الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ؛ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ.
(وَثَانِيهَا) تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَأَحَلَّ اللَّهُ عز وجل طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ، وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ، كُلُّ ذَلِكَ اهْتِضَامٌ لَهُمْ لِجَحْدِهِمْ الرَّسَائِلَ وَالرُّسُلَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَظَّمُوا الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ فَحَصَلَ لَهُمْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالتَّمْيِيزِ بِحِلِّ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ لِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا تَخْفِيفَ الْعَذَابِ أَمَّا فِي تَرْكِ الْخُلُودِ فَلَا.
(وَثَالِثُهَا) تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ سُمِّيَ وَلِيًّا أَيْ تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ
(وَرَابِعُهَا) تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ.
(وَخَامِسُهَا) تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهَا، وَفِي الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ صَحِيحٌ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْقَصْرِ فَإِنَّ فَضِيلَتَهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمَذْهَبِ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْبَدَنَةَ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرَجَ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَإِنْ عَجَزَ صَامَ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ أَيَّامًا فَدِمَاءُ الْحَجِّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ الْمُرَتَّبُ إمَّا مُقَدَّرٌ، أَوْ مُعَدَّلٌ، وَالْمُخَيَّرُ إمَّا مُقَدَّرٌ، أَوْ مُعَدَّلٌ وَاَلَّذِي يَتَدَاخَلُ مِنْهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْفِدْيَةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَالْهَدْيُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي قَوْلِي:
تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ مَعَ تَعَدُّدٍ
…
لِسَبَبٍ بِأَرْبَعٍ لَمْ تَزِدْ
أَحَدُهَا أَنْ تَفْعَلَ الْأَسْبَابَ فِي
…
وَقْتٍ وَنَحْوِهِ وَثَانِيهَا قِفِي
نِيَّةَ تَكْرَارٍ لِفِعْلٍ مَا إلَيْهِ
…
أَدَّاهُ عُذْرُهُ الَّذِي يَطْرَا عَلَيْهِ
ثَالِثُهَا تَقْدِيمُ مَا نَفْعًا أَعَمَّ
…
عَلَى أَخَصَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَعَمِّ
رَابِعُهَا ظَنُّ إبَاحَةِ السَّبَبْ
…
لِمُقْتَضٍ مِنْ نَحْوِ رَفْضِ مَا ارْتَكَبْ
وَاتَّحَدَ الْهَدْيُ كَذَا بِخَمْسَةٍ
…
فَأَوَّلٌ تَكْرَارُ وَطْءٍ فَاثْبِتْ
وَالثَّانِ تَرْكٌ لِنُزُولِ جَمْعِ
…
وَالرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ رَأْسًا فَاوْعِ
وَثَالِثٌ تَأْخِيرُهُ لِلسَّعْيِ مَعَ
…
تَرْكِ قُدُومٍ لَا لِعُذْرٍ قَدْ وَقَعْ
وَرَابِعٌ يَا صَاحِ تَرْكُ التَّلْبِيَهْ
…
مِنْ بَعْدِ إحْرَامٍ وَسَعْيٍ فَادْرِيَهْ
وَالْخَامِسُ الرُّكُوبُ فِي الطَّوَافِ
…
وَالسَّعْيُ لَا لِحَاجَةٍ تُوَافِي
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ)
الْفَضْلُ كَوْنُ مَعْلُومٍ مَا مُنْفَرِدًا بِصِفَةِ مَدْحٍ، أَوْ بِمَزِيَّةٍ فِي صِفَةِ مَدْحٍ وَالتَّفْضِيلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
الْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي وَضْعِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لَا لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ بَلْ لِمُوجِبِ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ إنْ كَانَ بِحَسَبِ الذَّاتِ، أَوْ بِحَسَبِ الصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ بِالطَّاعَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ، أَوْ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ الصُّدُورِ، أَوْ لِمَدْلُولٍ أَوْ الدَّلَالَةِ، أَوْ التَّعَلُّقِ أَوْ الْمُتَعَلَّقِ، أَوْ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ أَوْ بِالْمُجَاوَرَةِ، أَوْ بِالْحُلُولِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ، أَوْ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، أَوْ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى أَوْ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ، أَوْ بِالتَّأْثِيرِ، أَوْ بِجُودَةِ النِّيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ أَوْ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَهُوَ وَضْعِيٌّ فَقَاعِدَةُ التَّفْضِيلِ تَرْجِعُ إلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً بَلْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: لَا أَعْرِفُ الْآنَ دَلِيلَ صِحَّةِ حَصْرِ وُجُوهِ التَّفْضِيلِ فِي عِشْرِينَ قَاعِدَةً اهـ.
