الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ)
وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي وَاقِعٌ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ إلَى قَوْلِهِ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ) قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ إنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إنْ أَرَادَ بِالْخِطَابِ مَا هُوَ ظَاهِرُهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ بِالْخِطَابِ التَّكْلِيفَ وَالْإِلْزَامَ فَمَا قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِجَمَاعَةِ عَبِيدِهِ: لِيَفْعَلْ أَحَدُكُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ مِنْ قِبَلِي وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمَنْ فَعَلَهُ أَثَبْته وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ عَاقَبْته وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَاقَبَتْكُمْ أَجْمَعِينَ فَالْخِطَابُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْجَمِيعِ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ يُعَيِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ، وَهَكَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ وَالتَّكْلِيفُ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ وَالسِّرَّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ لَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ هُنَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ بَعْدُ بِالْخِطَابِ التَّكْلِيفَ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ كَمَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] إلَى آخِرِهَا.
وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَعَ الْخِطَابُ فِيهَا لِلْجَمِيعِ أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ وَلَا عُلِّقَ بِمُعَيَّنٍ، أَمَّا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَمُطْلَقًا وَأَمَّا فِي آيَةِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ التَّكْلِيفُ بِإِقَامَتِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى بَعْضِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَى الْبَاقِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْحِرَاسَةِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَارِسِينَ أَوَّلًا وَبِالْحِرَاسَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ أَوَّلًا وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ الْآيَاتِ فِي أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَالَةَ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْجَمِيعِ إلَى قِسْمَيْنِ كُلُّ قِسْمٍ يَقُومُ بِوَاجِبٍ يَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْقِسْمِ الْآخَرِ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِقِيَامِهِ فِيهَا بِالْوَاجِبِ الْآخَرِ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَتَوَجَّهُ التَّكْلِيفُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ إلَى الْجَمِيعِ ثُمَّ يَسْقُطُ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ لَا دَلِيلَ أَلْبَتَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَدْعُو إلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَيْهِ إلَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ أَوْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَدُلُّ الْتِزَامًا عَلَى الثَّمَنِ الْبَخْسِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الرُّتَبِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ وَثَمَنُ الْمِثْلِ الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا اللَّفْظُ إذْ كَيْفَ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى مَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَلَا جَرَتْ عَادَةٌ وَلَا عُرْفٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَهَلْ يُرِيدُ عَاقِلٌ بَيْعَ مَبِيعِهِ بِالْبَخْسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى ذَلِكَ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ الْبَخْسُ هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ مُطْلَقِ الثَّمَنِ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ هُوَ الْبَخْسُ بِعَيْنِهِ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؟ هَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا رَيْبَ فِيهِ اهـ. قُلْت: وَحَيْثُ ثَبَتَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ فَالصَّوَابُ إبْدَالُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ وَقَاعِدَةِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْحَالِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: مِنْ غَرِيبِ فُنُونِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْحَالِ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا قَالَ: إنَّ دَمَ الْحَيْضِ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالِ الدَّمِ.
وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ أَذًى فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَهُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنِ الدَّمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ مَا لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ)
عَلَى مَذْهَبِ الْأَصْلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ طَلَبَ الْكِفَايَةِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إذْ لَوْ وَقَعَ لَأَدَّى إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ لِتَنْبَعِثَ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَقَوْلِهِ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ فَهَذَا هُوَ خِطَابُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَعُرِفَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ الشَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَبَيْنَ الْخِطَابِ بِغَيْرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْخِطَابَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ.
قَالَ (وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَقَوْلُهُ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] الْآيَةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ) قُلْت: لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ بَلْ بِالْبَعْضِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ.
قَالَ (وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ) قُلْت لَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ إلَّا بِالْكُلِّ وَالْإِلْزَامِ وَالتَّكْلِيفِ لِلْبَعْضِ وَلَا يَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّ ثُمَّ سُقُوطِهِ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ.
