المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أساليب المشركين المتنوعة في إجهاض الدعوة - أصول الدعوة وطرقها ٣ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌حقيقة مذهب السلف في الإيمان بالقدر، والنصوص الدالة عليه

- ‌تعريفات القضاء والقدر، والفرق بينهما

- ‌أدلة وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌الدرس: 2 تابع الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌أقسام القدر، وحكم التكذيب به

- ‌الاحتجاجُ بالقدر لترك الواجبات وفعل المعاصي احتجاجٌ باطلٌ

- ‌أثر الإيمان بالقدر على المسلم

- ‌الدرس: 3 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (1)

- ‌أهداف دراسة السيرة النبوية، والبيئة التي نشأت فيها الدعوة

- ‌الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بأعباء الدعوة

- ‌دلائل النبوة في مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 4 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (2)

- ‌عصمة الله رسولَه صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية

- ‌الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سن الخامسة والعشرين حتى بلوغه الأربعين

- ‌الدرس: 5 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (3)

- ‌حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي

- ‌حال النبي عند نزول الوحي عليه، وصور ذلك الوحي

- ‌حديث بدء الوحي وما فيه من الفوائد

- ‌الدرس: 6 بدء الوحي، وبداية الدعوة السرية

- ‌بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وفترته

- ‌مرحلة الدعوة السرية

- ‌الدرس: 7 دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

- ‌أساليب المشركين المتنوعة في إجهاض الدعوة

- ‌السخرية والتكذيب، وصد الناس عن الدعوة، والاعتداء، والمطالب التعجيزية

- ‌الدرس: 8 تابع دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

- ‌الهجرة إلى الحبشة، وما يستفاد منها

- ‌مرحلة ما بعد وفاة أبي طالب والسيدة خديجة، والرحلة إلى الطائف

- ‌الدرس: 9 دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة

- ‌المسلمون يبدءون الهجرة إلى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية

- ‌الإعداد والتخطيط للهجرة، والدروس المستفادة منها

- ‌الدرس: 10 تابع دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة

- ‌تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة إلى المدينة

- ‌نتائج الهجرة

- ‌ملامح شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 11 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تريبة أصحابه

- ‌تربية الصحابة على أخلاق الإسلام السامية

- ‌وُدُّ النبي صلى الله عليه وسلم ووفاؤه، وتفقُّد أحوال أصحابه، وكرمه

- ‌غضبه صلى الله عليه وسلم وشدته في الحق

- ‌الدرس: 12 تابع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تريبة أصحابه

- ‌أثر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

- ‌تأليف قلوب الصحابه واستمالتهم، والاهتمام بأمرهم، وتفقد أحوالهم، وقضاء حوائجهم

- ‌الدرس: 13 تعريف بالمدعو وبيان حقوقه وواجباته، وسنة الاختلاف

- ‌التعريف بالمدعو، وبيان حقوقه وواجباته

- ‌سنة الاختلاف، والاختلاف فى علم الفقه، والاختلاف بين الصحابة

- ‌الدرس: 14 أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم، والدعوة على الوجه الأمثل

- ‌أصناف المدعوين: الملأ، وجمهور الناس، والمنافقون، والعصاة

- ‌تنوع الخطاب الدعوي وفق أحوال المدعوّين

- ‌أحوال الدعوة في الأقطار الإسلامية، وكيف تكون الدعوة على الوجه الأمثل

- ‌الدرس: 15 معاملة غير المسلمين وكيف يدعون إلى الإسلام

- ‌القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في دار الإسلام

- ‌الأساس الفكري لتسامح المسلمين، وتبليغ الدعوة لغير المسلمين

- ‌الدرس: 16 أساليب الإقناع والتأثير النفسي: الخطابة

- ‌الخطابة: تعريفها، وقيمتها، وتاريخها، ومكانتها في العصر الجاهلي

- ‌خصائص الخطابة في العصر الجاهلي وأغراضها

- ‌الدرس: 17 بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأثرها في الخطابة

- ‌أثر القرآن في بلاغة الرسول، وبلوغه صلى الله عليه وسلم الغاية في البيان

- ‌أمور مهمة في وصف بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمثلة من كلامه

