الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْخَيْرِ بِسَبَبِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ، وَكَمَا يُعَاقِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ يُثِيبُ أَيْضًا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا الْأُمُورُ الْمُسْتَلَذَّةُ كَمَا فِي الْجَنَّاتِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا.
وَثَانِيهَا تَيْسِيرُ الطَّاعَاتِ فَيَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ مَثُوبَتَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] فَجَعَلَ الْيُسْرَى مُسَبَّبَةً عَنْ الْإِعْطَاءِ وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]{يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَثَالِثُهَا تَعْسِيرُ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ وَصَرْفُهَا عَنْهُ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَإِذَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ الْإِقَامَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ دَلَّ هَذَا الْحِرْمَانُ عَلَى أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ مَعَاصٍ سَابِقَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَفَوَاتُ الطَّاعَةِ مُصِيبَتُهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ فَإِنَّ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ طَيِّبَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُوجِبُ لِقَائِلِهَا ثَوَابًا سَرْمَدِيًّا خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ إصَابَةِ شَوْكَةٍ أَوْ غَمٍّ يَغُمُّهُ فِي فَلَسٍ يَذْهَبُ لَهُ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الطَّاعَاتِ مُسَبَّبًا عَنْ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ فَحِينَئِذٍ إذَا رَأَى الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ سَأَلَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مِثْلُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، فَالِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ تَرْكِ الْإِقَامَةِ لِأَجْلِ غَيْرِهَا لَا أَنَّهُ لَهَا، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَنْدُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّرْكُ مِنْ ذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لِأَجْلِ هَذِهِ التُّرُوكِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ أَمْرِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالِاسْتِغْفَارِ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ الذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَنَّهَا فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِأَجْلِهَا مُطَابِقَةٌ وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَجْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا أَنَّهُ لَهَا مُطَابَقَةٌ.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تُحَلُّ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ مِمَّا وَقَعَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَيُشْكِلُ ذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَنْ ذَلِكَ عَرَقٌ فَفِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْعَرَقِ وَطَهَارَتِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي رَمَادِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَيْهَا التَّغَيُّرَاتُ وَالِاسْتِحَالَاتُ.
وَأَمَّا إذَا صَارَ مَا وَرَدَ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ غِذَاءً مِنْ النَّجَاسَةِ لَحْمًا وَعَظْمًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا يَبْعُدُ الِاسْتِحَالَةُ كَمَا أَنَّ الدَّمَ إذَا صَارَ مَنِيًّا ثُمَّ آدَمِيًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَبْعُدُ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ ظَاهِرًا وَكَذَا مَا تَغَذَّتْ بِهِ الْبَقَرَةُ الْجَلَّالَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَبَنِ الْخِنْزِيرِ تَشْرَبُهُ الشَّاةُ يَطْهُرُ إذَا بَعُدَتْ الِاسْتِحَالَةُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَقَوْلُ الْأَصْلِ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ فِي جَوْفِهِ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهَا لَحْمًا وَعَظْمًا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا.
قَالَ وَقَوْلُهُ إنَّ الرُّومَ لَا يُذَكُّونَ فَيَنْجُسُ جُبْنُهُمْ وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْإِنْفَحَةِ كَمَا قَالَهُ مُحَقِّقُو الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ فِي الْعَصْرِ غَيْرَ ظَاهِرٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُذَكِّي وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ لَيْسَتْ الْإِنْفَحَة مُتَعَيِّنَةً لِعَقْدِ الْجُبْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ بِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ كَبَعْضِ الْأَعْشَابِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ مَا ارْتَضَاهُ وَحَكَاهُ بِلَا شَكٍّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّذِينَ يَكُونُ الْجُبْنُ الْمُعَيَّنُ جُبْنَهُمْ لَا يُذَكُّونَ وَإِنَّهُمْ لَا يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ الْإِنْفَحَةِ أَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَهُوَ مَوْضِعُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَقْوَى نَقْلًا وَنَظَرًا الْجَوَازُ وَعَدَمُ التَّنْجِيسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ]
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ) الْمَنْدُوبُ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ هُوَ مَا لَمْ تَعْرِضْ ضَرُورَةٌ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْوَاجِبُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأَغْلَبِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَتْهُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا» الْحَدِيثَ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَنْدُوبُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ هُوَ مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ الَّتِي لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَاجِبِ إلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ وَكَذَا لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْغَلَبَةَ عَلَى عَقْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِرَفْعِ الضَّرَرِ
وَمِنْهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ مَنْدُوبٌ قُدِّمَ عَلَى وَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ تُرِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِضَرُورَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّقَرُّبِ اللَّائِقِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً بَعْدَ ضَنْكِ الْأَسْفَارِ وَقَطْعِ الْبَرَارِيِ وَالْقِفَارِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَوْطَانِ النَّائِيَةِ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى مَصْلَحَةِ وَقْتِ الْعَصْرِ لِأَنَّ فَوَاتَ الزَّمَانِ هُنَا لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ الزَّمَانِ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُوَافِقُونَ عَلَى النُّزُولِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَهُوَ ضَرَرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِخِلَافِ ضَرُورَةِ مَصَالِحِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا.
وَثَانِيهَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ إذَا جَاءَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ وَوَاجِبَةً قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ
عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِيهَا إشْكَالٌ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ وَالْبَيَانِ.
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيَّ فِي رِسَالَتِهِ حَكَاهُ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ وَشَرَعَهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِجَارَةِ وَمَنْ قَارَضَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِرَاضِ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَمَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَتَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ مَعْصِيَتَيْنِ، وَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَةً وَعَصَاهُ مَعْصِيَةً.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عليه السلام {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] وَمَعْنَاهُ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَذَلِكَ سَبَبُ كَوْنِهِ عليه السلام عُوتِبَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ عز وجل لِابْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لِكَوْنِهِ سَأَلَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُهُ أَمْ لَا فَالْعَتْبُ وَالْجَوَابُ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِلْمِ بِمَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ) قُلْت: وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ مِمَّا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَوَقَعَ فِيهِ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي رَأَيْتهَا مِنْهُ نَقْصٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فَلِذَلِكَ قُلْت مَا وَقَفْت عَلَيْهِ..
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِلْإِمَامِ مَالِكٍ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَامَ حَجِّهِ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ إنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَيْنَ لَك ذَلِكَ وَأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَهُمَا خُطْبَةٌ.
وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ جَهَرَ فِيهِمَا أَوْ أَسَرَّ فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ وَظَهَرَتْ الْحُجَّةُ لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بِسَبَبِ الْإِسْرَارِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ جَهْرِيَّةٌ فَلَمَّا صَلَّى عليه السلام رَكْعَتَيْنِ سِرًّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَإِنَّ الْخُطْبَةَ لِيَوْمِ عَرَفَةَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ السَّفَرُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ الظُّهْرُ دُونَ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ النَّادِرَ وَهُوَ الْمُقِيمُ بِعَرَفَةَ وَمَنْ مَنْزِلَتُهُ قَرِيبٌ مِنْهَا تَبَعًا لِلْغَالِبِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ فَتَرْكُ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ مِنْ مِثْلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلظَّلَامِ وَالْمَطَرِ وَالطِّينِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ فِيمَا عَدَا الْحَالَ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ أَمَّا فِي الْحَالِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ كَمَا هُنَا فَلَيْسَ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَثَلًا إلَى وَقْتِهَا مِنْ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا إلَى وَقْتِ الْأُولَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَهَا لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهَا إلَى وَقْتِهَا فَلَمْ يَضِعْ وَاجِبٌ بِالْجَمْعِ وَلَا قُدِّمَ مَنْدُوبٌ عَلَى وَاجِبٍ وَلَا خُولِفَتْ فِي ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ هُنَا أَيْضًا وَأَنَّ هَذَا الْوَاجِبَ إنَّمَا ضَاعَ بِالْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ لِمَا يَلْحَقُ الْجَمَاعَةَ مِنْ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ إمَّا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بُيُوتِهِمْ وَعَوْدِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَإِمَّا بِإِقَامَتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَيُصَلُّوهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْجَمْعِ لِجَوَازِ دَفْعِهِ بِغَيْرِهِ أَيْضًا وَهُوَ تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ يَخْرُجُوا الْآنَ وَيُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ أَفْذَاذًا فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ فِي دَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَحَلَّ دَفْعِ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَتَقْدِيمِ الْمَنْدُوبِ عَلَيْهِ إذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَإِلَّا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَعَ هَذَا التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِ تَرْكِ الْوَاجِبِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ.