قَالَ (فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ مِنْ الْعِقَابِ) قُلْت: وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْبَعْضِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مَعَ مُخَاطَبَةِ الْكُلِّ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُمْ مَتَى أَهْمَلُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ كُلُّهُمْ لَزِمَهُمْ الْعِقَابُ وَمَتَى قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ الْمُعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِمْ إيَّاهُ أَوْ بِانْبِعَاثِهِ إلَى ذَلِكَ وَعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِإِمْكَانِ الْعِلْمِ أَوْ ظَنِّهِمْ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَحَلًّا يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْعِلْمُ خَصَّهُ الثَّوَابُ انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِأَنَّ غَيْرِي انْبَعَثَ لِذَلِكَ.
قَالَ (وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وقَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُعَيِّنْ الشَّرْعُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ كَمَا عَلِمْت.
قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ لِمَا ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ الْحُضُورَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَنْ الْبَاقِينَ وَإِنْ اقْتَضَى لَفْظُ الْآيَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحُضُورِ الْمَذْكُورِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَاقِعٌ وَجَائِزٌ وَإِنْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَوَجُّهِ السُّؤَالُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] مِنْ جِهَةِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الظَّنِّ الْمُحَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ فَإِمَّا أَنْ يُحَرِّمَ الْجَمِيعَ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَاقِعَ هَا هُنَا (أَمَّا الْأَوَّلُ) بِأَنْ يُحَرِّمَ الْجَمِيعَ كَمَا حَرَّمَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ تَخْتَلِطُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ وَالْمَيْتَةُ تَخْتَلِطُ بِمُذَكَّيَاتٍ.
فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ اعْتَبَرْنَاهُ تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ بَلْ لَابَسْنَاهُ وَأَبْقَيْنَا مَا لَا دَلِيلَ عَلَى إبَاحَتِهِ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَبَحْنَاهُ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ وَأَقْوَى وَالسُّؤَالُ الثَّانِي كَيْفَ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ الظَّنِّ وَهُوَ ضَرُورِيٌّ
الْمُعَيَّنِ وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَوْله تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] يَقْتَضِي أَنَّ الْمَأْمُورَ هَا هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهَذَا لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ الْقَاعِدَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ؟ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مِنْ جِنْسٍ لَهُ حَالَتَانِ تَارَةً يَدُلُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَارَةً يُحَرِّمُ الْجَمِيعُ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الظَّنُّ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَكَيْفُ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ هَا هُنَا؟
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنْ نَقُولَ لَنَا هَا هُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ الْمُحَرَّمُ الْجَمِيعُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ الْبَعْضِ فَيَخْرُجَ مِنْ الْعُمُومِ كَمَا إذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَاخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فَإِنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ مَعَ الْمُذَكَّيَاتِ إذَا اخْتَلَطْنَ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَابَسْنَاهُ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ وَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَذَلِكَ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا تَحْصُلُ الظُّنُونُ الْمَأْذُونُ فِي الْعَمَلِ بِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الظُّنُونِ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَبْقَيْنَاهُ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنْ نَقُولَ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الظُّنُونِ بَلْ نَقُولُ هَذَا الْبَعْضُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الظَّنِّ بِعَيْنِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مُهِمٌّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ) قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَثِيرٌ جِدًّا صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا سَبَقَ فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) إلَى آخِرِهَا قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ) قُلْت هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ وَلَعَلَّهُ فِيهِ تَصْحِيفٌ أَوْ فِيهِ تَغْيِيرٌ.
قَالَ (غَيْرَ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى الْأَوَّلُ مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِأَنَّهُ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ النَّهْيَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى آثَارِ الظَّنِّ وَسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظَنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّته بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُهُ فَفِي الْآيَةِ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ أَيْ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ سَبَبِ الظَّنِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْمَحْذُوفَ مَجَازًا مُطْلَقًا أَوْ مُرْسَلًا عِلَاقَتُهُ الْمُسَبِّبِيَّةُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ لَا بِالضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ، فَإِذَا وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ صُرِفَ إمَّا لِثَمَرَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَالنَّهْيُ عَنْهَا نَهْيٌ عَنْ ثَمَرَتِهَا الَّتِي هِيَ نَقْصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَنْقُصْ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبِّبِ.
كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَأَمَّا لِسَبَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] فَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ، فَالْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهَا أَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ لِسَبَبِهَا، وَالْمَعْنَى إمَّا سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ وَإِمَّا أَنَّهُ عَبَّرَ بِهَا عَنْ سَبَبِهَا مَجَازًا عِلَاقَتُهُ الْمُسَبِّبِيَّةُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ هَذَا مَذْهَبُ الْأَصْلِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِمَعْنَى تَكْلِيفِهِ وَإِلْزَامِهِ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إلَّا لِلْجَمِيعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِجَمَاعَةِ عَبِيدِهِ لِيَفْعَلْ أَحَدُكُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ مِنْ قِبَلِي وَلَا يَفْعَلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمَنْ فَعَلَهُ أَثَبْته وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ عَاقَبْته وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَاقَبْتُكُمْ أَجْمَعِينَ فَالْخِطَابُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْجَمِيعِ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ يُعَيِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَهَكَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ وَالتَّكْلِيفُ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] إلَى آخِرِهَا فَكُلُّ هَذِهِ
الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ قُلْنَا هُوَ مُبَاحٌ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي فَنَقُولُ قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ دُونَ الضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ فَإِذَا وَرَدَ خِطَابٌ وَكَانَ مُتَعَلِّقُهُ مَقْدُورًا حُمِلَ عَلَيْهِ نَحْوَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ صُرِفَ الْخِطَابُ لِثَمَرَتِهِ أَوْ لِسَبَبِهِ وَمِثَالُ مَا يُحْمَلُ عَلَى ثَمَرَتِهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَالْآثَارِ وَهُوَ تَنْقِيصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا نُنْقِصُ الْحَدَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ.
وَمِثَالُ مَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَيُحْمَلُ عَلَى سَبَبِهِ قَوْله تَعَالَى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَوْ عَبَّرَ بِالْمَغْفِرَةِ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ عَكْسُ الْأَوَّلِ وقَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَالطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنْتِ طَالِقٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ، وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] وَالْمَوْتُ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَوْتِ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْمَوْتُ حِينَئِذٍ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ نَفْسِهِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى آثَارِهِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ وَآثَارُهُ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظُنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّتُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُ ذَلِكَ.
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ)
أَمَّا إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَوْ صَلَّى الْإِنْسَانُ أَلْفَ رَكْعَةٍ مَا أَجْزَأَتْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَدَفَعَ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَقَةً لَا تُجْزِئُ عَنْ دِينَارِ الزَّكَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ) قُلْت: الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا مُحْتَمَلَانِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَظْهَرُ وَأَقْوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي إلَى آخِرِهِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْآيَاتِ وَقَعَ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ وَلَا عُلِّقَ بِمُعَيَّنٍ أَمَّا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَمُطْلَقًا وَأَمَّا فِي آيَةِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ التَّكْلِيفُ بِإِقَامَتِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى بَعْضِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَى الْبَاقِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْحِرَابَةِ ثُمَّ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَارِسِينَ أَوَّلًا وَبِالْحِرَابَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ أَوَّلًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ الْآيَاتِ فِي أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَالَةَ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْجَمِيعِ إلَى قِسْمَيْنِ كُلُّ قِسْمٍ يَقُومُ بِوَاجِبٍ يَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْقِسْمِ الْآخَرِ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِقِيَامِهِ فِيهَا بِالْوَاجِبِ الْآخَرِ فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَالْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ انْتَهَى.
(وَصْلٌ) وَأَمَّا مَا بَنَى عَلَيْهِ الْأَصْلُ مَذْهَبَهُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ طَلَبَ الْكِفَايَةِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ أَلْبَتَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَدْعُو إلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَيْهِ إلَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ أَوْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ: وَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّيِّ الطَّلَبِ وَأَمَّا مِنْ جِهَةٍ جُزْئِيِّهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا وَرُبَّمَا تَشَعَّبَ تَشَعُّبًا طَوِيلًا وَلَكِنَّ الضَّابِطَ لِلْجُمْلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَبَ وَارِدٌ عَلَى الْبَعْضِ وَلَا عَلَى الْبَعْضِ كَيْفَ كَانَ وَلَكِنْ عَلَى مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ عُمُومًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] فَوَرَدَ التَّخْصِيصُ عَلَى طَائِفَةٍ لَا عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَوْلِهِ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 102] الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَرَدَ الطَّلَبُ فِيهَا نَصًّا عَلَى الْبَعْضِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى أَوْ الصُّغْرَى فَإِنَّهَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَوْصَافُهَا الْمَرْعِيَّةُ لَا عَلَى كُلِّ النَّاسِ وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَا شَرْعًا بِاتِّفَاقٍ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِهَا
فِي سَبْعِ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: إذَا تَوَضَّأَ مُجَدِّدًا ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا قَوْلَانِ وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ.
الثَّانِيَةُ: إذَا اغْتَسَلَ لِجُمُعَتِهِ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ وَقِيلَ تُجْزِئُ.
الثَّالِثَةُ: إذَا نَسِيَ لُمْعَةً مِنْ الْغَسْلَةِ الْأُولَى فِي وُضُوئِهِ وَكَانَ غَسْلُهَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ هَلْ تُجْزِئُهُ إذَا غَسَلَ الثَّانِيَةَ بِنِيَّةِ السُّنَّةِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ كَالتَّجْدِيدِ.
الرَّابِعَةُ: إذَا سَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ سَاهِيًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ تُجْزِئَاهُ عَنْ رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ.
الْخَامِسَةُ: إذَا ظَنَّ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ فَرْضِهِ فَصَلَّى بَقِيَّةَ فَرْضِهِ بِنِيَّةِ النَّافِلَةِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ
السَّادِسَةُ: إذَا سَهَا عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى خَامِسَةٍ سَاهِيًا هَلْ تُجْزِئُهُ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي نَسِيَ مِنْهَا السَّجْدَةَ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ.
السَّابِعَةُ: إذَا نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَرَاحَ إلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.
فَهَذَا هُوَ الَّذِي رَأَيْته وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا قَاعِدَةُ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ فَلَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُعْتَقَدُ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالْمُسَافِرَ وَنَحْوَهُمْ لَمَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ فَإِذَا حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَهَذَا الَّذِي رَأَيْته وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْمَذْهَبِ) قُلْت إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ كَمَا. قَالَ وَذَكَرَ مَا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَسْأَلَةُ الْمُجَدِّدِ وَالْمُغْتَسِلِ لِلْجُمُعَةِ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ وَنَاسِي اللُّمْعَةِ مِنْ الْغَسْلَةِ الْأُولَى وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَسَائِلَ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ بِالْإِجْزَاءِ فِي هَذِهِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوقِعِينَ لِهَذِهِ الطِّهَارَاتِ إنَّمَا أَرَادَ بِهَا إحْرَازَ كَمَالِهَا، وَالْكَمَالُ فِي رَأْيِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِجْزَاءَ بِخِلَافِ رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْكَمَالَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِجْزَاءَ فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِي الْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَائِلُ أَيْضًا بِالْإِجْزَاءِ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بَلْ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْيِينُ نِيَّةِ الْفَرْضِ وَلَا نِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَلِّمِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَالظَّانُّ أَنَّهُ سَلَّمَ فَمِنْ ذَلِكَ أَعْنِي مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا السَّادِسَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ السَّاهِي عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الْأُولَى الْقَائِمِ إلَى خَامِسَةٍ فَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إنَّمَا قَامَ فِي الْخَامِسَةِ لِأَدَاءِ بَقِيَّةِ فَرْضِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُ، وَأَمَّا السَّابِعَةُ وَهِيَ نَاسِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَمِنْ تِلْكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَيْنِ وَهِيَ مَحَلٌّ لِاحْتِمَالِ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (وَأَمَّا قَاعِدَةُ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ) فَلَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالْغَنَاءِ أَيْ النَّفْعِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ حَيْثُ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْقِيَامُ بِهِ عَلَى مَنْ فِيهِ نَجْدَةٌ وَشَجَاعَةٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا مَنْ لَا يُبْدِي فِيهَا وَلَا يُعِيدُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ وَمِنْ بَابِ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْمُجْتَلَبَةِ أَوْ الْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَدْفَعَةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَالثَّالِثُ مَا وَقَعَ مِنْ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ وَمَا وَقَعَ أَيْضًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَهَاهُ عَنْهُمَا فَلَوْ فُرِضَ إهْمَالُ النَّاسِ لَهُمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ بِدُخُولِ أَبِي ذَرٍّ فِي حَرَجِ الْإِهْمَالِ وَلَا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلُ الْإِمَارَةَ» .
وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي أَنَّهَا غَيْرُ عَامَّةِ الْوُجُوبِ وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْضَ النَّاسِ عَنْ الْإِمَارَةِ فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: نَهَيْتنِي عَنْ الْإِمَارَةِ ثُمَّ وُلِّيت، فَقَالَ لَهُ: وَأَنَا الْآنَ أَنْهَاك عَنْهَا وَاعْتَذَرَ لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ هُوَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا، وَرُوِيَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي أَنْ يَقُصَّ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَصَصِ الَّذِي طَلَبَهُ تَمِيمٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ مَطْلُوبَاتِ الْكِفَايَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعَلَى هَذَا الْمَهِيعِ جَرَى الْعُلَمَاءُ فِي تَقْرِيرِ كَثِيرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَفَرْضٌ هُوَ فَقَالَ أَمَّا عَلَى كُلِّ النَّاسِ فَلَا يَعْنِي بِهِ الزَّائِدُ عَلَى الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْإِمَامَةِ فَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَالْأَخْذُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ فَأَنْتَ تَرَاهُ قَسَّمَ فَجَعَلَ مَنْ فِيهِ قَبُولِيَّةً لِلْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا جَعَلَهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ النَّاسِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرَ كَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْجُمُعَةُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا كَالْوَاجِبِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إحْدَى الْخِصَالِ، فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ أَحْرَمَ بِإِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَمَا يُعَيِّنُ الْمُكَفِّرُ إحْدَى الْخِصَالِ بِالْعِتْقِ فَهُوَ مُعَيِّنٌ لِلْوَاجِبِ لَا فَاعِلٌ لِغَيْرِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ غَيْرِ الْوَاجِبِ هَا هُنَا هُوَ خُصُوصُ الْجُمُعَةِ لَا مُطْلَقُ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَالْجُمُعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهَا جُمُعَةً وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ كَوْنُهَا إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَأَجْزَأَتْ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهَا الْوَاجِبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهَا الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا أَنَّ الْمُكَفِّرَ عَنْ الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ فِي عِتْقِهِ أَمْرَانِ: خُصُوصٌ وَهُوَ كَوْنُهُ عِتْقًا، وَعُمُومٌ وَهُوَ كَوْنُهُ إحْدَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فَيُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ الْوَاجِبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا لَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فِي الِامْتِنَاعِ وَيَتَمَهَّدُ الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ أُخَرَ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالُوا: الْعَبْدُ لَا يَؤُمُّ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ، فَقِيلَ: إذَا حَضَرَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فَصَارَ مُفْتَرِضًا فَمَا ائْتَمَّ الْحُرُّ إلَّا بِمُفْتَرِضٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فَيَكُونُ الشُّرُوعُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَيَقَعُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِيهِ وَهُوَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَيَتَمَهَّدُ الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ. قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا بَلْ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالُوا الْعَبْدُ لَا يَؤُمُّ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَمُوقِعُ نَوْعَيْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَوْ أَنْوَاعِهِ لَا يُوقِعُ إلَّا وَاجِبًا فَالْعَبْدُ إذَا اخْتَارَ إيقَاعَ الْجُمُعَةِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاجِبَةً فَالْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ لَمْ يَكُنْ مُفْتَرِضًا ائْتَمَّ بِمُتَنَفِّلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُصُوصَاتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مُسَلَّمٌ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ هِيَ خُصُوصَاتٌ مُعَيَّنَاتٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْعُمُومَ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ هُوَ وَاجِبٌ وَهَلْ يُمْكِنُ إيقَاعُ الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَامٌّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ الشَّخْصِيِّ خَاصَّةً لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ فَالْعَامُّ عَلَى هَذَا لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْخَاصِّ وَهَذَا كُلُّهُ مُجَارَاةٌ لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَامٌّ وَذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَعْنِي الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ وَعَلَى هَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْوُجُوبُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ إلَّا بِخُصُوصٍ لَكِنَّهُ خُصُوصٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ وَتَعَيُّنُهُ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ هَذَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَاضِحٌ وَبَاقِي الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَوْكُولٌ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، وَبَيَانُ بَعْضِ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيَظْهَرَ وَجْهُهَا وَنَتَبَيَّنَ صِحَّتَهَا بِحَوْلِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ الْخَلْقَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِوُجُوهِ مَصَالِحِهِمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ثُمَّ وَضَعَ فِيهِمْ الْعِلْمَ بِذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّرْبِيَةِ تَارَةً بِالْإِلْهَامِ كَمَا يُلْهِمُ الطِّفْلَ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ وَتَارَةً بِالتَّعْلِيمِ فَطَلَبَ النَّاسَ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَصَالِحُ أَوْ كَافَّةِ مَا تُدْرَأُ بِهِ الْمَفَاسِدُ إنْهَاضًا لِمَا جُبِلَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمَطَالِبِ الْإِلْهَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَصْلِ لِلْقِيَامِ بِتَفَاصِيلِ الْمَصَالِحِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ أَوْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَوْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعَادِيَّةِ.
وَفِي أَثْنَاءِ الْعِنَايَةِ بِذَلِكَ يَقْوَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَمَا أُلْهِمَ إلَيْهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَيَظْهَرُ فِيهِ وَعَلَيْهِ وَيَبْرُزُ فِيهِ أَقْرَانَهُ مِمَّنْ لَمْ يُهَيَّأْ تِلْكَ التَّهْيِئَةَ فَلَا يَأْتِي زَمَانُ التَّعَقُّلِ إلَّا وَقَدْ نَجَمَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِيَّتِهِ فَتَرَى وَاحِدًا قَدْ تَهَيَّأَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَآخَرَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَآخَرَ لِلتَّصَنُّعِ بِبَعْضِ الْمِهَنِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا وَآخَرَ لِلصِّرَاعِ وَالنِّطَاحِ إلَى سَائِرِ الْأُمُورِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ غُرِزَ فِيهِ التَّصَرُّفُ الْكُلِّيُّ فَلَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ مِنْ غَلَبَةِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ فَيَرِدُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا فِي حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَضُ الطَّلَبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَطْلُوبَاتِ بِمَا هُوَ نَاهِضٌ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهِمْ الِالْتِفَاتُ إلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ فَيُرَاعُونَهُمْ بِحَسَبِهَا وَيُرَاعُونَهَا إلَى أَنْ تَخْرُجَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا حَتَّى يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَمَالَ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْخُطَطِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا فَيُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا إذَا صَارَتْ لَهُمْ كَالْأَوْصَافِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ وَتَظْهَرُ نَتِيجَةُ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ.
