الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي والعشرون
(من أساليب الإقناع العقلي ووسائله)
الجدل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أ- الجدل:
الجدل: نقاش بين طرفين متخاصمين، وجاء لفظ الجدل مصرحًا به في القرآن الكريم في نحو سبع وعشرين آية، وهو نوعان: جدل مذموم وجدل ممدوح، فالجدل المذموم هو الجدل في تقرير الباطل والدفاع عنه، وعلى سبيل المثال:
1 -
الجدل في الله وآياته بغير علم وبهدف التشكيك.
2 -
جدال الكفار.
3 -
الجدال في الحج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا النوع من الجدل فيقول:((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا)).
وأما الجدل المحمود فهو كل جدل أيّد الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى، وهو منهج الدعاة إلى الله تعالى من الأنبياء وغيرهم، بأن يجادلوا المعاندين وأهل الباطل بالحجة والبرهان؛ لإثبات الحق والدفاع عنه وقرع حجج المبطلين.
ب- جدل القرآن:
الجدل القرآني أسلوب من أساليب الدعوة، ويقوم بدوره على وجه كامل، وذلك على النحو التالي:
1 -
الإقناع العقلي المجرد:
خاطب الجدل العقل وناقش الخصوم مناقشة تعتمد على كثير من المسلَّمات، حتى يقطعوا بصحة المدعي أمامهم، وكأن الجدل في هذا المعنى يستنتج النتائج
الصحيحة بعد ذكره للمقدمات الصادقة. ذكر السيوطي أن الإسلاميين من علماء الكلام استنتجوا من أول سورة الحج إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج: 7) خمس نتائج وعشر مقدمات لها.
أما النتائج فقد احتواها قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . (الحج: 6، 7).
وأما المقدمات العشر فهي سهلة الإيراد وذلك أن الله أخبر عن يوم القيامة وزلزلة الساعة، وذلك حق منقول إلينا بالتواتر، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق، فالله هو الحق، وأخبر سبحانه وتعالى عن أهوال الساعة، وعن قدرته الشاملة، ولابد للساعة من إحياء الموتى فالله القادر يحيي الموتى سيعاقب المعاندين وسيثيب الطائعين، وأخبر عن الساعة وخلق الإنسان من تراب، وإماتته بعد ذلك، وخلق الأرض، وصدق خبره في كل ذلك بدلالة الواقع، ومن صدق خبره في ذلك صدق في أخباره عن مجيء الساعة، فصدق أن الساعة آتية لا ريب فيها، ولا تأتي الساعة إلا ببعث مَن في القبور، فثبت أن الله يبعث من في القبور.
وهذه المقدمات العشر جاءت في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (الأنبياء: 1 - 5).
وهكذا نجد النتائج أمام العقل ثابتة صادقة، وهي نتائج ذا تأثير نفسي بالغ، فهي لا تقف عند شكلية القياس، بل تجعل المجادِل كلما وصل إلى نتيجة ازداد إيمانًا وتصديقًا، حيث تشمل النتائج على إبراز حقيقة الألوهية، وقدرة الله سبحانه وتعالى، وتخبر
عن إحياء الموتى، وبعثهم في يوم الساعة الآتية بلا ريب، وتتحدث عن ضرورة الحساب على الأعمال.
ومن أجل الوصول بالعقل إلى اقتناع كامل بالشيء، الذي هو محل الجدل، رأينا الجدل يأتي بالأمر المتناقش فيه، ويحلله إلى منتهى أقسامه ويرد كل قسم على حدة، لينتهي أخيرًا إلى الرأي الحق، وذلك كقوله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28) فترى هذه الآية تقسم الرأي في موسى عقليًّا؛ لأنه إما أن يكون كاذبًا وأما أن يكون صادقًا، فإن كان كاذبًا فكذبه عليه لا يتعداه، وإن كان صادقًا فاتباعه نفع وفوز ونجاة، والتقسيم يؤدي في النهاية إلى عدم التعرض لموسى عليه السلام، وعدم محاولة قتله.
