الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلسانه حينما يسأل عن ذلك، ولم يعلم المسلمون بإسلامه في المدينة إلّا يوم موته، عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم حين نعاه إلى المسلمين، وصلى عليه صلاة الجنازة.
إنَّ حاكمًا لم يجرؤ على إعلان عقيدته أمام شعبه لا يصلح هو أن يحوّل هذا البلد إلى إقليم للدولة الإسلامية، ولا محضنًا للدعوة الإسلامية، يسيّر الجيوش لخدمتها ونشرها، والمحافظة على دعاتها.
3 -
إنّ للبطارقة نفوذًا ملموسًا في الدولة، وهذا النفوذ يعادي الإسلام ويعادي التوحيد، بل هو متضامن كما علمت مع المشركين.
مرحلة ما بعد وفاة أبي طالب والسيدة خديجة، والرحلة إلى الطائف
مرحلة ما بعد وفاة عمه أبي طالب والسيدة خديجة، وما تبع ذلك من مزيد من الاضطهاد للدعوة:
لقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات من الجهاد والصبر والثبات على المبدأ في مكة، لم تلن له قناة، ولم تلن له عريكة، يدعو إلى الله على بصيرة، وكان يؤازره في هذه الفترة عمه أبو طالب، فقد وقف بجانبه، يدافع عنه، ويصد عنه كل عدوان، ويشاركه في تحمل الأذى من المشركين في مكة.
وقد علمتَ في خبر المقاطعة كيف انضمَّ أبو طالب وبنو هاشم مؤمنهم وكافرهم إلى شِعب أبي طالب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع المؤمنين ثلاث سنوات، يتحملون شظف العيش وقسوته، وقد تعاهدت قريش على مقاطعتهم جميعًا، حتى جاعوا جوعًا شديدًا، فأكلوا أوراق الشجر، وتقرحت أشداقهم، وكان أبو
طالب يخشى على الرسول صلى الله عليه وسلم من القتل، فكان يخفي مكان نومه كل ليلة، ويحرسه هو وأقرباؤه.
لقد مرِضَ أبو طالب في العام العاشر من البعثة، وشعر الرسول صلى الله عليه وسلم بدنوّ أجل أبي طالب، وحاول جاهدًا أن يدخل أبو طالب الإسلام، فدعاه إلى الإيمان بالله، وأن يشهد شهادة الحق وشهادة التوحيد؛ حتى يشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه بها، وألحّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فأبى استكبارًا وحمية جاهلية، خشية أن يعيّر بأنه ترك دين آبائه وأجداده، واتبع دين الحق والاستقامة والخير، ومات على الكفر، فكان حطبًا لنار جهنم، وكان في ضحضاح من النار.
بهذا جاءت الأخبار الصحيحة، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بإسناده، عن ابن المسيب، عن أبيه، أن أبا طالب لمَّا حضرته الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، فقال:((أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنه))، فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113)، ونزلت:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص: 56).
مما يجدر ذكره أنَّ أبا طالب ظلَّ يحامي ويدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، ومع ذلك كله فقد علمت أنَّ الوحي أخبر بمصيره النار وبئس المصير، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه، بإسناده إلى العباس بن عبد المطلب، أخي أبي طالب، أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم:((ما أغنيت عن عمك، فوالله كان يحوطك ويغضب لك، قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)).
وبعد موت أبي طالب بقليل من الأيام توفّيت زوج الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، أم المؤمنين، وسيدة نساء أهل الجنة في الجنة، وقد وقفت بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنت برسالته، بل هي أول من آمن من الناس بهذا الدين، وشدت من روْع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواسته بمالها ورجاحة عقلها، تخفف ما يجد من عنت المشركين، وتهدئ من روعه، وهي تقول له وقد أخبرها أنه خائف على نفسه:"كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر".
لقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم على فراق عمه أبي طالب؛ لما علمت من دفاعه عنه إذا اشتدت قريش في إيذائه، حتى قال:((ما نالت قريش مني شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب))، وحزن أيضًا في هذا العام حزنًا شديدًا لموت زوجه خديجة؛ حتى سمى هذا العام بعام الحزن، وكان ذلك في العام العاشر من البعثة.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثير الذكر لها بعد موتها، يثني عليها، ويستغفر لها، حتى كان ذلك يؤجّج نار الغيرة في قلب عائشة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة، لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يومًا، فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوّضك الله عن كبيرة السن، قالت: فرأيته غضب غضبًا، سقطت في خلدي البال والقلب والنظرة وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلمّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: كيف قلت؟! والله لقد آمنت بي إذ كذَّبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورُزقت منها الولد وحرمتموه مني)).
إن مما لا شك فيه أنَّ موت أبي طالب كان محزنًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد حزنًا له موت زوجه خديجة رضي الله عنها؛ لما قدّمه أبو طالب وقدمته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
أمَّا أبو طالب فقد حدثتنا كتب السيرة والسنة عن جهوده لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: ما قاله ابن إسحاق: وكان له عضدًا وحرزًا في أمره، ومنعة وناصرًا على قومه. وأمَّا خديجة رضي الله عنها فقد كانت له وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها وتخفف مصابه، وتسري عنه، وهذا الحزن له أسباب أخرى، وهو ما تَبِع موتها من طمع الأعداء في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وضعف الاستجابة له ولدعوته في هذه الفترة، التي تلت الوفاة، بل لقد سُدّت السبل في وجهه في مكة وفي خارج مكة، وهذا ولا شك يحزنه حزنًا شديدًا.
لقد امتدت أيدي السفهاء لتخنقه وهو يصلي في ظل الكعبة، وقام سفيه آخر بنثر التراب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته، فجعلت تغسل التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها:((لا تبكِ يا بنية، فإن الله مانع أباك)).
هذا الصدّ والأذى كان في مكة، وكان في الطائف، وكان في كل مكان يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ليبلّغ دعوة ربه عز وجل، ويطلب النصرة، وقد كان من ثقيف من الصدِّ والأذى ما هو أشد على نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
إنَّ الأحداث التي جرت بعد الوفاة كان لها أثر أشدّ على نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فأحزنته حزنًا شديدًا، وقد نزلت سورة هود بعد عام الحزن بقليلٍ، تواسي الرسول صلى الله عليه وسلم عمّا أصابه، وعمَّا واجهه من غطرسة القريب والبعيد، وتحدد رسالته ومهمته بالنذارة والإنذار، قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود: 12).
لقد وضَّحت الآية الضيق النفسي الذي كان يجده في هذه الفترة من مضايقة هؤلاء الكفار.
رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
تروي كتب السنة والسيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ماتت زوجته، ومات عمه أبو طالب، الذي كان يدافع عنه وهو على شركه وكفره، ازدادت قريش في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، والتضييق عليه، فتوجّه نحو الطائف؛ حيث تقيم قبيلة ثقيف؛ لعله يجد فيها القبول لدعوته، والنصرة له لتبليغ رسالة ربه، لقد وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، والتقى سادة ثقيف، وهم ثلاثة إخوة، فجلس إليهم، ودعاهم إلى الله، وكلمهم في نصرة الإسلام، والقيام معه على من خالفه، فردوا عليه ردًّا قبيحًا، بين ساخر منه ومتهكم عليه، وبين مكذّب له وممتنع عن كلامه؛ إذ قال أحدهم: هو يمرط ستار الكعبة إن كان أرسله الله رسولًا. وقال الثاني: أما وجد الله أحدًا أرسله غيرك. وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا لئن كنت رسولًا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.
ومكثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقيف يبلّغ رسالة ربه، فما آمن معه أحد على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي، فأراد أن يعود إلى مكة، وطلب منهم أن يكتموا خبره عن قريش؛ حتى لا يشمتوا به، ولا يتجرءوا على إيذائه، ففعلوا عكس ما طلب منهم، وأمعنوا في إيذائه، فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلمَّا مرَّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعها إلّا رضخوها بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان بالدماء.
هذا، وبالله التوفيق.