- ‌الدرس: 18 من أنواع الخطابة الدينية: خطبة الجمعة

- ‌الجمعة: تعريفها، وفضلها، وسننها، وشروطها، ووقتها، ومن تجب عليهم

- ‌آداب الجمعة

- ‌الدرس: 19 خطبتا العيدين، والخطب الدينية في موسم الحج

- ‌صفة صلاة العيد وكيفيتها

- ‌الخطب الدينية في موسم الحج

- ‌شروط وجوب الحج، وصحة أركانه، وواجباته ومحظوراته

- ‌الدرس: 20 تابع الخطب الدينية في موسم الحج

- ‌بيان بعض أحكام الحج

- ‌ركوب الطائف، وسنن الوقوف بعرفة، والدفع إلى منى

- ‌الدرس: 21 من أساليب الإقناع العقلي ووسائله

- ‌الجدل

- ‌المحاجة، والمناظرة، والمحاضرة، والندوة، والدرس الديني

الفصل: ‌أساليب المشركين المتنوعة في إجهاض الدعوة

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السابع

(دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

‌أساليب المشركين المتنوعة في إجهاض الدعوة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:

أسلوب التهديد والمساومة والإغراء:

حاول الكفار مرات عديدة أن يتعاون معهم محمد صلى الله عليه وسلم في خلط الإسلام بالكفر؛ ليكونا سويًا دينًا خليطًا من هذا وذاك، وأن يعبدوا الله يومًا ويعبد محمد أصنامهم يومًا آخر وهكذا.

يروي ابن إسحاق بسنده أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، اعترضوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة وقالوا له: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 1 - 6). فكانت المفاصلة الكاملة بين الإيمان والكفر.

المقاطعة العامة:

لما رأى كفار مكة أن بني هاشم وبني المطلب تواثقوا وتعاهدوا جميعًا، على حماية محمد صلى الله عليه وسلم عملوا على مقاطعتهم وعدم التعامل معهم مطلقًا، وتحالفوا على ألا يجالسوهم، ولا يبيعونهم ولا يشترون منهم، ولا يدخلون بيوتهم، ولا

ص: 115

يكلمونهم، ولا يتزوجون منهم ولا يزوّجوهم، حتى يسلِّموا محمدًا صلى الله عليه وسلم لقتله والانتهاء من أمره.

وكتبوا بذلك ميثاقًا علقوه في جوف الكعبة، واستمرت المقاطعة ثلاث سنوات، واشتد الأمر على بني هاشم وبني المطلب، حتى أكلوا ورق الشجر، وحوصروا في شِعبهم ولا يخرجون منه إلا في الأشهر الحرم، للتعامل مع وفود الحج والعمرة، وكان أهل مكة يزايدون عليهم لحرمانهم من كل خير، حيث منعوا أن يتصل بهم أحد من القبائل البعيدة عن مكة، وكانوا إذا رأوا تجارة قادمة سارعوا بشرائها، قبل أن تصل إلى المحاصرين في الشعب، مبالغين في ثمنها، ودام الحال على ذلك، حتى قضى الله بنقض المقاطعة وتمزيق الميثاق المكتوب.

ما يستفاد من المقاطعة:

أولًا: أغيظ ما يغيظ الكفار انتشار الإسلام بين الناس؛ لأن هذا يدل على انحسار الكفر واندحاره في مستقبل الأيام.

ثانيًا: أن أهل الباطل حين يعجزون عن مقارعة الحجة بالحجة، ومواجهة الفكرة بالفكرة، يلجئون إلى أسلوب التصفية، وسفك دماء الذين يخالفونهم في التوجيه والفكر والعقيدة؛ ظنًّا منهم أن بقتلهم تقتل دعواتهم وتموت مبادئهم، وهذا وهْم باطل وظن كاذب، أثبت الواقع كذبه وبطلانه.

ثالثًا: إن هذا الخبر يدلنا على الحالة النفسية التي يعاني منها معسكر الكفر، هذه المعاني تدل على انهيار في الروح المعنوية، وهم يرون الإسلام يزحف، والكفر يتراجع، ومصيرهم مهدد.

ص: 116

رابعًا: صلة النبي صلى الله عليه وسلم بأقاربه وعشيرته، وكذلك المسلمون من بني هاشم، كانت حسنة، فتعاطفوا معهم ونصروهم، مع أنهم ليسوا على دينهم، ويمكن للداعية أن يحسِن علاقته مع عشيرته دون أن يخالف شرع الله وحكمه، ويستفيد من حسن الصلة بهم في خدمة دعوته، ونشر فكرته، وتوفير الحماية له من أعدائه.

خامسًا: إن وسيلة الضغط على هؤلاء المسلمين، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المتعاطفين معهم -كانت مؤلمة، إنها المقاطعة العامة في البيع والأخذ والعطاء، حتى جاعوا جوعًا شديدًا فأكلوا ورق الشجر على قِلته، وتقرحت أشداقهم، إلا أن الثبات والصبر على المبدأ، وقوة إيمان المسلمين ثبتتهم أمام هذه المقاطعة العامة، حتى كان الرجل يعود إلى أطفاله ليس في يده شيء يطعمهم إياه، فترتفع عقيرتهم بكاء من شدة الجوع الذي يعانون منه.

