الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سن الخامسة والعشرين حتى بلوغه الأربعين
سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام للتجارة في مال خديجة رضي الله عنها:
ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمسًا وعشرين سنة سافر إلى الشام المرة الثانية، وذلك للتجارة في مال خديجة رضي الله عنها. قال ابن إسحاق:"وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه- بعثت إليه فعرضت إليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدما الشام".
وكانت هذه الرحلة موفقة حيث باعا وابتاعا وربحا ربحًا عظيمًا، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حببه في قلب ميسرة غلام خديجة.
ومن البركات والإرهاصات التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة أنه نزل في ظل شجرة، قريبًا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال له:"من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش، من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي". ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلًا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة -فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة
على خديجة بمالها باعت ما جاء به بأضعف أو قريبًا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه.
زواج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها:
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام إلى مكة رأت خديجة رضي الله عنها في مالها من الأمانة والبركة، ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه من خِلَالٍ عذبة وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة، وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبى عليهم ذلك، فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه تفاتحه أن يتزوج خديجة فرضي بذلك صلى الله عليه وسلم وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج.
وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
ما يستفاد من تجارته صلى الله عليه وسلم في مال خديجة وزواجه منها:
أولًا: الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح:
إن التاجر الصادق الأمين لا يغش ولا يخدع ولا يدلس ولا يكذب؛ لأن هذه الصفات والأفعال تتناقض تمام التناقض مع الأمانة، وإذا عرف الناس عن هذا التاجر الأمانة ومحاربته للخداع والخيانة- أقبلوا عليه مطمئنين يتعاملون معه إذا كانوا أصحاب أموال، كخديجة رضي الله عنها أعطوه أموالهم ليضارب لهم بها، أو استأجروه في تجارتهم وأمِنوه على أموالهم، وأجزلوا له في سهمه من الربح.
وإذا كان الناس ليسوا أصحاب أموال -وإنما هم من المستهلكين- أقبلوا عليه يشترون منه ويبيعونه بثقة لأمانته وصدقه، وصفة الأمانة والصدق في التجارة عند محمد صلى الله عليه وسلم هي التي رغبت خديجة في أن تعطيه مالها؛ ليتاجر به ويسافر به إلى الشام، فوُفقت في ذلك توفيقًا لم توفق مثل هذا التوفيق مع غيره صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: التجارة مورد من موارد الرزق، التي سخرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة:
وكان يدربه على فنون التجارة عمه أبو طالب، فقد سافر معه وتعرف على تجار الشام، والبضائع الرائجة عند أهل الشام، والبضائع الرائجة عند أهل مكة، والتاجر الصدوق الأمين في هذا الدِّين يُحشر مع الصديقين والشهداء والنبيين، وهي تدل على دين الرجل وأمانته، فإن التعامل بالدينار والدرهم يعرف به دِين الرجل، فإما الوفاء والصدق، وإما المماطلة والمراوغة، ومن ثم ولوغ الناس في عرضه وتشويه سمعته.
وهذه المهنة تقع ضمن المهن الحرة التي لا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين، واستعبادهم وقهرهم وإذلالهم.
ثالثًا: زواج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة كان بتقدير الله:
ولقد اختار الله لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل رسالته، بالوقوف في جانبه وتأييده، فلقد بذلت مالها كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد آمنت به وكفر الناس، وصدقته حين كذبه الناس، ولقد شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:((لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد ولم يرزقني من غيرها)).
ذكر بناء الكعبة، وما فيه من الكرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمسًا وثلاثين سنة جاء سيل جارف، وصدع بنيان الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها، فإنها كانت رضية فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك، ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم، فقال لهم الوليد بن المغيرة:"أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المصلحين" وشرع يهدم فاتبعوه، وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحمل.
وكان الذي تولى البناء نجار رومي اسمه ياقو، وقد خُصص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجر، وبنوا عليه جدارًا قصيرًا علامة على أنه من الكعبة، ولما تم البناء ثمان عشرة ذراعًا، بحيث زِيد فيه عن أصله تسع أذرع، ورُفع الباب عن الأرض بحيث لا يُصعد إليه إلا بدُرج، أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه وتنافسوا في ذلك، حتى كادت تشب بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليال.
وكان أسن رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي، عم خالد بن الوليد، فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكِّموا بينكم من ترضون بحكمه، فقالوا: نكل الأمر لأول داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون عليه الصلاة والسلام، فاطمأن الجميع له لما يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث، وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد؛ لأنهم كانوا يتحاكمون إليه؛ إذ كان لا يداري ولا يماري، فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال:((لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم وضع فيه الحجر، وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه، فأخذه ووضعه فيه)).
وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيرًا ما يكون أمثالها سببًا في انتشار حروب هائلة بين العرب، لولا أن يمنَّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية، ويرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بما يُرضي جميعهم، ولا غرابة أن يشارك النبي صلى الله عليه وسلم قومه ذلك العمل الجليل، وأن يُعرف بينهم بالصادق الأمين، فقد نشأ والله سبحانه وتعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية وأنجاسها؛ لما يريده له من كرامته ورسالته، فما إن أصبح رجلًا حتى أضحى أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وأشهرهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزهًا وتكرمًا، حتى لقبه قومه بالأمين؛ لما جمع الله فيه من الخصال الصالحة.
د- ما يستفاد من قصة الحجر الأسود:
أولًا: الكعبة مكان مقدس عند العرب، وبناؤها وعمارتها شرف يُتنافس عليه في مكة.
