الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضَّيْفِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْجَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَيِّتِ الَّتِي يَقْتَضِي مِثْلُهَا أَنْ لَا يَمُوتَ فَإِنَّ بِمَوْتِهِ هَذِهِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ وَيَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَيَعْظُمُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ مِثْلِهِ وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كَانَتْ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَتَطْوِيلَ عُمْرِهِ لِتَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ فِي الْعِلْمِ فَمَتَى كَانَ لَفْظُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا كَانَ حَرَامًا، وَهَذَا أَشَرُّ النُّوَاحِ وَتَارَةً لَا تَصِلُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ غَيْرَ أَنَّهُ تَبْعُدُ السَّلْوَةُ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَتَهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجَرِهِمْ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ فَهَذَا أَيْضًا حَرَامٌ، وَمَتَى كَانَ لَفْظُ النَّائِحَةِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ ذِكْرُ دِينِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ، وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَإِنْ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَأْمُرَ أَهْلَ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ، وَتَحُثَّهُمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ تَتَخَرَّجُ الْمَرَاثِي فَتَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى الْمُحَرَّمَةِ الْكَبِيرَةِ وَإِلَى الْمُحَرَّمَةِ الصَّغِيرَةِ وَإِلَى الْمُبَاحِ وَإِلَى الْمَنْدُوبِ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْمَرْثِيَّةِ فَمِنْ الْمَرَاثِي الْمُبَاحَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ التَّحْرِيمِ مَا رَثَى بِهِ ابْنُ عُمَرَ أَخَاهُ عَاصِمًا لَمَّا مَاتَ فَقَالَ:
فَإِنْ تَكُ أَحْزَانٌ وَفَائِضُ دَمْعَةٍ
…
جَرَيْنَ دَمًا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ مُنْقَعَا
تَجَرَّعْتهَا فِي عَاصِمٍ وَاحْتَسَبْتهَا
…
فَأَعْظَمُ مِنْهَا مَا احْتَسَى وَتَجَرَّعَا
فَلَيْتَ الْمَنَايَا كُنَّ خَلَّفْنَ عَاصِمًا
…
فَعِشْنَا جَمِيعًا أَوْ ذَهَبْنَ بِنَا مَعَا
دَفَعْنَا بِك الْأَيَّامَ حَتَّى إذَا أَتَتْ
…
تُرِيدُك لَمْ نَسْطِعْ لَهَا عَنْك مِدْفَعَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
رَضِيَك النَّبِيُّ عليه السلام لِدِينِنَا مُطْلَقَ الرِّضَا بِحَيْثُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً بَلْ الرِّضَا الْخَاصُّ الْمُفَسَّرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ مِنْ نَحْوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَحَاسِنِهِ الَّتِي تُوجِبُ تَقْدِيمَهُ وَمِنْ تَقْدِيمِهِ عليه السلام فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ قَوْلِهِ عليه السلام فِي مَرَضِ مَوْتِهِ «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ» فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَاكَ لِلْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُشِيرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخِلَافَةِ كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِلصَّلَاةِ فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ رضي الله عنه هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِلْخِلَافَةِ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عليه السلام يَتَّبِعُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وُكِّلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ وَإِنَّهُ عليه السلام كَانَ يُشِيرُ وَيُومِئُ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ إلَى خِلَافَتِهِ، أَوْ يُقَالُ قَصَدَ عُمَرُ رضي الله عنه بِذَلِكَ تَسْكِينَ الثَّائِرَةِ وَالْفِتْنَةِ وَرَدْعَ الْأَهْوَاءِ بِذِكْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِيَسْكُنَ لَهَا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَنْدَفِعَ الْفَسَادُ أَوْ يُقَالُ إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه فَهِمَ مِنْ إشَارَتِهِ عليه السلام أَنَّ الصِّدِّيقَ مَرْضِيٌّ لِجَمِيعِ حُرُمَاتِ الدِّينِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَحْوَالُ الْأُمَّةِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمِلَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَهَمِّ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَهُوَ مِنْ الدِّينِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ لِدِينِنَا عَلَى بَابِهَا مُوجِبٌ لِلْعُمُومِ لِكَوْنِ الْأُصُولِيِّينَ جَعَلُوهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لُغَةً فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عليه السلام «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَاءِ الْبَحْرِ وَمَيْتَتِهِ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَفَلَا نَرْضَاكَ لِدُنْيَانَا أَيْ مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ فَلَا نُقَدِّمُ عَلَيْك مِنْ الْأَنْصَارِ مَنْ يَطْلُبُ التَّقَدُّمَ عَلَيْك فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ مِنْ تَحْصِيلِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ لِمُتَوَلِّي أَمْرِ الْأُمَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَا نُشْرِكُ مَعَك مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ الشَّرِكَةَ فِيهِ طَمَعًا لِتَحْصِيلِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُجُورِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَحْوَالِ الْأَنْصَارِ فِي بَذْلِهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ الْمَرْضِيَّ لِمَعَالِي الْأُمُورِ لَا يَقْصُرُ دُونَ خَسِيسِهَا.
وَلِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْمُشَاقَقَةِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] إنَّهُ الْخِلَافَةُ وَإِنَّهُ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لِيَنْصُرُوهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ وَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك فَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم إنِّي قَدْ مُنِعَتْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] » فَلَمْ يَكُنْ لِلْأَنْصَارِ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَيْءٌ كَمَا هُوَ مُسْتَوْعَبٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّا بِالْقَيْرَوَانِ وَإِنَّا نَعْلَمُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا بِالْقَضَاءِ، وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْفُتْيَا، وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْإِمَامَةِ أَيَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ]
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَانِ الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالرَّوَافِعُ لِلْأَسْبَابِ لَا تُعْتَبَرُ) الْقَاعِدَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ هِيَ أَنَّ كُلَّ مَشْكُوكٍ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا مُلْغًى فَكُلُّ سَبَبٍ شَكَكْنَا فِي طَرَيَانِهِ لَمْ نُرَتِّبْ عَلَيْهِ مُسَبِّبَهُ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ كَالْمَعْدُومِ وَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبُ
فَهَذَا رِثَاءٌ مُبَاحٌ لَا يَحْرُمُ مِثْلُهُ.
وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى التَّجْوِيرِ وَلَا تَسْفِيهِ الْقَضَاء بَلْ إنَّهُ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ لِمَيِّتِهِ، وَكَانَ يَشْتَهِي لَوْ مَاتَ مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لَا غَرْوَ فِيهِ، وَمِثَالُ الرِّثَاءِ الْمَنْدُوبِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تُرْجُمَان الْقُرْآنِ وَافِرَ الْعَقْلِ جَمِيلَ الْمَحَاسِنِ وَالْجَلَالَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَة فَأَعْظَمَهُ النَّاسُ عَلَى التَّعْزِيَةِ إجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً بِسَبَبِ عَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَظَمَةِ مَنْ أُصِيبَ بِهِ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ وَالِدِهِ وَكَانَ يُقَالُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ. وَمَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ فَلَمَّا مَاتَ عَظُمَ خَطْبُهُ وَجَلَّتْ رَزِيَّتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَفِي صَدْرِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما وَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْ تَعْزِيَتِهِ فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ فَبَعْدَ الشَّهْرِ قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ مَا تُرِيدُ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُعَزِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاس رضي الله عنهما فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ عَسَاهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّعْزِيَةِ فَلَمَّا رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك يَا أَبَا الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَأَنْشَدَهُ:
اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ
…
فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ
خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ
…
وَاَللَّهُ خَيْر مِنْك لِلْعَبَّاسِ
فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سُرِّيَ عَنْهُ عَظِيمُ مَا كَانَ بِهِ. وَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي تَعْزِيَتِهِ
وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاء مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ مُحْسِنٌ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْحُكْمَ وَكُلُّ شَرْطٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبُ الْحُكْمَ، وَكُلُّ مَانِعٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إنْ وُجِدَ سَبَبُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الطَّهَارَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ جَعَلَ الْعُلَمَاءَ - وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهَا فِيهَا أَيْضًا - يَخْتَلِفُونَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي تُلْغَى بِهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ فِيهَا.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إذَا شُكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ جَعَلْته كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ لَا يَجِبُ مَعَهُ الْوُضُوءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ الْوُضُوءُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشَّكُّ فِي طَرَيَانِ الْحَدَثِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ، وَالشَّكُّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ هَلْ هِيَ سَبَبٌ مُبَرِّئٌ أَمْ لَا.
وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ تَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مُبَرِّئٍ مَعْلُومِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونِ الْوُجُودِ لَا مَشْكُوكِ الْوُجُودِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذَا الصَّلَاةُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهَا، وَالْمَجْزُومُ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه حَرْفًا بِحَرْفٍ فَكِلَاهُمَا يَقُولُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ مُلْغًى لَكِنَّ إلْغَاءَ مَالِكٍ فِي السَّبَبِ الْمُبَرِّئِ وَإِلْغَاءَ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَدَثِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصِدٌ وَالطَّهَارَاتِ وَسَائِلٌ وَطَرْحُ الشَّكِّ تَحْقِيقًا لِلْمَقْصِدِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِهِ لِتَحْقِيقِ الْوَسَائِلِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ إلْغَاءِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَدَمِ إلْغَائِهِ فِي طَرَيَان غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ وَرَوَافِعِهَا كَالشَّكِّ فِي طَرَيَان الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ فَيُلْغَى الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ أَوْ فِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِ حِلِّ الْعِصْمَةِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ، أَوْ فِي أَنَّهُ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِ سُجُودِ السَّهْوِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ، أَمَّا إذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الْيَمِينِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ إذْ لَا يَعْلَمُ السَّبَبَ الْمُبَرِّئَ إلَّا بِاسْتِيعَابِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ إذَا شَكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَتِهَا أَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَاحِدَةً فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَمْ يَقَعْ فِي الطَّلَاقِ بَلْ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الرَّجْعَةِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ أَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَيَأْتِي بِرَابِعَةٍ، وَيَسْجُدُ إذْ لَيْسَ هُنَا شَكٌّ فِي السَّبَبِ حَتَّى يُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ بَلْ سَبَبٌ فِي الشَّكِّ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ نَصَبَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا لِلسُّجُودِ لَا لِلزِّيَادَةِ.
وَهُوَ مُحَقَّقٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ وَالْأَرْبَعِينَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ بَسْطُ مَسَائِلِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَالسَّبَبِ فِي الشَّكِّ فَلْتُطَالِعْ ثَمَّةَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ اعْتِبَارِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشَّكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَفِي أَنَّهُ هَلْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَفِي أَنَّهُ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ يَجِبُ الْوُضُوءُ، وَفِي الثَّانِي يَلْزَمُهُ، وَفِي الثَّالِثِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ، وَفِي الرَّابِعِ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا، وَيُصَلِّي الرَّابِعَةَ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِأَجْلِ الشَّكِّ فَاعْتَبَرَهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَحْوِهَا وَبَيْنَ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ الشَّكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَفِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا، وَفِي أَنَّهُ هَلْ سَهَا أَمْ لَا حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ لَا عِبْرَةَ بِالطَّهَارَةِ، وَفِي الثَّانِي وَفِي الثَّالِثِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِإِلْغَاءِ الشَّكِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَحْوِهَا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَصْلٌ) حَدَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ السَّبَبَ وَالْعِلَّةَ بِالْوَصْفِ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ الْمُعَرِّفِ
لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ، فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعَ أَهْلُ بَيْتِهِ قَائِلًا يَقُولُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إنَّ فِي اللَّه خَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ ذَاهِبٍ فَإِيَّاهُ فَارْجَوْا وَبِهِ فَثِقُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ الْخَضِرَ عليه السلام فَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ وَمُنْدَرِجٌ فِي سِلْكِ الْمَنْدُوبَات وَمِنْ الرِّثَاءِ الْمُحَرَّمِ الْفَظِيعِ مَا وَقَعَ فِي عَصْرِنَا فِي رِثَاء الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الصَّالِحِ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ فَعَمِلَ لَهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَزَاءً جَمَعَ فِيهِ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ فَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَتِهِ:
مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ
…
وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ
فَسَمِعَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَام رحمه الله وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَحْفِلِ فَأَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ.