سادسًا: لقد سخّر الله تبارك وتعالى من الكافرين من يقف بجانب المسلمين، ويتعاطف معهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم، ويقدّم لهم يد العون والمساعدة سرًّا، فكان هشام بن عمرو يأتي بالبعير إلى الشِّعب ليلًا، وقد حمله طعامًا وتارة ثيابًا، ويدفعه إلى المحاصرين المقاطعين.

سابعًا: قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة والمعجزات الخارقة، لا يؤثر في أصحاب الهوى وعبدة المصالح والمنافع؛ لأنهم يلغون عقولهم، ويغلقون قلوبهم وعقولهم عن التدبير، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر والتأمل والاهتداء إلى الحق، بعد قيام الأدلة عليهم.

فلقد أخبرهم أبو طالب بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للصحيفة من أكل الأرضة لها، وبقاء اسم الله فقط: باسمك اللهم، ورأوا ذلك بأم أعينهم، فما آمن منهم أحد؛ إنه الهوى الذي يصد عن اتباع الحق، ويصم الآذان عن سماعه.

ص: 117

ثامنًا: الشدائد لا تؤثر في عزائم أصحاب المبادئ والإيمان والقيم الإسلامية، لقد خرج المسلمون من هذه المحنة -على قساوتها وشدتها- أقوى، لا تلين لهم قناة ولا تهون لهم عزيمة، لقد استمروا في ثباتهم على طريق الهدى والتقى، والإصرار على محاربة الشرك، ومطاردته والقضاء عليه.

التشكيك في القرآن الكريم وإثارة الشبهات:

فقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه، بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن: أضغاث أحلام يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون: بل افتراه من عند نفسه، ويقولون: إنما يعلمه بشر، وقالوا:{إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} ، أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، وأحيانًا قالوا: إن له جنًّا أو شيطانًا يتنزل عليه، كما ينزل الجن والشياطين على الكهان. قال تعالى ردًّا عليهم:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الشعراء: 221، 222) أي أنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب، وما جربتم عليَّ كذبًا، وما وجدتم فيَّ فسقًا، فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشياطين؟!

وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مصاب بنوع من الجنون، فهو يتخيل المعاني، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة، كما يصيغ الشعراء، فهو شاعر وكلامه شعر. قال تعالى ردًّا عليهم:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 224 - 226).

فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء، ليست واحدة منها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالذين اتبعوه هداة مهتدون متقون صالحون، في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم،

ص: 118

وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد ودين واحد وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء، وأين الشعر والشعراء منه؟!

هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام، ومعظم شبهاتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية، وبيَّن عجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه.

أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم، فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته ودعا إلى الإيمان به تحيروا، وقالوا:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} وقالوا: إن محمدًا بشر، {مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ، فقال تعالى ردًّا عليهم:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} (الأنعام: 91) وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر، ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم -إنكارًا على رسالتهم:{إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} ، فـ {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} .

فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلًا

ص: 119

وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهم هذه، فقالوا: ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين؟! ما كان الله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا، {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}. قال تعالى ردًّا عليهم:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} (الزخرف: 32) يعني بأن الوحي والرسالة رحمة من الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا: إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يدفع إلى الأسواق للقمة عيش وهو يدعي أنه رسول الله {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (الفرقان: 7، 8).

ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًا رسول الله، يعني أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوي، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم، حتى يستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة ولم تكن لها فائدة تذكر.

أما إنكارهم البعث بعد الموت؛ فلم يكن لهم عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} (الصافات: 16، 17) وكانوا يقولون: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: 3) وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (سبأ: 7، 8).

ص: 120

وقال قائلهم:

أموت ثم بعث ثم حشر

حديث خرافة يا أم عمرو

وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجري في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاءه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسيء يموت قبل أن يعاقَب على سوء عمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير مقبول إطلاقًا.

ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد. قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم: 35، 36) وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) وأما الاستبعاد العقلي فقال تعالى ردًّا عليه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} (النازعات: 27) وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف: 33) وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} (الواقعة: 62).

وبيَّن ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهو أن الإعادة أهون عليه، وقال:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (الأنبياء: 104) وقال سبحانه: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (ق: 15).

وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذي عقل ولُب، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين، يريدون علوًّا في الأرض، وفرض رأيهم على الخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون.

ص: 121