الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِمَعْنَى أَخْبَرَ وَمِنْهُ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْ أَخْبَرَهُ بِمَا يَعْلَمُهُ، وَشَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] أَيْ عَلِيمٌ وَهُوَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى حَضَرَ قَالَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ فَمَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ أَيْ حَاضِرًا مُقِيمًا احْتِرَازًا مِنْ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَإِذَا كَانَ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ لَا بِمَعْنَى شَاهَدَ وَرَأَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِسَابِ أَيْضًا فَإِنَّ الْحُضُور فِي الشَّهْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ ثَبَتَ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْحِسَابِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْفَرْقِ قَالَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ هَذَا الْحِسَابُ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا لَكِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا فَلَمْ يَجِبْ بِهِ صَوْمٌ وَالْحَقُّ مِنْ تَرْدِيدِ الْفُقَهَاءِ رحمهم الله هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا إشْكَالَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْآخَرُ فِي رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ.
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَأَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ بِتَيْسِيرِ دَرَجِ الْفَلَكِ فَإِذَا شَاهَدُوا الْمُتَوَسِّطَ مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ دَرَجَةَ الشَّمْسِ قَرُبَتْ مِنْ الْأُفُقِ قُرْبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَجْرَ طَلَعَ أَمَرُوا النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مَعَ أَنَّ الْأُفُقَ يَكُونُ صَاحِيًا لَا يَخْفَى فِيهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لَوْ طَلَعَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِلْفَجْرِ أَثَرًا أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَبَ سَبَبَ وُجُوبٍ لِلصَّلَاةِ ظُهُورَ الْفَجْرِ فَوْقَ الْأُفُقِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَبِدُونِ سَبَبِهَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ إثْبَاتِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ (فَإِنْ قُلْت) هَذَا جُنُوحٌ مِنْك إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الرُّؤْيَةِ، وَأَنْتَ قَدْ فَرَّقْت بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَمَيَّزْت بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ وَعَدَمِهَا، وَقُلْت السَّبَبُ فِي الْأَهِلَّةِ الرُّؤْيَةُ وَفِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَحْقِيقُ الْوَقْتِ دُونَ رُؤْيَتِهِ فَحَيْثُ اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ فَقَدْ أَبْطَلْت مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ.
قُلْت سُؤَالٌ حَسَنٌ (وَالْجَوَابُ عَنْهُ) أَنِّي لَمْ أَشْتَرِطْ الرُّؤْيَةَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَكِنِّي جَعَلَتْ عَدَمَ اطِّلَاعِ الْحِسِّ عَلَى عَدَمِ الْفَجْرِ دَلِيلًا عَلَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْمَذْكُورَةَ، وَالثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ اُشْتُهِرَ بِهِ تَعَالَى اشْتِهَارَ الْمَسَاجِدِ، وَشُرِعَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا عَلِمْت لِمَا أَنَّهُ يَلْزَمُنَا ذَلِكَ فِيهِ تَعْظِيمُهُ كَمَا إنَّ شَأْنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ بِالْقُدُومِ فِيهَا عَلَى الرَّعَايَا أَنْ تُعَظَّمَ فِي الْمَدَائِنِ بِالزِّينَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الِاحْتِفَالِ، إلَّا أَنَّ تَعْظِيمَهُ لَمْ يَكُنْ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يُلَائِمُ الصَّوْمَ، وَالْفَرْقُ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ تَعْظِيمِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ بِالصَّلَاةِ وَالْأَزْمِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِالصَّوْمِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النُّوَاحُ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَرَاثِي مُبَاحَةٌ]
(الْفَرْقُ الْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النُّوَاحُ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَرَاثِي مُبَاحَةٌ) لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَتَفْسِيقِ النَّائِحَةِ مُطْلَقًا وَلَا عَلَى إبَاحَةِ الْمَرَاثِي وَعَدَمِ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا، وَإِنْ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ وَحَرَامٌ صَغِيرَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَنْدُوبٌ، أَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي، فَكُلُّ كَلَامٍ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ وَيُوضِحُ لِلْأَفْهَامِ نِسْبَةَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ وَالتَّبَرُّمِ بِقَدَرِهِ، وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً فَيَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ يَكُونُ حَرَامًا كَبِيرَةً نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَةً أَوْ نُوَاحًا، وَذَلِكَ كَأَنْ تَقُولَ النَّائِحَةُ لَفْظًا يَقْتَضِي فَرْطَ جَمَالِ الْمَيِّتِ وَحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ وَشُجَاعَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَأُبَّهَتِهِ وَرِئَاسَتِهِ، وَتُبَالِغَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إكْرَامِ الضَّيْفِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْجَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَيِّتِ الَّتِي يَقْتَضِي مِثْلُهَا أَنْ لَا يَمُوتَ، فَإِنَّ بِمَوْتِهِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ، وَيَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَيَعْظُمُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ مِثْلِهِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كَانَتْ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَتَطْوِيلَ عُمْرِهِ لِتَكْثُرَ تِلْكَ الْمَصَالِحُ فِي الْعَالَمِ، وَكَأَنْ يَقُولَ الشَّاعِرُ فِي رِثَائِهِ:
مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ
…
وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ
فَيَتَضَمَّنُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ، وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُشِيرُ قَوْلُهُ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرًا صَرِيحًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَلِذَا لَمَّا حَضَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْمَحْفِلِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ لِعَزَاءِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَّتِهِ: مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَسَمِعَهُ الشَّيْخُ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ وَأَغْلَظَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ، وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عز وجل تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْ الْمَيِّتِ، وَالشُّعَرَاءُ كَثِيرًا مَا يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ مِثْلِ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَوْدِيَةُ هِيَ أَوْدِيَةُ الْهِجَاءِ الْمُحَرَّمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ وَهَذَا الْقِسْمُ شَرُّ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ إنَّ النَّائِحَةَ تُكْسَى يَوْمَ
عَدَمِهِ وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هِيَ السَّبَبُ وَنَظِيرُهُ فِي الْأَهِلَّةِ لَوْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَالْجَمْعُ ثير وَلَمْ يُرَ الْهِلَالَ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ خُلُوصِ الْهِلَالِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْت الظِّلَّ عِنْدَ الزَّوَالِ مَائِلً لِجِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ أَرَهُ مَائِلًا إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ بَلْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَعَدَم السَّبَبِ فَفَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ الْحِسِّ سَبَبًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ فَإِنِّي فِي الْفَجْرِ جَعَلْته دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ لَا أَنِّي اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ، وَلِذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ إلَّا وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَالْحِسُّ لَا يَجِدُ شَيْئَانِ مِنْ الْفَجْرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ مَعَ الصَّحْوِ طَالِعًا مِنْ الْأُفُقِ وَيَخْفَى مَعَ الْغَيْمِ لَمْ أَسْتَشْكِلْهُ، وَقُلْت: إنَّمَا يَخْفَى لِأَجْلِ الْغَيْم لَا لِأَجْلِ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَمَّا رَأَيْت حِسَابَهُمْ فِي الصَّحْوِ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ عَلِمْت أَنَّ حِسَابَهُمْ يُقَارِنُ عَدَمَ السَّبَبِ فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفَجْرِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِهِ بِاتِّسَاقِ الظُّلْمَةِ وَعَدَمِ الضِّيَاءِ، فَهَذَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ لَا أَنِّي سَوَّيْت بَيْنَ الْأَهِلَّةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ الْإِشْكَالَ الثَّانِيَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوا رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَوَافَقَتْهُمْ الْحَنَابِلَةُ رحمهم الله عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ رحمهم الله لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَعَصْرَهُمْ وَمَغْرِبَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ فَإِنَّ الْفَجْرَ إذَا طَلَعَ عَلَى قَوْمٍ يَكُونُ عِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَعِنْدَ آخَرِينَ نِصْفَ النَّهَارِ وَعِنْدَ آخَرِينَ غُرُوبَ الشَّمْسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَمَا مِنْ دَرَجَةٍ تَطْلُعُ مِنْ الْفَلَكِ أَوْ تَتَوَسَّطُ أَوْ تَغْرُبُ إلَّا فِيهَا جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ آفَاقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ كَانَ نِصْفَ اللَّيْلِ عِنْدَ الْبِلَادِ الْمَغْرِبِيَّةِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ الْبُعْدِ عَنْ ذَلِكَ الْأُفُقِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْقِيَامَةِ قَمِيصَيْنِ قَمِيصٌ مِنْ جَرَبٍ وَقَمِيصٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَسِرُّهُ أَنَّ الْأَجْرَبَ سَرِيعُ الْأَلَمِ لِتَقَرُّحِ جِلْدِهِ وَالْقَطِرَانُ يُقَوِّي شُعْلَةَ النَّارِ فَيَكُونُ عَذَابُ النَّائِحَةِ بِالنَّارِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد «لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» .
وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ حَرَامٌ صَغِيرَةٌ فَكُلُّ كَلَامٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَّةً أَوْ نُوَاحًا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَيُهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجِرِهِمْ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ يَكُونُ حَرَامًا صَغِيرَةً وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ التَّصْرِيحِ بِتَحْرِيمِ النُّوَاحِ نَعَمْ قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّمَا يَحْرُمُ النُّوَاحُ مِنْ النَّائِحَةِ الَّتِي تَتَّخِذُهُ صَنْعَةً قَالَ وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ نِسَاءَ جَعْفَرٍ لَمْ يُسْكِتْهُنَّ» ، وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ «فَسَمِعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقَالُوا ابْنَةُ عُمَرَ فَقَالَ فَلْتَبْكِي أَوْ لَا تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ وَفِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرُ خَمْسِ نِسْوَةٍ سَمَّتْهُنَّ» وَأَمَّا ضَابِطُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ فِيهِ دِينُ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ.
وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ، وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ يَكُونُ مُبَاحًا خَالِيًا عَنْ التَّحْرِيمِ، وَمِنْهُ مَا رَثَى بِهِ ابْنُ عُمَرَ أَخَاهُ عَاصِمًا لَمَّا مَاتَ فَقَالَ:
فَإِنْ تَكُ أَحْزَانٌ وَفَائِضُ دَمْعَةٍ
…
جَرَيْنَ دَمًا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ مُنْقَعَا
تَجَرَّعْتهَا فِي عَاصِمٍ وَاحْتَسَيْتهَا
…
فَأَعْظَمُ مِنْهَا مَا احْتَسَى وَتَجَرَّعَا
فَلَيْتَ الْمَنَايَا كُنَّ خَلَّفْنَ عَاصِمًا
…
فَعِشْنَا جَمِيعًا أَوْ ذَهَبْنَ بِنَا مَعَا
دَفَعْنَا بِك الْأَيَّامَ حَتَّى إذَا أَتَتْ
…
تُرِيدُك لَمْ نَسْطِعْ لَهَا عَنْك مِدْفَعَا
فَهَذَا رِثَاءٌ مُبَاحٌ لَا يَحْرُمُ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى التَّجْوِيرِ وَلَا تَسْفِيهِ الْقَضَاءِ بَلْ إنَّهُ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ لِمَيْتِهِ، وَكَانَ يَشْتَهِي لَوْ مَاتَ مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لَا غَرْوَ فِيهِ، وَأَمَّا ضَابِطُ الْمَنْدُوبِ مِنْ النُّوَاحِ وَالْمَرَاثِي فَكُلُّ كَلَامٍ زَادَ عَلَى مَا فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ وَحَثِّهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُ ذَلِكَ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ.
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَظُمَ خَطْبُهُ وَجَلَّتْ رَزِيَّتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ فَإِنَّهُ رضي الله عنه عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ وَالِدِهِ وَكَانَ يُقَالُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنهما عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَافِرَ الْعَقْلِ جَمِيلَ الْمَحَاسِنِ وَالْجَلَالَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ فَأَحْجَمُوا عَنْ تَعْزِيَتِهِ إجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً بِسَبَبِ عَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ فَبَعْدَ الشَّهْرِ قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ مَا تُرِيدُ