الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (2))
عصمة الله رسولَه صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونصلي ونسلم على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته، وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
عصمة الله رسولَه من دنس الجاهلية:
لقد مَنَّ الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم منذ نشأته بأن حفظه من دنس الجاهلية، وأبعده عن الهزل وأهله، وعاش محمد صلى الله عليه وسلم حياته كلها في أعمال فاضلة وسلوك سليم، ولم يؤثَر عنه ريبة قط، بل كان في كل حالاته وأحواله رجلًا فاضلًا ممتازًا، حتى عُرف في مكة بحسن العمل وسمو السلوك.
ومع خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع مكة، واختلاطه بشبابها، وتعامله مع رجالها- كانت عناية الله معه، فصار رجلًا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحبهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وأكثرهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال.
ما رُؤي صلى الله عليه وسلم مُلاحِيًا ولا مماريًا أحدًا، حتى عرفه قومه بالأمين الصادق، صرف الله عنه كل ما يسيء ويشين، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما هممتُ بشيء مما كان أهل الجاهلية يهيمون به من الغناء إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله منهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا: هيا بنا نسمر كما يسمر الشباب، وقلت لصاحبي: أبصر غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلتُ حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا وغرابيل ومزامير. قلت: ما هذا؟ قيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فجلست
أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت له: لا شيء، ثم أخبرته بالذي رأيت، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته)).
ولما شب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مكة تعجّ بمختلف أنواع اللهو والفساد والملاذ الشهوانية الدنسة، كانت حانات الخمر منتشرة وبيوت الريبة، وعليها علامات تعرف بها، ووجود المغنيات والماجنات والراقصات من الأمور العادية الموجودة في ذلك المجتمع، تتوجها عبادة الأصنام والأوثان.
وكان المجتمع المكي يوم ذاك يقر ذلك ويعتبره جزءًا من حياة الناس، والله سبحانه وتعالى برأ رسوله واختاره من أكرم معادن الإنسانية، ثم اختاره لحمل أكمل رسالات السماء إلى أمم الأرض، ولذلك أحاطه بكل أنواع الرعاية والحفظ.
وقد روى ابن سعد في (الطبقات) أن أم أيمن قالت: ((كانت بوانة صنمًا تحضره قريش تعظمه، وتنسك له النسائك ويحلقون رؤوسهم عنده، ويعكفون عنده يومًا إلى الليل، وذلك يومًا في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك يا محمد مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدًا ولا تكثر لهم جمعًا؟! قالت: فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبًا فزعًا فقالت عماته: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم فقلن له: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، قال: إني كلما دنوت إلى صنم منها تمثّل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه. قالت: فما عاد لعيد لهم حتى تنبأ)).
حياة الكفاح وما فيها من دلائل النبوة:
قال ابن إسحاق: ((ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرًا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون، فرَّق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبدًا، فلما نزل الركب بِصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له: بحيرا، في صومعة له، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا، وكانوا كثيرًا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبًا من صومعته صنع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.
ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم وصغيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك لشأنًا اليوم، أما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرًا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعامًا فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا عليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رجال القوم تحت الشجرة.
فلما رآهم بحيرا لم ير الصفة التي يعرف ويجد عندهم فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحدٌ منكم عن طعامي. قالوا: يا بحيرا ما تخلف أحد ينبغي لك أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنًّا، فتخلف في رحالنا. قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر
هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا وقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى، إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئًا؛ فوالله ما أبغض شيئًا قط بغضهما.
فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبْغُنَّه شرًّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فخرج به فأسرِع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعًا حتى أقدمه سكنه حين فرغ من تجارته بالشام)).
رعي الغنم ودلالته على إعداد النبي صلى الله عليه وسلم لتحمل الرسالة:
لقد عمد محمد صلى الله عليه وسلم منذ أن أضحى يعيش في كنف عمه أبي طالب إلى مساعدته، ولا سيما أن أبا طالب كان في أشد الحاجة للمساعدة لفقره وكثرة عياله، فاشتغل
رسول الله صلى الله عليه وسلم برعي الأغنام في شعاب مكة وفجاجها، وقد ثبت في الحديث الصحيح قيامه بهذا العمل، حيث روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).
وفي رعي الغنم ما فيه من تهيئة الله سبحانه وتعالى لنبيه، لتلقي الرسالة والقيام بأمر الدعوة، ويورد الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث خلاصة أقوال العلماء في ذلك فيقول: "الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكفلونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة -ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل، مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.
وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أكثر انقيادًا من غيرها".
ويقول الدكتور أحمد غلوش في ذلك: "وللمرء أن يتساءل: وما الحكمة في رعي الغنم حتى يقدرها الله لأنبيائه جميعًا؟ ويجيب بقوله: أرى -والله أعلم- أن الحكمة في رعي الغنم هي تربية الأنبياء على ما سيكونون عليه، حين تكليفهم بالنبوة، وليتعلموا حسن التعامل مع الناس، وأهم هذه الفوائد ما يلي:
1 -
التعود على المسئولية:
إن ثقل التكليف يحتاج إلى طاقات بشرية تتحمله، والنبوة تكليف شاق؛ لأنها تعني إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإنقاذ البشر من ضلالات الهوى ليسعدوا بنور الإيمان وبَرد اليقين، إن النبوة قمة الأمانة والمسئولية، وحاجتها إلى رسول يتحمل مشاقها ومصاعبها ضرورة لابد منها، ورعي الغنم عمل شاق يكفي في تصور مشقته أن الراعي يعيش واقفًا ومتحركًا طوال الوقت، حيث تسرح الغنم وتمرح، وهذه أعمال في حد ذاتها تحتاج إلى قوة وطاقة، ولذلك كان رعي الغنم مقدمة للنبوة لما فيهما معًا من مشقة وتعب.
2 -
تعليم الصبر والتحمل:
تحتاج النبوة إلى التخلق بالخلق الكريم والاتصاف بالحلم والصبر، وذلك أمر يحققه رعي الغنم؛ لأن القطيع يرعى وهو مطلق السراح فيتوزع هنا وهنا، وكل ما يجمعه الراعي يعود من حيث أتى، وذلك أمر يحتاج إلى الصبر والتحمل، وبدون ذلك لا يمكن للراعي رعي الغنم.
ومِن رعي الغنم -إذن- تعلم الأنبياء الصبر والتحمل في دعوة الناس؛ لأن المدعوّين ليسوا على اتجاه واحد وإنما لكل اتجاهه.
3 -
شمول الرعاية:
راعي الغنم يحتاج إلى سعة الأفق وهو يدير أمر غنمه؛ لتعدد جوانب الرعاية التي تحتاج إليها، ففيها الصغير المحتاج للرعاية وفيها الذكر وفيها الأنثى، كما أنها تحتاج دائمًا إلى البحث عن مصادر أكلها وغذائها، ولابد لها من حراسة تحميها
من الذئاب واللصوص، ومن الضروري المحافظة عليها من شدة الحر وقسوة البرد، وكثيرًا ما تنتابها الآلام والأوجاع، وعلى الراعي متابعة ذلك.
ومن مسئوليات الراعي: تدبير أمر مبيتها في الخلاء أو في البناء، إنها مسئوليات عديدة لا يصلح لها ضيق الأفق العاجز عن حمايتها، وإعداد كافة الجوانب التي تحتاج إليها، ولذلك كان رعي الغنم تدريبًا عمليًّا على مباشرة أعمال النبوة لتعدد المسئوليات النبوية.
4 -
التسوية والعدل بين الناس:
يحتاج النبي إلى تبليغ الدعوة لسائر الناس على وجه يتناسب مع كل واحد منهم، ولا يُقدم واحدًا ويترك غيره، ولا يهتم بغني على حساب فقير، ولا يتصور أن الخير في هذا أو في ذاك فيفضله على غيره، ورعي الغنم يحقق هذا الخلق؛ لأن الراعي عليه أن يرفق بالضعيف، ويحيطه بعنايته، فلو ولدت نعجة في الطريق فعليه حمل المولود بيده، ولذلك نراه يسير خلف القطيع ليكون في عون الضعفاء ويراعي الأقوياء.
5 -
تعليم التواضع:
إن اهتمام الأنبياء برعي الغنم يعودهم التواضع، وترك الكبر؛ لأن رعي الغنم والحرص عليها يحتاج إلى العمل الدءوب بعيدًا عن الخيلاء، حيث لا فخر بعمل كله تعب ومشقة تحت حر الشمس أو في برد الشتاء، والنبوة في حاجة إلى هذا التواضع الذي يجعل الأنبياء يتعاملون بالخلق الكريم مع كافة الناس، مع الرجال والنساء، مع الأغنياء والفقراء، مع الكبير والصغير، مع العظيم والحقير، وبذلك كانوا أمثلة عليا وقدوة سامية.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله- أنه رعى الغنم دليل على عظم تواضعه، واعترافه بفضل ما مَنَّ الله عليه به.
6 -
الشجاعة:
الراعي يعمل على حماية غنمه من الذئاب واللصوص وغيرها، وهو لذلك يحتاج إلى شجاعة تعينه على هذه الحماية ليلًا ونهارًا، والأنبياء وهم يقومون بالدعوة يتصدى لهم الأعداء من شياطين الإنس والجن، وهم محتاجون للشجاعة والجرأة حتى يمكنهم القيام بواجب الدعوة.
7 -
التأمل والتفكير:
وراعي الغنم الذكي القلب يجد في فسحة الجو الطلق أثناء النهار، وفي تلألؤ النجوم إذا جن الليل -موضعًا لتفكيره وتأمله، يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما وراءها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرًا لهذا الكون وخلقه، هذه الأفلاك والعوالم التي يراها في فسحة الكون أمامه متصلًا بعضها ببعض في نظام محكم {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} (يس: 40) وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تصل إحداها في مهامة البادية، فأي انتباه وأية يقظة تحافظ على نظام العالم كله مع إحكامه الموجود.
إن رعي الغنم مدرسة تحتاج إلى قوة البدن وقوة العزيمة والهدوء والأناة، مع الصدق والإخلاص وقصد الاستفادة والتعليم".