ثانيًا: طريقة فض التنازع كانت موفقة ورضي بها الجميع، ويكفي أنها حققت كثيرًا، ويكفي أنها حقنت كثيرًا من الدماء، وأوقفت حروبًا طاحنة ستقوم في الحرم وبين أهل الحرم، ومن ثم فقدان الأمن والأمان فيه للناس أجمعين، وقد عاث أهله فسادًا فيما بينهم، فقتل بعضهم بعضًا وسفك بعضهم دماء بعض، ولو حدث هذا لنفرت الناس من الحرم ومن أهله، ولكن قضت حكمة الله أن يكون هذا الحرم آمنًا، هو ومن يقيم فيه وحوله، ومن يقصده؛ حتى يستمر الناس في تعظيمه، بل إن حرمة سفك دم بريء فيه أشد من حرمته.
ثالثًا: الأمانة صفة محمودة، وصفة عُرف بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين المشركين، فأحبوه لذلك ووثقوا به، وفرحوا بدخوله من باب الصفا، لاتفاقهم على تحكيم أول من يدخل هذا الباب، فلما دخل قالوا: هذا الأمين رضينا به، هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد تعارف هؤلاء على صدقه وأمانته، ولكنهم عندما بعثه الله رسولًا كذبوه واتهموه تهمًا باطلة، فقالوا عنه: كذاب ومجنون وساحر وشاعر وكاهن، وهم يعلمون حق العلم أنه العاقل الأمين الصادق، وصدق الله العظيم إذ يقول:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33).
رابعًا: طريقة الحل كانت عادلة، لقد ألهمه تبارك وتعالى حكمًا رضيت به جميع القبائل؛ لأنه كان حكمًا عادلًا ساوى فيه بين جميع رؤساء القبائل المتنافسة، حتى رفعوه إلى موضع البناء، لقد أسهم هؤلاء المتنافسون بهذا الشرف، ولم تنفرد به قبيلة دون الأخرى، وهذا من توفيق الله لرسوله وتسديده قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: لقد حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة شرفان: شرف فصل الخصومة، ووقف شلال الدماء الذي يتدفق، والله أعلم بزمان توقفه إن حصل، وشرف آخر مهم أيضًا، وهذا الشرف الذي تنافسوا عليه قام به هو، إذ حمل الحجر بيديه الشريفتين، وأخذه من البساط بعد رفعه، ووضعه في مكانه من البيت، وهذا يدل على أنه أحق الناس بهذا البيت وتعظيمه، والمحافظة على أمنه. قال تعالى:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الأنفال: 34).
حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة:
بعدما تزوج محمد صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها لم يعد محتاجًا لمال يسعى لتحصيله، أو ينشغل في العمل من أجل كسبه، فلقد أغناه الله بمال خديجة رضي الله عنها وأغناه كذلك برضا النفس، وهدوء البال، وأغناه بالميل نحو التأمل والتفكير، لذلك نراه صلى الله عليه وسلم يبدأ حياة التأمل، ويتفرغ للتحنث، بعيدًا عن صخب الحياة وضجيج العمل.
وفي فترة ما قبل البعثة عاش محمد صلى الله عليه وسلم وعاش العالم كله مقدمات البعثة، والتي منها كثرة المبشرات.
تمتلئ كتب السيرة والتاريخ بالمبشرات الكونية والإنسانية، التي أشارت إلى قرب ظهور نبي في بلاد العرب، يُبعث للعالم كله لنشر العدل وتحقيق الأمن والسلام، وقد أتت أغلب هذه المبشرات من أحبار اليهود ورهبان النصارى، وكهان العرب.
إن مبشرات أهل الكتاب -من اليهود والنصارى- هي مبشرات صحيحة؛ لشهادة القرآن الكريم، حيث بيَّن الله تعالى بصورة قاطعة معرفة الأحبار والرهبان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتحديد مواصفاته، ومكان ظهوره، وطبيعة رسالته العالمية. يقول الله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146).
ودلالة الآية صريحة في أن أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- يعرفون محمدًا ورسالته معرفة تفصيلية، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتم ما يعرفه.
وإنما شبه معرفتهم له صلى الله عليه وسلم بمعرفتهم بأبنائهم، ولم يشبهه بمعرفتهم بأنفسهم؛ لأن الوالد يعرف ابنه في كل وقت وفي كل حال، وقد يغفل عن نفسه أحيانًا.
قيل لعبد الله بن سلام: "أتعرف محمدًا كما تعرف ابنك؟ قال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه".
لقد كان اليهود في المدينة المنورة يخوِّفون الأوس والخزرج قبل الهجرة، بقرب ظهور نبي، يتبعونه ويتقوون به؛ حتى يتمكنوا من قتل العرب قتل عاد وإرم، الأمر الذي دعا أهل المدينة إلى الإسراع في الدخول في الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يسبقهم اليهود إلى الإيمان به.
يروي ابن إسحاق أن عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه أنهم قالوا: "إن مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله تعالى وهداه لنا- ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يُبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم".
ومما قاله الأحبار ما رواه ابن سعد بسنده عن أبي بن كعب قال: "لما نزل تُبَّع المدينة ونزل بقناة بعث إلى أحبار اليهود وقال لهم: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب، فقال له سامول اليهودي -وهو يومئذ أعلمهم-: أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسرائيل، مولده مكة، اسمه: أحمد، وهذه دار هجرته".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندهم قبيل أن يُبعث، ويعلمون أن دار هجرته بالمدينة".
هذا وبالله التوفيق.