وقد رد الله في هذه الآيات على اليهود تحريمهم لذكور الأزواج المذكورة تارة، وتحريمهم لإناثها تارة ثانية، وتحريمهم لما في أرحام الإناث حسب ما اتفق تارة ثالثة، فجادلهم الله في رده بطريق السَّبر والتقسيم، فبيّن أنه خلق من كل زوج مما ذكر ذكرًا وأنثى، وسألهم عن سبب التحريم وعلته؛ لأن العلة إما أن تكون
بسبب الذكورة أو بسبب الأنوثة، أو بسبب الذكورة والأنوثة معًا، أو بسبب خارج عن حدود مصدر الشيء المحرم، كأن ينزل بها وحي من الله، وتلك هي أسباب التحريم كلها، ولا يُعقل سبب سواها.
ويترتب على هذه الأسباب أن يحرم الذكورة والأنوثة معًا، أو يحرم ما فصله الوحي إن كان هو السبب، لكن السبب المشاهد أن اليهود يحرمون على هواهم، فيحرمون هذا تارة وذاك تارة أخرى، ويحلون الشيء بعد تحريمه، وقد حصر الله علة التحريم الممكنة، وسألهم عن تحديدها إن وُجدت، وبذلك أبطل فعلهم، وأثبت أن ما قالوه ضلال وكذب، وهكذا بالسبر والتقسيم ينزاح الشك، وتستريح النفس، ويتيقن العقل المجرد والفهم السليم.
2 -
مراعاة الطبائع النفسية:
يعتز الإنسان برأيه وبفكرته وإن كانت خاطئة، والمعاندون أكثر الناس تشددًا في هذا المجال، والجدل يراعي هذه الناحية في مناقشاته، حيث نرى في في طرق الجدل ما عُرف بطريقة مجاراة الخصم، ومجمل هذه الطريقة أن يسلم المجادل ببعض مقدمات الخصم؛ للإشارة إلى أن هذه المقدمات لا تنتج ما يريد أن يستنتجه، وإنما هي بعيدة عنه.
ومن أمثلة هذه الطريقة قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (إبراهيم: 10، 11) فدعوى الخصم أن الرسل بشر، والبشر لا يستطيعون أن يتلقوا وحي الله، وهم بدعوى الرسالة يريدون صد أقوامهم عن عبادة الآباء والأسلاف.
وبملاحظة رد الرسل عليهم نرى التسليم للخصوم بأنهم بشر، ويذكرون أن البشرية لا تتنافى أن يمن الله بالرسالة على من يشاء من البشر.
وفي هذا النوع من الجدل استدارج للخصم واستجلاب لإصغائه، وربما كان من الممكن بهذه الطريقة ثنيه عن الإنكار، بعد بيان فساد العلاقة بين القضية المسلَّمة والنتيجة التي رُتبت خطأ عليها.
يقول الشهرستاني: "واعلم أن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج، ومن طرق الجدل التي تساير الطبائع الإنسانية، وتُرضي الغرائز البشرية ما عرف بقياس الخَلف، وهو جدل يثبت الأمر بإبطال نقيضه. ومثاله قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) فقد أثبت قول الله هذا أن القرآن من عند الله تعالى، بإبطال أنه من عند الله؛ لأنه خلا من الاختلاف اللازم له لو كان من عند غير الله".
ومن الطرق التي تراعي هذه الطبائع ما نلمسه من بعض صور الجدل، التي تتجه إلى مناصحة المدعو وإرشاده، والأخذ بيده إلى الصواب، وتوجيه نظره إلى ما حوله ليأخذ منه الفائدة، وهذه السور تراعي الجدل في ثناياها، وترد عليها في إجمال وتدليل.
ومن أمثاله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن: 1 - 9).
فقد لاحظت هذه الآيات أقوال الخصوم واعتراضاتهم، من غير أن توردها، وردت عليها في إيجاز ودليل ملموس، وبذلك تأخذ بيد المستمع إلى الحق عن طريق وضع الأدلة السهلة الواضحة.
ومن الطرق التي راعت طبائع الناس: مجاملة الخصوم وعدم الرد المباشر على دعاويهم، مع عدم التسليم بها، كقوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24) وكقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف: 81) وذلك لأن المجاملة أدعى إلى الطاعة وأقوى في التأثير.
3 -
ملاحظة التنوع البشري:
يختلف الناس في مجادلاتهم؛ فمنهم المجادل العنيد، ومنهم المناقش السهل، ولقد راعى الجدل هذه الاختلافات، فمع العناد يلجأ إلى إفحام الخصم وإلزامه، ثم يأخذ بيده إلى الحقيقة، ويبينها له في وضوح، فلقد كان المعاندون يطلبون في إصرار أن يكون الرسول ملكًا؛ لإزالة اللبس من إرسال البشر، فرد الله إصرارهم في وضوح وإيجاز، وعرفهم لو أنه لو أرسل ملكًا على صورته الملكية لهلك الناس من رؤيته، ولو جعله على صورة البشرية -يعايشهم ويدعوهم في بشريته هذه- لبقي اللبس وطلبوا ملكًا آخر، وهكذا في تسلسل لا ينتهي، وهو محال نشأ من طلبهم المحال، وعليهم بعد ذلك أن يُسلموا بالرسول البشر.
ومن أمثلة هذه المراعاة قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (الأنعام: 91) وفي هذه الآية بيان لإنكار اليهود إنزال الوحي على بشر هو محمد، بينما هم يؤمنون برسالة موسى عليه السلام. وقد رد الله عنادهم
وأفحمهم بأخصر طريق بسؤالهم عن المسلَّمات عندهم، وهي من نوع ما ينكرون، ولذلك سألهم عن الكتاب الذي جاء به موسى، عن من أنزله عليه؟
وحينما يبدأ المعاند في إنكار المسلمات، بإلقاء شبهه عليها، نجد القرآن الكريم -لأن قصده الحق- يأتي بطريقة تُعرف بالانتقال، حيث يترك ما أُلقيت عليه شبهة الخصم، وينتقل إلى ما لا شبه فيه، وذلك كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258).
فإن النمرود قد جادل في الأمور المسلمة، وادعى قدرته على الإحياء والإماتة، وبرغم بطلان ادعائه، فإن إبراهيم عليه السلام لا يناقشه فيه، بل ينتقل إلى استدلال آخر لا يجد الملك فيه وجهًا يتخلص به منه، فقال صلى الله عليه وسلم:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة: 258) وفي هذا إفحام وإلزام للملك المعاند المكابر؛ لأنه لا يظنه أن يقول أن الآتي بالشمس من المشرق؛ لأن من أسن منه يكذبه.
ومن هذا الانتقال قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وفي هذه الآية إفحام للمنافق، ورد لقوله الذي يزعم عزة المنافقين وذلة المؤمنين، إذ تثبت عزًا وذلًا ولا تنكرهما، لكنها تجعل العزة للمؤمنين والذلة للمنافقين.
أما إن كان الخصم سهلًا لينًا؛ فإن الجدل يلين معه في المناقشة، ويرده إلى أمور مسلمة ابتداء، وذلك كقوله تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101) فقد
استدل سبحانه وتعالى على بطلان أن يكون له ولد بأمر معروف مألوف، لا يماري فيه أحد، وهو أنه لو كان له ولد لكانت له صاحبة، ولم يدع أحد أن له صاحبة، فيجب ألا يكون له ولد.
وأما إن كان الخصم من المكابرين، الذين لا يستفيدون مطلقًا، فإن الجدل يضع معهم حدًا حتى لا يخرج الجدل عن الحسنى، التي أمر الله أن يتحلى بها جدل الدعوة، وذلك كقوله تعالى للكافرين:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) فقد وضع هذا الجدل حدًا للنقاش مع هؤلاء الكافرين المكابرين.
يقول الإمام الخازن: "والمخاطبون بهذه الصورة كفرة مخصوصون، قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون، ولذلك أمر الله رسوله أن يترك الجدل معهم، ويعرفهم أن له دينه ولهم دينهم، والأمر لله بعد أن أوضح الحجة وألزمهم المحجة".