وَأَغْلَظ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ، وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِير فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عز وجل تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ وَهَذَا إمَّا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ الْكُفْرِ فَالشُّعَرَاءُ فِي مَرَاثِيهِمْ يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَوْدِيَةُ هِيَ أَوْدِيَةُ الْهِجَاءِ الْمُحَرَّمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ، فَظَهَرَ لَك بِهَذَا الْبَسْطِ وَالتَّقْرِيرِ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّوَاحِ الْمُحَرَّمِ وَالرِّثَاءِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِلْحُكْمِ فَخَرَجَ بِالظَّاهِرِ الْخَفِيُّ كَاللَّذَّةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَالْعُلُوقِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُمَا لِخَفَائِهِمَا تُرِكَا، وَجُعِلَ السَّبَبُ فِي النَّقْضِ اللَّمْسَ وَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ، وَخَرَجَ بِالْمُنْضَبِطِ نَحْوُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ لَمْ يُنَطْ بِهَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا لِاخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا أُنِيطَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ وَدَخَلَ بِالْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ التَّامَّةِ لَا خُصُوصِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ السَّبَبُ الْمُعَرِّفُ لِحُكْمٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ كَحِلِّ الشَّعْرِ بِالنِّكَاحِ وَحُرْمَتِهِ بِالطَّلَاقِ جُعِلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِلَّةً لِثُبُوتِ حَيَاتِهِ كَالْيَدِ، وَحَدُّ الْمَانِعِ الْمُرَادِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مَانِعُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ الْمُعَرِّفِ نَقِيضَ حُكْمِ السَّبَبِ فَقَيَّدَ الْوَصْفَ فِي حَدِّ الْمَانِعِ بِالْوُجُودِيِّ لِإِخْرَاجِ عَدَمِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مَانِعًا لَا تَسَمُّحًا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَأَطْلَقَهُ فِي حَدِّ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إمَّا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ فِي السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ مَانِعٌ لِوُجُودِ حُكْمِ السَّبَبِ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ كُلُّ مُعْتَبَرٍ فِي الْحُكْمِ مِنْ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِلْمَانِعِ وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ عَدَمَ شَيْءٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُ الشَّيْءِ سَبَبًا فِي الْوُجُودِ أَوْ بَعْضَ سَبَبٍ وَشَرْطٍ فِيهِ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ سَبَبًا إلَخْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلنَّقِيضِ أَيْ الْعَلَامَةُ عَلَيْهِ وَنَقِيضُ الشَّيْءِ رَفْعُهُ فَالْأُبُوَّةُ مَثَلًا نَفَتْ وُجُوبَ الْقِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلَ ابْنَهُ لَا غَيْرُ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْقِصَاصِ مِنْهُ فَبِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لَهَا كَمَا قَالَهُ سم وَهُوَ الْحَقُّ، وَإِذَا كَانَ عَدَمُ الشَّيْءِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الشَّيْءِ بِأَنْ يُقَالَ انْتَفَى كَذَا لِعَدَمِ كَذَا كَانَ وُجُودُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ، وَأَمَّا السَّبَبُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ رَفْعُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ لَيْسَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى السَّبَبِ، بَلْ الْمُعَلَّلُ بِهِ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَدَمِيًّا كَمَا يُعَلَّلُ عَدَمُ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ الْعَقْلِ فَإِنَّ عَدَمَ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْتِفَاءٌ لِحُكْمِ السَّبَبِ حَتَّى يَكُونُ عَدَمُ الْعَقْلِ مَانِعًا فَلَا يَصِحُّ بَلْ مَأْخُوذٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ هُوَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِانْتِفَاءِ عِلَّةِ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ، جَوَّزُوا كَوْنَ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ عَدَمًا مُضَافًا بِخِلَافِ الْمَانِعِ نَعَمْ فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ عَدَمِيَّةً مَعَ وُجُودِ الْحُكْمِ نِزَاعٌ كَبِيرٌ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْعَضُدُ وَالْمُخْتَارُ مَنْعُهُ وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ فِي السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فَأَمْرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَانِعَ لِلْحُكْمِ هُوَ مَا اسْتَلْزَمَ حِكْمَةً تَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ كَالْأُبُوَّةِ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ كَوْنَ الْأَبِ سَبَبًا لِوُجُودِ الِابْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِيرَ الِابْنُ أَيْ مِنْ حَيْثُ قَتْلِهِ سَبَبًا لِعَدَمِهِ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حِكْمَةٌ تَقْتَضِي الْحُكْمَ لَا نَقِيضَهُ نَعَمْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَانِعِ بَعْدَ تَحَقُّقِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَانِعِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَانِعُ عَلَى مَا يَتَحَقَّقُهُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ فَيَشْمَلُ عَدَمَ الشَّرْطِ فَلِذَا قَالَ الْعَضُدُ: حَقِيقَةُ الشَّرْطِ أَنَّ عَدَمَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ وُجُودُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ فَبِالْحَقِيقَةِ عَدَمُهُ مَانِعٌ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ فِي عَدَمِهِ تُنَافِي حِكْمَةَ الْحُكْمِ أَوْ السَّبَبِ إلَى آخِرِ مَا بَيَّنَهُ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ فِي مَانِعِ الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ عَدَمَ شَيْءٍ لِمَا عَلِمْت كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي مَانِعِ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ عَدَمَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَلْزَمَ حِكْمَةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ كَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهَا، فَإِنَّ حِكْمَةَ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ اسْتِغْنَاءُ الْمَالِكِ، وَلَيْسَ مَعَ الدَّيْنِ اسْتِغْنَاءٌ