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ وَنَوَاهِيهِ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ حَتَّى يَكُونَ أَدْنَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالنَّدْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَصْلَحَةُ وَالنَّدْبُ وَتَعْظُمُ رُتْبَتُهُ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَنْدُوبَاتِ تَلِيهِ أَدْنَى رُتَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَدْنَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَدْنَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَفَاسِدُ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْعِظَمِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ يَلِيهِ أَدْنَى الْمُحَرَّمَاتِ وَقِسْمٌ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ لَا تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ بَلْ تَارَةً يُسَاوِي الْوَاجِبَ وَتَارَةً يَفْضُلُهُ فِيهَا فَمَا وَرَدَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهَا مَعَ الْعِشَاءِ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ
يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عليه السلام عَنْ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ فَلَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُعْلَمَ فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله طَلَبُ الْعِلْمِ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فَفَرْضُ الْعَيْنِ عِلْمُك بِحَالَتِك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا.
وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِمَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ وَاجِبًا كَانَ الْجَاهِلُ فِي الصَّلَاةِ عَاصِيًا بِتَرْكِ الْعِلْمِ فَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ رحمه الله: إنَّ الْجَهْلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمْدِ، وَالْجَاهِلُ كَالْمُتَعَمِّدِ لَا كَالنَّاسِي.
وَأَمَّا النَّاسِي فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عليه السلام «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَذَا فَرْقٌ، وَفَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ وَبِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ
. (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ)
اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالَاتٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالَاتٍ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ إلَى آخِرِهِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ غَيْرَ إطْلَاقِهِ لَفْظَ الظَّنِّ فِي وَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الظَّنِّ الَّذِي يَخْطِرُ لِصَاحِبِهِ احْتِمَالُ نَقِيضِهِ فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَوَابًا، وَإِنْ أَرَادَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقَادَ الْجَزْمِيَّ الَّذِي لَا يَخْطِرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ فَذَلِكَ صَوَابٌ وَغَيْرَ قَوْلِهِ تَكْلِيفُ الْمَرْأَةِ الْبَلْهَاءِ الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجِ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ الْفَاسِدَةَ الْمِزَاجُ بِحَيْثُ لَا تَفْقَهُ شَيْئًا فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَوَابًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الَّذِي هُوَ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِهَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ سَوَاءٌ أَعْلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَةَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ أَمَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَكْثَرُ كَمَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَأَنَّ ثَوَابَهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَلَا كَلَامَ كَمَا إذَا عَلِمْنَا التَّسَاوِي لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِرَادَتِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بِسَبَبِ قَصْدِ الْوُجُوبِ فِيهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ فَلِأَنَّا نَسْتَدِلُّ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَنَقُولُ مَا قَدَّمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الْمَنْدُوبَ عَلَى هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا لِكَوْنِ مَصْلَحَتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا الشَّرِيعَةَ فَوَجَدْنَاهَا مَصَالِحَ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إذَا سَمِعْتُمْ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَمِعُوا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِخَيْرٍ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ شَرٍّ هَذَا كَلَامُ الْأَصْلِ مُلَخَّصًا إلَّا أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ إنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ وَنَوَاهِيَهُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَتْبَعُ الْأَوَامِرَ وَالْمَفَاسِدَ تَتْبَعُ النَّوَاهِيَ أَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا خَفَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ هِيَ الْمَنَافِعُ وَلَا مَنْفَعَةَ أَعْظَمُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْمَفَاسِدُ هِيَ الْمَضَارُّ وَلَا ضَرَرَ أَعْظَمُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ.
وَأَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَعَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ الظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ نَعَمْ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَرَدَتْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَصَالِحُ وَإِنَّ النَّوَاهِيَ وَرَدَتْ لِتَرْتَفِعَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَفَاسِدُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ إنَّهُ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبَاتٌ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَثَوَابُهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَلَا صَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ.
وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ وَالْمُنَاسِبُ لِلْبِنَاءِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَى حَدِّ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ وَاجِبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِوَجْهٍ وَمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ الصُّوَرِ السَّبْعِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْدُوبَاتِ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ.
أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْأَعْظَمَ فِيهَا أَجْرًا إنَّمَا هُوَ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّ الْأَعْظَمَ أَجْرًا هُوَ إبْرَاؤُهُ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ إذْ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ الَّذِي هُوَ إسْقَاطٌ لِلطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ طَلَبِهِ بَعْدُ مُتَضَمِّنًا لِلْإِنْظَارِ الَّذِي هُوَ تَأْخِيرُ الطَّلَبِ بِالدَّيْنِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِطَلَبِهِ بَعْدُ وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمُكَلَّفِ نَحْوَ الظُّهْرِ إذَا فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَقَعَتْ وَاجِبَةً.
وَإِذَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْوَاجِبَيْنِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْآخَرِ