الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مُطْلَقًا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ - وَهِيَ قَاعِدَةُ التَّقَادِيرِ - يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْبَاحِ وَقَاعِدَةِ الْفَوَائِدِ إنْ قُلْنَا بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ قَاعِدَةٍ فِي التَّرْجِيحَاتِ - وَضَابِطُ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَطْلُوبَاتِ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْحُقُوقُ قُدِّمَ مِنْهَا الْمُضَيَّقُ عَلَى الْمُوَسَّعِ؛ لِأَنَّ التَّضْيِيقَ يُشْعِرُ بِكَثْرَةِ اهْتِمَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَا جَعَلَهُ مُضَيَّقًا، وَأَنَّ مَا جَوَّزَ لَهُ تَأْخِيرَهُ وَجَعَلَهُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ.
وَيُقَدَّمُ الْفَوْرِيُّ عَلَى الْمُتَرَاخِي؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّعْجِيلِ يَقْتَضِي الْأَرْجَحِيَّةَ عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ تَأْخِيرُهُ، وَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْأَعْيَانِ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّةَ مَا طُلِبَ مِنْ الْبَعْضِ فَقَطْ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكَرُّرِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَالْأَعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ الَّذِي لَا تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ مَا يُخْشَى فَوَاتُهُ عَلَى مَا لَا يُخْشَى فَوَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا تَفُوتُ.
وَحِكَايَةُ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ تَفُوتُ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْأَذَانِ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ صَوْنُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْعِبَادَاتِ إذَا خَرَجَتْ عَنْ الْعَادَةِ كَتَقْدِيمِ صَوْنِ الْمَالِ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَيُنْتَقَلُ لِلتَّيَمُّمِ، وَكَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْحَجِّ إذَا أَفْرَطَتْ الْغَرَامَاتُ فِي الطُّرُقَاتِ وَيُقَدَّمُ صَوْنُ النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ فَيُقَدَّمُ إنْقَاذُ الْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى الصَّلَاةِ إذَا كَانَ فِيهَا، أَوْ خَارِجًا عَنْهَا وَخَشِيَ فَوَاتَ وَقْتِهَا فَيُفَوِّتُهَا وَيَصُونُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَهُوَ أَقْوَى ضَرُورَةَ أَنَّ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْحَجِّ بِالذَّاتِ.
وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَكِّيَّ يَحُجُّ بِلَا مَالٍ فَكَمَا أَنَّ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَعْرِضُ فِي الْجُمُعَاتِ فِيمَنْ احْتَاجَ لِلرُّكُوبِ إلَيْهَا فَاكْتَرَى لِذَلِكَ وَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا كَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْحَجِّ نَعَمْ لِغَيْرِ مَالِكٍ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ عُرُوضَ الْمَالِ فِي الْحَجِّ أَكْثَرُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ الْحَجِّ عَنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى يُحْرِمُ عَنْهُمْ غَيْرُهُمْ وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحَجِّ وَالْعِبَادَاتِ أَمْرٌ مُتَّبَعٌ اهـ كَلَامُ الْأَصْلِ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يَنْتَقِضُ بِالصَّوْمِ فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ اهـ وَمُرَادُهُ بِالْحَدِيثِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» .
وَأَمَّا حَدِيثُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَتَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ فَقَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيهِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» فَقَالَ الزَّرْقَانِيُّ عَلَى الْمُوَطَّإِ قَدْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ السَّائِلَ امْرَأَةٌ أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. وَفِي أُخْرَى وَعَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأُخْرَى أَنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَأُخْرَى قَالَ رَجُلٌ مَاتَتْ أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ نَعَمْ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ اضْطِرَابًا، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافٌ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَقَائِعِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ لِاتِّحَادِ الْمُخَرِّجِ فَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ اهـ فَتَأَمَّلْ وَسَيَأْتِي فِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَةِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُجْزِئُ فِيهِ فِعْلُ الْغَيْرِ عَنْ ابْنِ الشَّاطِّ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ مَعَ هَذَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ مَسَائِلَ لِتَوْضِيحِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَا فَتَرَقَّبْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ وَمَا لَا يُضْمَنُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ]
(الْفَرْقُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ)
وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ، لِلضَّمَانِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ، وَالثَّانِي الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَالثَّالِثُ الْوَاجِبُ فِي الضَّمَانِ فَأَمَّا مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: كُلُّ مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ، أَوْ تَلِفَ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَيْ، أَوْ غَيْرِهِ عَيْنُهُ بِأَمْرٍ مِنْ السَّمَاءِ، أَوْ سُلِّطَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمُلِّكَ وَذَلِكَ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ بِاتِّفَاقٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ مِثْلِ الْعَقَارِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّهَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَعْنِي أَنَّهَا إنْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ ضَمِنَ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ كَوْنُ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى الْعَقَارِ مِثْلُ كَوْنِ يَدِهِ عَلَى مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ فَمَنْ جَعَلَ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدًا قَالَ بِالضَّمَانِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدًا قَالَ لَا ضَمَانَ اهـ.
وَأَمَّا الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ فَثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ لَا رَابِعَ لَهَا فَمَتَى وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَجَبَ الضَّمَانُ وَمَتَى لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ:
أَحَدُهَا الْعُدْوَانُ كَالْقَتْلِ وَالطَّرْقِ، وَهَدْمِ الدُّورِ وَأَكْلِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ قَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُبَاشَرَةِ أَيْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ الْعَمْدُ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ فَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْأَمْوَالَ تُضْمَنُ عَمْدًا وَخَطَأً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ جُزْئِيَّةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فَالْمَعْلُومُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا وَلِذَلِكَ رَأَى عَلَى الْمُكْرَهِ الضَّمَانَ، أَعْنِي الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِتْلَافِ اهـ
وَثَانِيهَا التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ قَالَ الْأَصْلُ: وَلِلسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَكِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ
مَا تَعَيَّنَ صَوْنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ صَوْنُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى الصَّلَاةِ إذَا خُشِيَ فَوَاتُهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَقُّ اللَّهِ يُقَدَّمُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالْمُحَالَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِدَلِيلِ تَرْكِ الطَّهَارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ إذَا عَارَضَهَا ضَرَرُ الْعَبْدِ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَّضِحُ لَك مَا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ مِمَّا لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْحَجِّ، إذَا قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا وَالْفَوْرِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَرَاخِي وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ حَقُّ السَّيِّدِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ وَحَقُّ السَّيِّدِ وَاجِبٌ فَوْرِيٌّ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَوْرِيٌّ وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْحَالُّ الْخُرُوجَ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ فَوْرِيٌّ وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ.
قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ رَكْعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ عَلَى الْحَجِّ إذَا لَمْ يَبْقَ قَبْلَ الْفَجْرِ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ لِلْعِشَاءِ وَالْوُقُوفِ قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله يُفَوِّتُ الْحَجَّ وَيُصَلِّي وَلِلشَّافِعِيَّةِ رحمهم الله أَقْوَالٌ: يُفَوِّتُهَا، وَيُقَدِّمُ الْحَجَّ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي كَصَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ، وَالْحَقُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ وَهِيَ فَوْرِيَّةٌ إجْمَاعًا وَبِاَللَّهِ الْإِعَانَةُ.
(الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ)
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ) .
قُلْت: صِحَّةُ النِّيَابَةِ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَائِزَةٌ عَقْلًا لَكِنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَقَالَ فِيمَا يَأْتِي لَهُ فِي الْفَرْقِ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَيْنِ: وَالسَّبَبُ مَا يُقَالُ عَادَةً حَصَلَ الْهَلَاكُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطٍ، وَالتَّسَبُّبُ مَا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمُقْتَضِيَ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ اهـ.
وَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَتِهِ الضَّمَانُ إذَا تَنَاوَلَ التَّلَفَ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍ آخَرَ هَلْ يَحْصُلُ بِهِ ضَمَانٌ أَمْ لَا وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا أَنْ يَفْتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ فَيَطِيرَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ مَالِكٌ يَضْمَنُهُ هَاجَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ، أَوْ لَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ إنْ هَاجَهُ وَلَا يَضْمَنُ إنْ لَمْ يَهِجْهُ يَعْنِي إنْ طَارَ عَقِيبَ الْفَتْحِ ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ عَلَى حَالٍ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ فَتْحَ الْقَفَصِ سَبَبُ الْإِتْلَافِ عَادَةً فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَسَائِرِ صُوَرِ التَّسَبُّبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَمَا إذَا فَتَحَ مُرَاحَهُ فَخَرَجَتْ مَاشِيَتُهُ فَأَفْسَدَتْ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَقَدْ أُسْقِطَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] خُصُوصُ التَّسَبُّبِ فَبَقِيَ الْغُرْمُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ التَّسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ دُونَهُ وَالطَّيْرُ مُبَاشِرٌ بِاخْتِيَارِهِ لِحَرَكَةِ نَفْسِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فِي مَحَلٍّ فَأَرْدَى فِيهَا غَيْرُهُ إنْسَانًا فَإِنَّ الْمُرْدِيَ يَضْمَنُ دُونَ الْحَافِرِ وَالْحَيَوَانُ قَصْدُهُ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ جَوَارِحِ الصَّيْدِ إنْ أَمْسَكَتْ لِأَنْفُسِهَا لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ أَوْ لِلصَّائِدِ أُكِلَ وَالْجَوَابُ بِوُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّائِرَ كَانَ مُخْتَارًا لِلطَّيَرَانِ وَلَعَلَّهُ كَانَ مُخْتَارًا لِلْإِقَامَةِ لِانْتِظَارِ الْعَلَفِ، أَوْ خَوْفِ الْجَوَارِحِ الْكَوَاسِرِ، وَإِنَّمَا طَارَ خَوْفًا مِنْ الْفَاتِحِ، وَإِذَا احْتَمَلَ - وَاحْتَمَلَ، وَالسَّبَبُ مَعْلُومٌ - فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا حَيَوَانٌ مَعَ إمْكَانِ اخْتِيَارِهِ لِنُزُولِهَا لِفَزَعٍ خَلْفَهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْجَارِحُ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ الطَّائِرُ لِمَقْصِدِهِ كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى طَائِرِ غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ الْبَازِي بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ الْمُرْسِلَ يَضْمَنُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْحَيَوَانِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْحَ سَبَبٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ لِمَا فِي طَبْعِ الطَّائِرِ مِنْ النُّفُورِ مِنْ الْآدَمِيِّ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ حَافِرِ الْبِئْرِ يَضْمَنُ مَنْ أَرْدَى إنْسَانًا فِيهَا دُونَهُ وَبَيْنَ فَاتِحِ الْقَفَصِ فَيَطِيرُ الطَّائِرُ مِنْهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَصْدُ الطَّائِرِ بِأَنَّ قَصْدَ الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، وَالْآدَمِيُّ يَضْمَنُ قَصَدَ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ» فَافْهَمْ وَمِنْهَا مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَسَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ فَهَلَكَ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ إنْ حَفَرَهُ بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ حَفَرَهُ تَعَدِّيًا ضَمِنَ مَا تَلِفَ فِيهِ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَمَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَمِنْهَا وَقِيدُ النَّارِ قَرِيبًا مِنْ الزَّرْعِ، أَوْ الْأَنْدَرِ فَتَعْدُو فَتُحْرِقُ مَا جَاوَرَهَا وَمِنْهَا رَمْيُ مَا يُزْلِقُ النَّاسَ فِي الطُّرُقَاتِ فَيَعْطَبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَيَوَانٌ، أَوْ غَيْرُهُ وَمِنْهَا الْكَلِمَةُ الْبَاطِلَةُ عِنْدَ ظَالِمٍ إغْرَاءً عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَيَأْخُذُهُ الظَّالِمُ فَإِنَّ الْمُتَسَبِّبَ فِي جَمِيعِهَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ كَمَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَمِنْهَا مَنْ قَطَعَ الْوَثِيقَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِهِ يَضْمَنُ عِنْدَ مَالِكٍ ذَلِكَ الْحَقَّ لِتَسَبُّبٍ فِيهِ كَثَمَنِ الْوَثِيقَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ ثَمَنَ الْوَثِيقَةِ خَاصَّةً فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْإِتْلَافَ دُونَ السَّبَبِ وَمَالِكٌ اعْتَبَرَهُمَا مَعًا وَرَأَى أَنَّهُ أَتْلَفَ الْوَرَقَةَ
هَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْأَفْعَالَ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ فِعْلُهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهِ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبَاتِ وَتَفْرِيقِ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَذَبْحِ النُّسُكِ وَنَحْوِهَا فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ النِّيَابَةُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاعُ أَهْلِهَا بِهَا وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ لِحُصُولِهَا مِنْ نَائِبِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُشْتَرَطُ النِّيَّاتُ فِي أَكْثَرِهَا وَمِنْهَا مَا لَا يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً فِي نَفْسِهِ بَلْ بِالنَّظَرِ إلَى فَاعِلِهِ كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ، وَإِجْلَالُ الرَّبِّ سبحانه وتعالى وَتَعْظِيمُهُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ فَاعِلِهَا فَإِذَا فَعَلَهَا غَيْرُ الْإِنْسَانِ فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي طَلَبَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ وَلَا تُوصَفُ حِينَئِذٍ بِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا وَمِنْهَا قِسْمٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَتَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ رحمهم الله فِي أَيِّ الشَّائِبَتَيْنِ تُغَلَّبُ عَلَيْهِ كَالْحَجِّ فَإِنَّ مَصَالِحَهُ تَأْدِيبُ النَّفْسِ بِمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ.
وَتَهْذِيبُهَا بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمُعْتَادِ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ لِتَذَكُّرِ الْمَعَادِ وَالِانْدِرَاجِ فِي الْأَكْفَانِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ، وَإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِمَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْقَلْبِيَّةُ فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْ النِّيَّةِ كَإِحْجَاجِ الصَّبِيِّ، وَفِي سَائِرِ نِيَّاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَغَيْرُ الْقَلْبِيَّةِ: فَالْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَالْخِلَافَ فِيمَا عَدَاهَا وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَمَا قَالَهُ شِهَابُ الدِّينِ وَجَعَلَهُ ضَابِطًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ - مِنْ مُرَاعَاةِ كَوْنِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ يُشْتَرَطُ فِيهَا حُصُولُهَا مِنْ النَّائِبِ كَحُصُولِهَا مِنْ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ تَصِحُّ - يَنْتَقِضُ بِالصَّوْمِ، فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ، وَمَا رُجِّحَ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْحَجِّ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِالْمُبَاشَرَةِ بِالْإِتْلَافِ وَأَتْلَفَ الْحَقَّ بِالتَّسَبُّبِ فَرَتَّبَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُقْتَضَاهُمَا وَمِنْهَا مَنْ مَرَّ عَلَى حِبَالَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا صَيْدًا يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ وَحَوْزُهُ لِصَاحِبِهِ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ يَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ عِنْدَ مَالِكٍ لِأَنَّ صَوْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّوْنِ ضَمِنَ وَمِنْهَا مَنْ مَرَّ بِلُقَطَةٍ وَعَلِمَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهَا أَخَذَهَا مَنْ يَجْحَدُهَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ مَالِكٍ إذَا تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا اهـ.
كَلَامُ الْبِدَايَةِ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ مِمَّا يَأْتِي لِلْأَصْلِ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ وَمِنْ غَيْرِهِ.
وَثَالِثُهَا وَضْعُ الْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَادِيَةً كَيَدِ السُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ لَيْسَتْ بِعَادِيَةٍ كَمَا فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا صَحِيحًا يَبْقَى بِيَدِ الْبَائِعِ فَيَضْمَنُهُ، أَوْ يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي فَيَضْمَنُهُ أَوْ بَيْعًا فَاسِدًا يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي فَيَضْمَنُهُ عِنْدَنَا فَقَطْ إذَا تَغَيَّرَ سُوقُهُ، أَوْ فِي ذَاتِهِ، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إذَا أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي، وَكَمَا فِي قَبْضِ الْعَوَارِيِّ وَالرُّهُونِ الَّتِي يُغَابُ عَلَيْهَا كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَكَمَا فِي قَبْضِ الْمُقْتَرِضِ الْأَعْيَانَ الَّتِي يَقْتَرِضُهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا اتِّفَاقًا وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَخَرَجَ بِقَيْدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ الْيَدُ الْمُؤْتَمَنَةُ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي الْوَدَائِعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَكَأَيْدِي الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْوَالِ الْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينِ وَكَذَا أَيْدِي الْأُجَرَاءِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ صَانِعًا يُؤَثِّرُ بِصَنْعَتِهِ فِي الْأَعْيَانِ، أَوْ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ كَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَطْبُوخَةِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الْأَمَانَةُ فِي الْإِجَارَةِ وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى الْأَجِيرُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ اسْتَحْسَنَ فِيهَا أَنَّ
الْأَصْلَحَ
لِلنَّاسِ تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ لِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِالصَّنْعَةِ لَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا وَجَدَهَا قَدْ بِيعَتْ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَالثَّانِيَةُ الْأَجِيرُ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ فَإِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ الْأَجِيرُ فِيهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ جَمِيعَ مَا وَضْعُ الْأَيْدِي فِيهِ مُؤْتَمَنَةٌ مِنْ النَّظَائِرِ لَا ضَمَانَ فِيهِ وَهِيَ قَاعِدَةُ مَا لَا يُضْمَنُ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا وَضْعُ الْأَيْدِي فِيهِ غَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ مِنْ النَّظَائِرِ فِيهِ الضَّمَانُ كَمَا فِي مُبَاشَرَةِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ وَالتَّسَبُّبِ لِلْإِتْلَافِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَسْبَابُ الضَّمَانِ وَهِيَ قَاعِدَةُ مَا يُضْمَنُ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ.
وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الضَّمَانِ فَهُوَ إمَّا رَدُّ الْمَالِ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَدْخُلْهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَإِمَّا رَدُّ مِثْلِهِ إنْ اُسْتُهْلِكَ وَكَانَ مِثْلِيًّا، أَمَّا إنْ كَانَ عُرُوضًا مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ فَقَالَ مَالِكٌ لَا يُقْضَى فِيهِ إلَّا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ اُسْتُهْلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الْمِثْلُ وَلَا تَلْزَمُ الْقِيمَةُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ وَعُمْدَةُ مَالِكٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي قِيمَةَ الْعَدْلِ» الْحَدِيثَ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُ الْمِثْلَ وَأَلْزَمَهُ الْقِيمَةَ وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ عِنْدَ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ وَمَنْ الْحُجَّةِ لَهُمْ مَا خَرَّجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جَارِيَةً بِقَصْعَةٍ لَهَا فِيهَا طَعَامٌ قَالَ