الأوروبية، واليابانية، والإفريقية كلها.
4 -
التعاون مع الغربيين الذين أسلموا لوضع المخططات لنشر الإسلام، والاستعانة بهم في نشر الدعوة إلى الإسلام بين قومهم.
5 -
إنشاء المعاهد الإسلامية في البلاد التي يتوجه إليها الدعاة الإسلاميون، وأن تكون مزودة بتفسيرات من القرآن الكريم بلغة تلك البلاد؛ وكذلك بتفسيرات من الأحاديث النبوية بتلك اللغات أيضًا.
6 -
تقوية الإذاعات العربية لإيصال الإسلام إلى أسماع جميع الغربيين بأساليب حديثة ومشرقة.
7 -
إعلام الغربيين بما جاء في كتابهم من تحريف وتناقض ومعوقات عن التقدم والرقي، وما جاء في كتبهم من توحيد الإله، ونبوة المسيح، وبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
8 -
إفهام الدول الشيوعية بأن الإسلام ليس أفيونًا للجماهير -كما زعم لهم الزاعمون- بدليل أن مسيو جارودي -وهو شيوعي فرنسي- عاش ردحًا من الزمن في جبهة التحرير الجزائرية؛ اعترف بأن الدين الإسلامي هو الذي أوقد شرارة هذا الكفاح العزيز الغالي، وغذاها على مدى الأيام والسنين، وأن الإسلام يستحيل أن يوصف بأنه مخدر للشعوب.
9 -
الاستعانة بالسينما والمسرح لعرض التمثيليات الإسلامية، بعيدًا عن شخصيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والصحابة -رضوان الله عليهم- بعد مراجعتها من الجهات الدينية المختصة.
10 -
لا بد أن ينتظم طرق الدعوة إلى الإسلام: الدافع الديني للدعوة؛ لأنه -لا شك- هو الأساس قبل التنظيم وقبل الهيئات التي تنظم هذه الدعاية إلى الإسلام؛ فلا بد من الإيمان الصادق؛ وإذا لم يوجد هذا الانبعاث فلا يمكن أن ينجح أي تنظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.