الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(أساليب الإقناع والتأثير النفسي: الخطابة)
الخطابة: تعريفها، وقيمتها، وتاريخها، ومكانتها في العصر الجاهلي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن سلك طريقه، وصار على نهجه، واتبع هداه، وبعد:
تعريف الخطابة:
جاء في (المعجم الوجيز): خطب الناس وفيهم وعليهم خطابة وخطبة: ألقى عليهم خطبة، وجاء معناها في (لسان العرب) و"الخطبة": مصدر الخطيب، وخطب الخاطب على المنبر، ورجل خطيب حسن الخطبة، وجمع الخطيب خطباء خطَب -بالضم- خطابة -بالفتح-: صار خطيبًا، وفي (المصباح المنير): خاطبه مخاطبةً وخطابًا: وهو الكلام بين متكلم وسامع، ومنه اشتقاق الخطبة، وجاء في (مختار الصحاح): خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابًا، وخطب على المنبر خُطبة -بضم الخاء- وخطابة.
تعريف الخطابة عند القدماء:
فقد عرفها أرسطو بقوله: هي القدرة على النظر في كل ما يوصل إلى الإقناع في أي مسألة من المسائل.
وعرفها ابن رشد بقوله: هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة.
وعرفها ابن خلدون: بأنها القياس المفيد في ترغيب الجمهور، وحملهم على المراد منهم، وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات.
تعريف الخطابة عند المحدثين:
فقد عرفها الشيخ محمد أبو زهرة بقوله: الخطابة: صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التصرف في فنون القول؛ لمحاولة التأثير في نفوس السامعين، وحَمْلهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم.
كما عرفها الشيخ علي محفوظ بأنها: ملَكة الاقتدار على الإقناع، واستمالة القلوب، وحمل الغير على ما يراد منه.
وعرفها الدكتور أحمد الحوفي بقوله: هي فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته؛ فلا بد من مشافهة، وإلا كانت كتابة أو شعرًا مدونًا، ولا بد من جمهور يستمع؛ وإلا كان الكلام حديثًا أو وصية؛ ولا بد من الإقناع وذلك بأن يوضح الخطيب رأيه للسامعين ويؤيده بالبراهين؛ ليعتقدوه كما اعتقده، ثم لا بد من الاستمالة، والمراد بها: أن يهيج الخطيب نفوس سامعيه أو يهدئها، ويقبض على زمام عواطفهم يتصرف بها كيف شاءَ؛ سارًّا أو محزنًا، مضحكًا أو مبكيًا، داعيًا إلى الثورة أو إلى السكينة.
وإذن فأسس الخطابة: مشافهة، وجمهور، وإقناع، واستمالة.
ومن السهل بعد ذلك أن يتبين قصور تعريف الخطابة بأنها: فن الكلام الجيد؛ لأن الكلام الجيد ينتظم الخطابة والكتابة والشعر، ومن السهل أيضًا أن نرى نقصًا في تعريفها: بأنها القدرة على النظر في كل ما يوصل إلى الإقناع في أي مسألة من المسائل؛ لأن كثيرًا من الكتب مقنع، وكثيرًا من الكتاب مقنعون؛ لأن الأساتذة في شروحهم ومحاضراتهم مقنعون، وليس واحدًا من هؤلاء خطيبًا؛ لأنهم يتجهون إلى العقل لا إلى العاطفة؛ فهم يقنعون ولكنهم لا يستميلون.
ثم من السهل أن نجد نقصًا في تعريف الخطابة بأنها: فن الاستمالة؛ لأن المنظر الطبيعي الراقي يستميل الذواقين للجمال وليس خطبة، ولأن الممثل البارع
يستميل الأنظار بإشارته أو حركته أو زيه أو وقفته دون أن ينطق؛ فليس بخطيب؛ ولأن البائس العاري الجسد المهلهل الثوب المغضن الوجه المعروق الجسد، قد يستميل المحسن بمنظره هذا، وما هو بخطيب.
قيمتها:
الخطابة منذ كانت سلاح المجتمع الإنساني في سلمه وحربه، وفي ترقيته والإسراع به نحو المثل الأعلى الذي يجب أن يقصد إليه؛ فليس بدعًا أن كانت بلاغ النبيين إلى أممهم، والراح الذي يسكبه القواد في نفوس جنودهم قبيل المعركة؛ فيسرعون باسمين إلى قتال أعدائهم، وغصن الزيتون يلوح به دعاة السلام في عالم كربه العداء والخصام، والقوة الساحرة التي يقود بها الزعماء السياسيون والمصلحون الاجتماعيون أممَهم إلى حياة أرقى وأعز وأبقى، ولسان الأحزاب السياسية تنشر به دعوتها وتظفر به على خصومها، ونورًا يهدي القضاة إلى العدالة وتبرئة المظلوم والقصاص من الباغي، ثم هي -في العصر الحديث خاصة- عدة الزعماء والساسة؛ تستند إليها الديمقراطية وتعتمد عليها الدكتاتورية، ويتسلح بها المؤتمرون في المجامع الدولية، ويصعد عليها النواب إلى قمة الشهرة وذيوع الأحدوثة، ويرتقي بها المحامون إلى الصيت الطائر والثراء الغامر.
تاريخ الخطابة:
لقد نشأت الخطابة منذ وجد الاجتماع البشري على وجه الأرض، منذ اجتمع الناس في مكان واحد، استوطنوه وتفهموا بلسان واحد عرفوا الخطابة؛ لأنه من الطبيعي أن يختلفوا في رأي أو عقيدة، ومن الطبيعي أن يتنافسوا على غنيمة أو متاع أو سلطة؛ فيحاول المتفوق أن يستميل إليه من يخالفونه، وأن يقنعهم؛ فإذا
ما أقنعهم واستمالهم فهو خطيب، وقوله خطبة، ثم إنه من الطبيعي أيضًا أن تنشب أمور تستدعي تعاون المجتمع وتضافر قواه على اجتلاب نفع عام مشترك، أو اتقاء ضير؛ فيتصدر بعض النابهين من هذا المجتمع لقيادة الجماعة وزعامتها، عدتهم في ذلك خطابتهم.
على أن الناس في حياتهم القديمة تسلحوا بأسلحة مادية للدفاع والعدوان، وتسلحوا أيضًا بسلاح معنوي هو اللسان، وما زالت الخطابة -إلى الآن- سلاحًا مرهفًا تتصاول به الأمم، وإن جيَّشت جيوشها وافتنت في اختراع القذائف والمدمرات؛ لذلك لم يخلُ من الخطابة سجل أمة وعى التاريخ ماضيها؛ فقد حفظها خط آشور المسماري، وقيدها خط الفراعنة الهيروغليفي، ثم رواها تاريخ اليونان السياسي والأدبي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبها أخضع "بوذا" الجموع الهندية لتعاليمه، وبها أذاع الدين أنبياء بني إسرائيل، وكان لها مكانها العظيم في مجامع العرب قبل الإسلام وفي أسواقهم الأدبية بنوع خاص.
مكانة الخطابة لدى العرب في العصر الجاهلي:
وإذا ما تحدثنا عن الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي؛ لوجدنا أن الظروف قد هيأتهم تمامًا ليكونوا خطباء مبرِّزين؛ فالأمية وتباعد الديار، والإحساس العميق بالسيادة عند كل قبيلة، والتنازع فيما بينهم على أتفه الأسباب، وحبهم الجارف للتفاخر بالأحساب والأنساب، وتقديرهم البالغ للشجاعة والإقدام خصوصًا في ساحة الوغى للدفاع عن العرض والشرف والكرامة
…
كل ذلك وغيره جعل العرب يهتمون بالخطابة أيما اهتمام؛ حيث كانوا يقدمون خطيبهم إلى جيرانهم من أهل القبائل الأخرى؛ ليعبر عنهم ويفاخرَ بهم، وفي الحروب يهجو ويدفع، وفي المناسبات يهنئ ويحمل البُشرى.
ولقد اتجه العرب إلى الخطابة بفطرتهم دون أن يتأثروا بغيرهم من الأمم الأخرى، وكان استعدادهم لها واضحًا طبيعةً وسجيةً، عاش العرب في الجاهلية أحرارًا أباة للضيم، لُسْنًا فِصاحًا، يتفاخرون بإجادة القول كما يتفاخرون بالشجاعة والكرم، وأسعفتهم بديهة حاضرة، ولغة رنانة غنية، واشتعلت بينهم حروبٌ ومنازعاتٌ؛ فازدهرت الخطابة عندهم؛ لكنهم في الغالب لم يتصوروا الموضوع وحدةً ذات معانٍ مرتبةٍ كما تصور اليونان والرومان؛ وإنما كانت لهم لفتات ونظرات إلى ما يهمهم من الموضوع؛ فلا يستقصون ولا يرتبون الأفكار.
ولعل سبب ذلك: شيوع الارتجال، وفي هذا يقول الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال؛ وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين ينتحي على رأس بئر أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب؛ فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد؛ فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنسال عليه الألفاظ انسيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس
…
ولهذا كثرت حكمهم القصار، وشاع بينهم الإيجاز، وبان في خطبهم أثر الارتجال والانفلات من ترتيب الخطبة إلى مراحل وأجزاء، واتسمت معانيهم بالصدق والبعد عن المبالغات.
ولعل هذا من تأثير الشعر في الخطابة من حيث الإيجاز والجمل القصار، أو لعل السبب ميلهم إلى النظر الجزئي والتعبير العاجل السريع الموجز؛ يقول الدكتور أحمد الحوفي: ولست أوافق الجاحظ على دعواه: أن العرب هم الخطباء في قوله: وجملة القول: أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس؛ وأما الهند فإنما لهم معانٍ مدونة وكتب مجلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولليونان فلسفة وصناعة ومنطق، وكان صاحب المنطق نفسه -يقصد أرسطو- بكيء اللسان غير موصوف بالبيان، وفي الفرس خطباء؛ إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكير ودراسة الكتب.
لا أوافق الجاحظ؛ لأن العرب من أخطب الأمم حقيقةً، ومن أحسنها بيانًا، وأحضرها بديهةً؛ ولكن الجاحظ غمط الأمم الأخرى حقها مدفوعًا بالعصبية للعرب حين كان الشعوبية يجحدون فضل العرب، ويحاولون أن يفرضوا مجدهم؛ أما إذا نظرنا إلى الارتجال والإعداد؛ وجدنا العرب أكثر الأمم ارتجالًا وأقلها إعدادًا؛ لأن الخطيب اليوناني ما كان ليتصدَّى للخطابة قبل أن يعد وينسق؛ مخافةَ النقد، وكذلك كان الخطيب الروماني؛ فقد كان "شيشرون" ينقح خطبَه ويتدرب على إلقائها قبل أن يخطب، وما زال هذا دأبه إلى سن الستين.
على أن الإسلام قد نقل العرب نقلًا جديدًا؛ فنمى الخطابة وقواها؛ إذ كانت من وسائله في الدعوة، ثم كانت من أسلحة الأحزاب السياسية التي نشأت بعد ذلك، وهي ضرورية في كل جمعة وعيد، ثم إنهم تأثروا بالقرآن الكريم والحديث الشريف والثقافة الإسلامية والعربية والدخيلة؛ فتعددت مجالي القول، وتنوعت الخطابة، والتصقت المعاني، وتسلسلت وصارت الخطبة ذات طابع لا
تكاد تحيد عنهم؛ كأن تبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم يأتي الموضوع، ثم الختام. لكن أثر اليونان كان فيهم ضعيفًا، من هذه الناحية ونواحي الأدب كله؛ لأنهم عكفوا على ترجمة علوم اليونان ولم يترجموا أدبهم، وإذا كان إسحاق بن حنين قد ترجم كتاب (الخطابة) لأرسطو؛ فإن أثره كان ضعيفًا في الخطباء لأنه لم يُشَع بينهم؛ ولأن الفطرة غلبت عليهم؛ ولأن الخطابة لم تكن تعلَّم كما كانت تعلم عند اليونان والرومان، وحتى المؤدبون كانوا يعلمون الشعر والكتابة ولا يعلمون الخطابة، ثم إن نظرة أرسطو إلى الخطابة نظرة متفلسفة، والعرب لم يميلوا إلى فلسفة أدبهم.
على أن العرب لم تكن لهم خطابة قضائية؛ لأنهم كانوا يعتمدون في تقاضيهم على البينة واليمين؛ فلم يكن هناك مجال يتصاول فيه الخطباء، ولم يكن عندهم محلفون يجد الخطيب في استمالتهم وإقناعهم، وكانت خطبهم السياسية -على كثرتها- حزبيةً مذهبيةً أكثرَ منها عامة؛ لأن نظام الحكم لم يكن برلمانيًّا كنظام الأمم الديمقراطية المعاصرة، أو كنظام اليونان في عهد الديمقراطية.
ونلاحظ أن الخطب الحفلية -التكريم، والتأبين، والوفود- قليلة عندهم وموجزة؛ على أن في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده كثيرًا من الخطباء المصاقع الذين أجادوا الافتنان في الخطب السياسية والوعظية والحربية.
فإذا ما نظرنا إلى الناحية النظرية؛ وجدنا الجاحظ قد تناول كثيرًا من أمور الخطابة في كتابه (البيان والتبيين)؛ إذ تحدث عن مقوماتها وآثارها، وصفات الخطباء ومزاياهم وعيوبهم، وانطلاقهم وحَصْرهم وملابسهم، واعتمادهم على المخاصر والعصي والقسي
…
إلخ، وتحدث عن البدء والختام والإيجاز والإسهاب
…
إلى غير ذلك من المسائل الموصولة بالخطابة؛ لكن كتاب الجاحظ
تناول هذه الموضوعاتِ كلها في مواضعَ متفرقة لا يجمعها نسق واحد؛ لأن الكتاب عرض للبيان العربي شعره ونثره، وعرض للبلغاء من شعراء وكتاب وخطباء، وكانت الخطابة تجيء مفرقةً هنا وهناك؛ لأن الجاحظ لا يعدو هذا المسلك في مؤلفاته.
ولم يكد يمضي على كتاب الجاحظ نصف قرن حتى ظهر كتاب (نقد النثر) الذي تناول الخطابة في أحد فصوله.
هذا؛ وقد نظر العرب إلى حالهم ومنازعتهم؛ فوضعوا نظامًا يكفل الأمن ويقلل الصراع؛ وكأن هذا النظام نفسه سبب لازدهار الخطابة العربية وتنوع أغراضها. وفحوى هذا النظام: أقاموا أسواقًا تدور مع أيام السنة في جميع أماكن الجزيرة؛ وحتى يحققوا أكبر فائدة من هذه الأسواق جعلوها مكانًا للكسب المادي وتقوية للشعور القوي القومي، ودفعًا للتسابق الأدبي واللغوي والعقلي، وقد اختاروا لهذه الأسواق الأشهر الحرم؛ حتى يضمنوا لأنفسهم الحركة الآمنة والقول الجريء والنقد الحر؛ وأقاموها في سائر أنحاء الجزيرة؛ لكي يشترك الجميع فيها؛ حتى يحققوا أكبر الفائدة منها.
ومن أقدم الخطباء المشهورين: كعب بن لُؤي الجد السابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يخطب العرب في الشئون المختلفة، ويحث كِنانة على البر وأعمال الخير، وكان مهيبًا مسموعَ الكلمة، ولما مات أكبروا موتَه وأرخوا به، وظلوا يتخذونه تاريخًا حتى عام الفيل؛ فأرخوا به حتى كانت الهجرة النبوية؛ فاتخذها عمر بن الخطاب مبدأً لتاريخ المسلمين. ومن مشهوريهم بعد ذلك: قيس بن خارجة بن سنان: خطيب داحس والغبراء، وكذلك أكثم بن صيفى، والحارث بن عياد، وقيس بن مسعود، وغيرهم.