فَإِذَا فُرِضَ مَثَلًا وَاحِدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ ظَهَرَ عَلَيْهِ حُسْنُ إدْرَاكٍ وَجَوْدَةُ فَهْمٍ وَوُفُورُ حِفْظٍ لِمَا يَسْمَعُ وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ مِيلَ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ مُرَاعَاةً لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ فَطُلِبَ بِالتَّعَلُّمِ وَأُدِّبَ بِالْآدَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُمَالَ مِنْهَا
غَيْرُ وَاجِبٍ قِيلَ فَإِنْ كَانَ الشُّرُوعُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَقَدْ أَجْزَأَهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ فَخُصُوصُ الْجُمُعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَغَيْرُ الْوَاجِبِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ فَكَيْفَ أَجْزَأْته تَكْبِيرَةُ إحْرَامِهِ فَقِيلَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ أَيْضًا فِيهَا خُصُوصٌ وَهُوَ كَوْنُهَا بِالْجُمُعَةِ وَعُمُومٌ وَهُوَ كَوْنُهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ أَمَّا بِالْجُمُعَةِ وَأَمَّا بِالظُّهْرِ فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ عَيَّنَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي إحْرَامٍ خَاصٍّ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ إذَا أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ الرُّبَاعِيَّةِ أَيْضًا خُصُوصُ إحْرَامِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ يُعَيِّنُ الْوَاجِبَ وَإِذَا عَقِلْتَ ذَلِكَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَاعْقِلْهُ فِي بَقِيَّةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَفِي الرُّكُوعِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ مُطْلَقُ الرُّكُوعِ، وَفِي السُّجُودِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي جُمُعَةٍ أَوْ فِي ظُهْرٍ وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ مُطْلَقٌ السُّجُودِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ فَيَكُونُ الْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ وَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَعَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ تَكُونُ مِنْ بَابِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْبَحْثِ أَنْ لَا يَقْتَدِيَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ فِي ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذَا صَلَّاهَا أَرْبَعًا أَيْضًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرِضٍ بِالْخُصُوصِيَّاتِ بِخِلَافِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ظُهْرِ غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مُفْتَرِضٌ بِالْخُصُوصِيَّاتِ وَالْعُمُومِ فَاسْتَوَى الْحُرُّ مَعَهُ فِي ذَلِكَ فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ مَعَ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْ أَنِّي رَأَيْت هَذَا الْفَرْعَ مَنْقُولًا غَيْرَ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ وَيَلْحَقُ بِالْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَنَحْوُهُمَا حَرْفًا بِحَرْفٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَعْدِيدِ الْمَسَائِلِ بِذِكْرِهِمْ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ فَإِذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَهُوَ فَاعِلٌ لِخُصُوصٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَمَضَانَ وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ فَأَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ شَهْرَ الْقَضَاءِ فَخُصُوصُهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ خُصُوصُ الْقَضَاءِ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
هُوَ الصَّحِيحُ لَا مَا سِوَاهُ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَدَاءِ أَوْ شَهْرُ الْقَضَاءِ قُلْت: ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ (فَإِذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَهُوَ فَاعِلٌ لِخُصُوصٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَمَضَانَ وَعُمُومٍ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ فَأَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَمَضَانَ) قُلْت: مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إذَا اخْتَارَ صِيَامَ رَمَضَانَ فَهُوَ فَاعِلٌ لِخُصُوصٍ وَاجِبٍ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ قَدْ عَيَّنَهُ لِإِيقَاعِ الْوَاجِبِ كَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ تَعْيِينُهُ وَقَوْلُهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَمَضَانَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَهَلْ رَمَضَانُ إلَّا أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ وَهَلْ أَحَدُ الشَّهْرَيْنِ إلَّا رَمَضَانُ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ شَهْرَ الْقَضَاءِ إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إلَى بَعْضٍ فَيُؤْخَذَ بِهِ وَيُعَانَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ رَبَّانِيُّو الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ فَمَالَ بِهِ طَبْعُهُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَأَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ تُرِكَ وَمَا أَحَبَّ وَخُصَّ بِأَهْلِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ إنْهَاضُهُ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إهْمَالٍ لَهُ وَلَا تَرْكٍ لِمُرَاعَاتِهِ، ثُمَّ إنْ وَقَفَ هُنَالِكَ فَحَسَنٌ وَإِنْ طَلَبَ الْأَخْذَ فِي غَيْرِهِ أَوْ طَلَبَ بِهِ فَعَلَ مَعَهُ فِيهِ مَا فَعَلَ فِيمَا قَبْلَهُ هَكَذَا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ كَمَا لَوْ بَدَأَ بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَثَلًا فَإِنَّهُ الْأَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ فَإِنَّهُ يُصَرَّفُ إلَى مُعَلِّمِيهَا فَصَارَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ فِيمَا طَلَبَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهِمْ، فَإِذَا انْتَهَضَ عَزْمُهُ بَعْدُ إلَى أَنَّ صَارَ يَحْذِقُ الْقُرْآنَ صَارَ مِنْ رَعِيَّةِ مُفَسِّرِيهِ وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ كَذَلِكَ.
وَمِثْلُهُ إنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ أَوْ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ إلَى سَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ مِنْ الْعُلُومِ وَهَكَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ وَتَدْبِيرِ الْأُمُورِ فَيُمَالُ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَيُعَلَّمُ آدَابَهُ الْمُشْتَرَكَةَ ثُمَّ يُصَارُ بِهِ إلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ صَنَائِعِ التَّدْبِيرِ كَالْعِرَافَةِ أَوْ النِّقَابَةِ أَوْ الْجُنْدِيَّةِ أَوْ الْهِدَايَةِ أَوْ الْإِمَامَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ وَمَا ظَهَرَ لَهُ فِيهِ نَجَابَةٌ وَنُهُوضٌ وَبِذَلِكَ يَتَرَبَّى لِكُلِّ فِعْلٍ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةِ قَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ سَيْرٌ أَوَّلًا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ فَحَيْثُ وَقَفَ السَّائِرُ وَعَجَزَ عَنْ السَّيْرِ فَقَدْ وَقَفَ فِي مَرْتَبَةٍ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ قُوَّةٌ زَادَ فِي السَّيْرِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ الْكِفَائِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَنْدُرُ مَنْ يَصِلُ إلَيْهَا كَالِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْإِمَارَةِ فَبِذَلِكَ تَسْتَقِيمُ أَحْوَالُ الدُّنْيَا وَأَعْمَالُ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ التَّرَقِّي فِي طَلَبِ الْكِفَايَةِ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ وَلَا هُوَ عَلَى الْكَافَّةِ بِإِطْلَاقٍ وَلَا عَلَى الْبَعْضِ بِإِطْلَاقٍ وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَقَاصِدِ دُونَ الْوَسَائِلِ وَلَا بِالْعَكْسِ بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ نَظَرٌ وَاحِدٌ حَتَّى يُفَصَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ وَيُوَزَّعُ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ هَذَا التَّوْزِيعِ وَإِلَّا لَمْ يَنْضَبِطْ الْقَوْلُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ التَّجَوُّزِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْفَرْضِ قِيَامٌ بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَهُمْ مَطْلُوبُونَ بِسَدِّهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَبَعْضُهُمْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا مُبَاشَرَةً وَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهَا أَهْلًا وَالْبَاقُونَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَادِرُونَ عَلَى إقَامَةِ الْقَادِرِينَ فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوِلَايَةِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِقَامَتِهَا وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَطْلُوبٌ بِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ إقَامَةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الْقِيَامِ