أَيْ بَلْ إنَّهَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْأَصْلُ وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهَا خَشْيَةَ الْإِسْهَابِ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي عَلَى الْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْبِقَاعِ فَقَالَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ التَّفْضِيلِ وَالْعَمَلُ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرَّمٌ فِيهِ عِقَابٌ شَدِيدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ مَعَ عَدَمِ الثَّوَابِ يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَمَا بَلَغَنِي أَيْضًا عَنْ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْبَابُ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا كَمَلَتْ فِي عَلِيٍّ رضي الله عنه فَهُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَخَذَ يَرُدُّ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَأَرَدْت بِبَيَانِ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ وَالْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَنْ أُبْطِلَ مَا ادَّعَيَاهُ مِنْ الْحَصْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَسْبَابَهُ أَعَمُّ مِنْ الثَّوَابِ بَلْ وَمِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي زَعَمَ الْمَأْمُونُ الْحَصْرَ فِيهَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ جِلْدُ الْمُصْحَفِ بَلْ وَلَا الْمُصْحَفُ نَفْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِيهِ وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ اهـ بِتَصَرُّفٍ
مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ» وَفِي حَدِيثٍ «لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى» بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عز وجل لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ:
(أَحَدُهَا) الْإِيمَانُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصُ مِنْ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ.
(وَثَانِيهَا) صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.
(وَثَالِثُهَا) الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ.
(وَرَابِعُهَا) صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ:
(الْأَوَّلُ) الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ مَوْصُوفِهِ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ.
(وَثَانِيهَا) إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ وَجَمِيعُ الصِّفَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الرَّبِّ سبحانه وتعالى أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ مِنْهُ شَرَفُ الْمَوْصُوفِ.
(وَثَالِثُهَا) صِفَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَشَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ وَجَمِيعِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِنَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ: الْأَوَّلُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ)
قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ شَرَفِ الصِّفَةِ بِشَرَفِ مَوْصُوفِهَا صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ شَرَفَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ إلَّا شَرَفَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنْهَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - قِدَمُهَا وَبَقَاؤُهَا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا صِفَاتُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَلِمُصَاحَبَتِهَا النُّبُوَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَزِيَادَةٍ.
(الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ذَاتُ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَصِفَاتُهُ الْمَعَانِي السَّبْعَةُ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ، إذْ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي: إنَّهَا غَيْرُ الذَّاتِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عَيْنُ الذَّاتِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا هِيَ هُوَ لَأَدَّى إلَى اتِّحَادِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ وَلَوْ قُلْنَا: غَيْرُهُ لَكَانَتْ إمَّا مُحْدَثَةً فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا قَدِيمَةً فَيَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ هُنَا مَا قَابَلَ الْعَيْنَ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنْفَكُّ فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً وَلَا عَيْنًا بَلْ شَيْءٌ مُلَازِمٌ بِخِلَافِ الْوُجُودِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَيْنُ الذَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَجْهٌ وَاعْتِبَارٌ، وَإِنَّهُ غَيْرُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَالٌّ وَهُوَ مَا لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ.
وَفِي مَحَلِّهِ نَعَمْ قَالَ السُّكْتَانِيُّ قَوْلُنَا: اللَّهُ مَوْجُودٌ حُكْمٌ مَعْنَوِيٌّ يُعْتَقَدُ وَيُبَرْهَنُ عَلَيْهِ لَا مُجَرَّدُ إخْبَارٍ لَفْظِيٍّ فَالْحَقُّ أَنَّ الصِّفَةَ يَكْفِي فِيهَا مُغَايَرَةُ الْمَفْهُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً فِي الْخَارِجِ كَيْفَ وَقَدْ عَدُّوا السُّلُوبَ يَعْنِي الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ وَمُخَالَفَتَهُ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ وَقِيَامَهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ وَالْوَحْدَانِيَّةَ صِفَاتٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ الْبَارِي الَّتِي عَدَّهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَأَوْجَبُوا مَعْرِفَتَهَا تَفْصِيلًا إمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ وَهِيَ الْمَعَانِي السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهَذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً عَنْهَا بَلْ مُلَازِمَةً لَهَا.
