الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر الإيمان بالقدر على المسلم
لقد بني هذا الدين على التسليم لحكمة الله وإرادته، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة الربانية في الأوامر والنواهي، وكذلك كان أصحاب الأنبياء؛ فإن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، وهكذا كان الصحب الكرام فقد كانوا شديدي الأدب مع ربهم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال فيهم ابن عباس رضي الله عنهما:"ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض"، وفي مسألة القدر أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب.
عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت له: قد وقع في نفسي شيء في القدر؛ فحدثني لعل الله يذهب من قلبي؛ فقال: "لو أن الله تعالى عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أُحُد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار، قال: ثم أتيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال لابنه عند الموت: "يا بني؛ إنك لن تجد حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فقال: يا رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)). يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من مات على غير هذا فليس مني)).
هذا؛ وقد كان لهذه العقيدة في نفوس أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أجل الأمل؛ فقد انطلقوا في الأرض وهم يحملون عقيدة القدر كما علّمهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال لابن عباس رضي الله عنهما: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك؛ احفظ الله تجده تجاهك؛ إذا سألت فاسأل الله؛ وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك؛ وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
هذه العقيدة سكبت في قلوبهم السكينة، وأفاضت على نفوسهم الطمأنينة، وربَّتهم على العزة؛ فارتاحت أعصابهم وهم منطلقون لتبليغ هذا الدين إلى البشرية، وقد استصغروا قوى الأرض جميعًا أمام إيمانهم بقدر الله.
سئل سلمان الفارسي: ما قول الناس حتى تؤمن بالقدر خيره وشره؟ فقال: حتى تؤمن بالقدر: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، ولم يكن هذا قول سلمان فحسب؛ وإنما كان قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا؛ فأية سعادة تضفيها على النفس هذه العقيدة! وأية شجاعة انطوت عليها قلوب آمنت أن الأمر بيد الله وأن البشر لا أمر لهم.
إن قوى الأرض جميعًا لا تقف أمام إنسان يحمل هذا المبدأ، ويكن بين جنباته هذا الإيمان، ومن هنا نجد التفسير الصحيح للأعمال التي حققها هذا الإيمان على يد العصبة المؤمنة التي انطلقت بهذا الدين، إنها الأعمال تشبه الخوارق ولكنها حقائق، إن تلك الإنجازات العظيمة التي حققها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، إن هي إلا ثمرة إيمانهم بالله واليوم الآخر، وقدر الله عز وجل.
إن الإنسان الذي ينعم بعقيدة القدر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الأمة لو اجتمعت لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأنه لم تمت نفسٌ حتى
تستكمل رزقها وأجلها، إنه هذا الإنسان هو وحده الذي يتحرر من العبودية للعباد بدخوله في العبودية لرب العباد؛ إذ كيف تنحني جبهته لأية قوة على ظهر الأرض وهو يعلم أن الأمر بيد خالق السموات والأرض ومن فيهن؟! وكيف تذل نفسه لعبد من تراب؟!
يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط المالك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب!.
إن هذه العقيدة لتنتزع كل مظهر للجبن من القلب الذي تعمره، فتدفع صاحبها إلى جهاد الكفار والطغاة دون أن يحسب لوسائلهم وأساليبهم أي حساب، ولماذا ينشغل بالحساب لهم وقد ضمن له خالقه وخالقهم أن يستوفي رزقه وأجله، ولماذا يجبن وهو يعلم أن المقدور نازل به لا محالة، وغير المقدور لن يحيق به أبدًا؛ فما أحسن قول من قال:
أي يومي من الموت أفر
…
يوم لا قدر أو يوم قدِر
يوم لا قدر لا أرهبه
…
ومن المقدور لا ينجو الحذِر
إن النفس المؤمنة بقدر الله سبحانه وتعالى لتنعم بنعمة أخرى لا تعدلها نعم الدنيا كلها؛ إنها نعمة الرضا في كل حال؛ ذلك أن هذه النفس ترى أن المقادير تجري بأمر الله عز وجل ومشيئته وتدبيره وأن الأحداث تنبثق بحكمة الله وإرادته، وهو يعلم والناس لا يعلمون كما قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)؛ فتعلم هذه النفس المؤمنة أن الله الذي قدر لها الخير أو الشر حكيم رحيم؛ فلا تبطر نعمة ولا تجزع من مصيبة؛ فهي شاكرة في السراء صابرة في الضراء، أمرها كله خير كما، قال
المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا للمؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
فالمؤمن من ينظر إلى المصيبة فيعلم أنها قدر الله فيطمئن ويرضى؛ فيكون أكثر أدبًا من أن يعترض على مولاه وخالقه، وينظر إلى عاقبة المصيبة ومآلها من الثواب فيرضى ويصبر، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة ابتلي على قدر ذلك؛ وإن كان فيه رقة هوِّن عليه؛ فما يزال البلاء بالرجل حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)).
وهذا علقمة رحمه الله يفسر قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} فيقول: هو الرجل تصيبه المصيبة؛ فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يهدي قلبه اليقين؛ فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ولقد ارتفعت نفوس الصحابة -رضوان الله عليهم- في ظلال هذا التصور الإيماني وسمت أرواحهم وأرهفت ضمائرهم حتى استوت في نظرهم السراء والضراء، وتماثل لديهم الشكر والصبر كما يقول عمر رضي الله عنه:"لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما أركب".
ويقول أبو محمد الحريري: الصبر: ألا يفرق بين النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما؛ فقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه مائة ألف دينار؛ هل يكون زاهدًا؟ قال: نعم، بشرط ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت، وقال بعض السلف: الزاهد: من لا يغلب الحلال شكره ولا الحرامَ صبره.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "أما بعد؛ فإن الخير كله في الرضا؛ فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر"، وقال ابن عطاء: الرضا سكون القلب إلى قديم اختار الله للعبد أنه اختار له الأفضل.
هذا؛ والصبر واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، وقيل عن الرضا: أنه واجب، وقيل: هو مستحب، وقد أجمع العلماء على أن حكمه لا يقل عن الاستحباب.
وأساس الرضا: الإيمان بقدر الله عز وجل كما تقدم، واستشعار للطف الله بعباده؛ قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين، وأهل الرضا يلاحظون ثواب المبتلى وخيريته لعبده في البلاء، وأنه غير متهم في قضائه، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء فينسيهم ألم المقضي به، وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتى إنهم لا يشعرون بالألم؛ بل ربما يتلذذون بما أصابهم لملاحظة صدوره من حبيبهم.
والرضا والصبر اللذين يثمرهما الإيمان بالقدر إنما هما الرضا بالمقدور من المصائب والنوائب، والصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، وعلى أنواع المكاره، وليس المقصود الرضا بالكفر والعصيان والفسوق عن أمر الله، ولا الصبر على الذل والضيم؛ فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية والهوان؛ فليكن رضاك تبعًا لرضا ربك وصبرك في طاعة الله وفي سبيله.
إن الرضا بالقدر والصبر على البلاء: الطمأنينة إلى حكم الله عز وجل، فهو أهم القواعد التي يقام عليها السكن النفسي، وهي من أبرز الدوافع لانطلاق جميع الطاقة البشرية للعمل في هذه الأرض ضمن منهج الله عز وجل، فلا التفات للوراء ولا محطات للتحسر والندم، ولا "لو كان كذا وكذا لكان كذا وكذا"؛ ولكن قدر الله وما شاء فعل.
ففي هذه العقيدة هدوء القلب وراحة البدن والنفس والأعصاب ومفارقة الهم والحزن؛ فلا تمزق نفسي ولا توتر عصبي ولا شذوذ ولا انفصام؛ وإنما رضا وسكينة وسعادة وراحة وطمأنينة وبرد اليقين وقرة العين وهناءة الضمير وانشراح الصدر والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وعلمه وحكمته؛ فهو الملاذ والمعاذ من الوسواس والهواجس.
إن الاعتقاد بعقيدة القدر يحدث في واقع الناس وفوق هذه الأرض نتائج إيجابية هائلة؛ وأما المجتمعات التي تركت هذه العقيدة وفرغت من الإيمان بالله وتدبيره لشئون الحياة والأحياء؛ فيصيبها في الآخرة خلود في العذاب المهين، وفي هذه الدنيا ضياع السعادة وتمزق الأعصاب وضنك العيش وتوتر الحياة مصداقًا لقوله تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123، 125).
الإيمان بالقدر لا ينافي الأخذ بالأسباب:
ويجب ألا يغيب عن بالنا أننا مأمورون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله عز وجل والإيمان أن بيده ملكوت كل شيء، والإيمان أن الأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله سبحانه وتعالى فالذي خلق الأسباب هو الذي خلق النتائج والثمار؛ فمن أراد النسل الصالح فلا بد أن يتخذ لذلك سببًا وهو الزواج الشرعي، ولكن هذا الزواج قد يعطي الثمار وهي النسل وقد لا يعطي؛ حسب إرادة العزيز الحكيم ومشيئة اللطيف الخبير:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: 49، 50).
ولذا يحرم على المسلم ترك الأخذ بالأسباب؛ فلو ترك إنسان السعي في طلب الرزق لكان آثمًا مع أن الرزق بيد الله تعالى، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المشروعة هي من القدر؛ فقيل له: أرأيت رقًى نسترقي بها وتقًى نتقي بها وأدوية نتداوى بها؛ هي ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: ((هي من قدر الله)).
فالالتفات إلى الأسباب واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع؛ لذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي؛ فقد روى أصحاب السنن عن أسامة بن شريك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير؛ فسلمت ثم قعدت؛ فجاء الأعراب من هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رسول الله، التداوي؟ فقال:((تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)) وبناء على هذا الأمر بالتداوي قال الفقهاء باستحبابه وبعضهم قال بوجوبه: قال شارح "العقيدة الطحاوية": لقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب؛ وهذا فاسد فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين، يلبس لَأمة الحرب ويمشي في الأسواق للاكتساب.
وهكذا كان فهم الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- للعلاقة بين الإيمان بالقدر وتعاطي الأسباب، وأن هذا التأني داخل في معنى الإيمان بالقدر ولا ينافيه، وإنما هو مقتضى من مقتضياته؛ روى الإمام البخاري أن عمر رضي الله عنه لما خرج إلى الشام لقيه
أمراء الأمصار، وأخبروه بانتشار الوباء فيها؛ فاستشاروا المهاجرين والأنصار ثم مهاجرة الفتح من مشايخ قريش، فاجتمع المهاجرة على الرجوع بعدًا عن الوباء وأمر بذلك عمر، فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله؟! أفرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله؟!.
ولذا بكَّت عمر بن الخطاب جماعة من أهل اليمن كانوا يحجون بلا زاد؛ فذمهم؛ قال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناسًا من أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتآكلون؛ إنما المتوكل الذي يُلقِي حبة في الأرض ثم يتوكل على الله.
يقول ابن قيم الجوزية: لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى.
مشيئة الرب ومشيئة العبد:
وقد يقال: إذا كان الله منح العبد الحرية والاختيار؛ فما معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير: 28، 29)؟
فنقول: معناها: أن الإنسان لا يشاء شيئًا إلا إذا كان في حدود مشيئة الله وإرادته؛ فمشيئة البشر ليست مشيئة مستقلة عن مشيئة الله، والله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقين: طريق الهداية وطريق الضلالة، فإذا اختار الطريق الأول ففي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا اختار الطريق الثاني ففي نطاقها أيضًا، وكل الآيات التي جاءت على هذا النحو فمعناها لا يتعدى ما ذكرناه.
الهداية والإضلال:
وقد يقال أيضًا: لقد جاء في القرآن الكريم: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (النحل: 93) أي أن الله يضل من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته، وإذا كان الله يضل ويهدي فليس للعبد حرية الاختيار!.
والواقع أن الهداية والإضلال نتائج لمقدمات ومسببات لأسباب؛ فكما أن الطعام يغذي والماء يروي والسكين تقطع والنار تحرق؛ فكذلك هناك أسباب توصل إلى الهداية وأسباب توصل إلى الضلال، فالهداية إنما هي ثمار عمل صالح؛ والضلال إنما هو نتائج عمل قبيح.
فإسناد الهداية والإضلال إلى الله من حيث إنه وضع نظام الأسباب والمسببات لا أنه أجبر الإنسان على الضلال أو الهداية.
وحينما نرجع إلى الآيات القرآنية نجد هذا المعنى بينًا وواضحًا لا لبس فيه ولا غموض؛ فالله يقول: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب} (الرعد: 27)، ويقول سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: 17) فهداية الله للناس بمعنى: لطفه بهم، وتوفيقهم للعمل الصالح إنما هي ثمرة جهاد للنفس وإنابة إلى الله واستمساك بإرشاده ووحيه.
ويقول القرآن الكريم في الإضلال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة: 26، 27)، وقال عز وجل:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27) كما قال عز وجل:
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر: 35) وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (الصف: 5) وقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14) وقال سبحانه: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 155).
فنرى من هذه الآيات أن سبب الإضلال: هو الزيغ والخروج عن تعاليم الله، والكبر والجبروت والتعالي على الناس بغير حق، ونقض عهد الله عز وجل وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يُقطع، والفساد في الأرض، والكفر، واقتراف الآثام.
فهذه هي الأسباب التي أضلت الناس وأخرجتهم عن منهج الحق؛ لأنهم آثروا العمى على الهدى واستحبوا الضلال، واستحبوا الظلام على النور؛ فكان أن كافأهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، بمقتضى نظامه في ارتباط الأسباب بمسبباتها، وهذا ونحوه كثير في كتاب الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.