4 -
الترغيب والترهيب:
يراعي الجدل القرآني هذا النوع في الخطاب؛ لأن الإنسان يحب الخير ويسعى إليه، ويكره الألم وينفر منه، ولهذا الغرض يسوق القرآن حوارًا يجري بين أهل الجنة وأهل النار، فيقول تعالى:{نَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 44) والوعد المسئول عنه أشياء جاءت على ألسنة الرسل، تظهر في الآخرة، كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، ومجرد اعتراف الكفار بوقوع الوعود به يثير وجدان الكافرين، ويجعلهم يرهبون مصيرهم بسبب الكفر، ويحاولون النجاة.
ويقول تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (الأعراف: 50) هذه الآية تبين
أن الجنة فوق النار، وأن ماءها العذب اللذيذ كثير، فيه فيض وسعة، إلا أنه مع كثرته محرم على الكافرين.
وهكذا يقدم الجدل القرآني صورا متعددة من مناقشة الخصوم، مما جعله أسلوبًا ناجحًا للدعوة، تملك التأثير في الناس وهدايتهم إلى الصواب، فالجدل أسلوب للدعوة، يحتاج الرسل والدعاة إلى معرفة الجدل؛ ليؤثروا في معارضيهم؛ لأن تغيير العقائد ليس أمرًا سهلًا، وقد أعطى الله رسله البيان وأرسلهم بلغة أقوامهم، ومنحهم القدرة على المخاصمة؛ لكي يردوا جدل المعارض ويقنعوا السائل، ويأخذوا بيد الجميع عن طريق المناقشة الحرة العاقلة.
والجدل بالحسنى أسلوب حسن للدعوة، فهو أولًا يبين للداعية بعض ما سوف يصادفه من أعداء دعوته، ويبصره بمشاق الطريق الذي سوف يسلكه، وذلك لأن المعارضين دائمًا يقفون ضد دعوة التغيير، فإذا لاحظنا أن الدعوة الإسلامية تطالب المعاندين بتغيير جذري، يشمل الحياة كلها، لظهر سر قوة المخاصمة وشدة العناد، وإذا ما علم الداعية أنه أمام موقف صلب من الناس، لزمه أن يستعد له بقوة عقلية ونفسية، ويخوض طريقه الصعب صابرًا محتملًَا.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة في هذا المجال، فلقد كان القوم يحاولون هدم رأيه، ويصفونه بمختلف الأكاذيب، ومع ذلك يذكر الجدل أنه كان يقف يرد رأيهم ويثبت ضلالهم. يقول تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (سبأ: 43). فهؤلاء الكفار حينما سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم الآيات البينات، ويذكرهم بالأدلة الواضحة قالوا: إن محمدًا رجل كاذب وساحر، يهدف إلى إبعاد الناس عن دين آبائهم، وقرآنه كلام
مختلق، ودينه سحر مبين، فتراهم اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه ورسالته خصومة وجدلًا.
إن الله سبحانه وتعالى مع من يدعو إلى دينه يدافع عنه وينصره، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد بالطريقة الجدلية على اتهامات معارضيه، فلئن تباهوا بما لهم من مال وولد، وظنوا أن ذلك يدفع العذاب عنهم، وقالوا: نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذبين، فإن الله تعالى يُعلم رسوله الرد ويأمره، فيقول تعالى:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 36، 37).
وهكذا يرد الله مباهاتهم بمالهم؛ لأن هذا المال رزق أعطاه الله لهم، وهو قادر على إزالته من ملكيتهم، ولن يكون المال أيًّا كان بمقرب من الله والجنة، ومانع من العذاب والنار، ولكن الإيمان والعمل الصالح هما أساس الحساب خيرًا كان أو شرًا.
ولئن وجهوا اتهاماتهم إلى القرآن الكريم، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، فإن الله يُعلم رسوله الرد، ويأمره به في قوله تعالى:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان: 6).
ولئن كانوا يستبعدون القيامة ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، فإن الله يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرد فيقول:{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} (سبأ: 30).
ومن هذه الآيات نرى أن مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم هادفة، فهو يأخذ مكابراتهم ويرد عليها ردًا مقنعًا قاصرًا على المعترض عليه. والداعية يأخذ من هذه المواقف صورة التأييد الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم الداعية الأول، ويسير على الدرب في الدعوة، متوقعًا