وَإِمَّا أَنْ لَا تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَدَمِيَّةً عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهَا نَقْصًا عَنْ الذَّاتِ وَهِيَ صِفَاتُ السُّلُوبِ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَجْهًا وَاعْتِبَارًا لَا حَالًّا لِأَنَّ الْحَقَّ نَفْيُهُ وَهِيَ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ أَعْنِي الْوُجُودَ وَالصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ وَهِيَ الْكَوْنُ عَالِمًا وَمُرِيدًا وَقَادِرًا وَمُتَكَلِّمًا وَحَيًّا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا وَالِاعْتِبَارُ قَدْ اخْتَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ لَهُ مِنْ اسْمِهِ نَصِيبًا فَلَا ثُبُوتَ لَهُ إلَّا فِي ذِهْنِ الْمُعْتَبِرِ وَإِنَّهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ فَقَطْ إنْ اُنْتُزِعَ مِنْ خَارِجٍ مَوْجُودٍ مُشَاهَدٍ كَالْكَوْنُ أَبْيَضُ كَانَ صَادِقًا لِتَأْيِيدِ الْخَارِجِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ اعْتِبَارٍ كَاعْتِبَارِ الْكَرِيمِ بَخِيلًا كَانَ كَاذِبًا لِمُعَارَضَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ لَهُ لَا أَمْرَانِ بَحْتٌ لَا ثُبُوتَ لَهُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَمَا لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْحَالِّ وَبَيْنَ وَجْهِهِ فَانْظُرْهُ فَالْوُجُودُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً فِي الْخَارِجِ عَلَى الذَّاتِ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا صِفَاتٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الذَّاتِ حُكْمًا مَعْنَوِيًّا يُعْتَقَدُ وَيُبَرْهَنُ عَلَيْهِ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا غَيْرَ الذَّاتِ مُغَايَرَةُ مَفْهُومِهَا لِمَفْهُومِ الذَّاتِ بِالْأَوْلَى مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ فَافْهَمْ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ بِعِلْمٍ نَافِعٍ عَلَى الْجَاهِلِ بِهِ أَمَّا الَّذِي لَا يَنْفَعُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَيَكُونُ الْجَاهِلُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْعَالِمِ بِهِ.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ بِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ تَعَالَى عَلَى الْعَاجِزِ الَّذِي قُدْرَتُهُ حَادِثَةٌ.
وَثَالِثُهَا قِيلَ تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ عَلَى الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِ الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ لَكِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ اهـ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مُرِيدٌ قَادِرٌ، ثُمَّ
مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِهِ وَنِظَامِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عليه السلام وَبِهَذَا نُجِيبُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْخَلَائِقِ وَالْمَرِيدُ لِتَرْتِيبِ وَصْفِهَا، فَمَنْ قَالَ زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الدَّارِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَصْوَاتِهِ هَذِهِ وَالْمَرِيدُ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَتَقْدِيمِ " قَائِمٌ " عَلَى الْمَجْرُورِ وَكَوْنِ الْمَجْرُورِ بِفِي دُونَ غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِ جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عليه السلام بِإِرَادَتِهِ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَلْفَاظُ عِنْدَكُمْ مَخْلُوقَةٌ مِثْلُ أَلْفَاظِ الْخَالِقِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ فَلِمَ لَا تَقُولُونَ لِلْجَمِيعِ كَلَامُ اللَّهِ، وَمَا الْمَزِيَّةُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ.؟ ،
فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى وَفْقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ وَالْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ كَلَامِ الْخَلَائِقِ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إرَادَتِهِمْ تَبَعًا لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَتَفَرُّدُهُ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِالْإِرَادَةِ هُوَ الْفَرْقُ وَامْتَازَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ الْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِهِ وَنِظَامِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عليه السلام إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَزِيَّةَ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ انْفِرَادُ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَضْعِهِ دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ دَعْوَى لَا أَرَاهَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَلَعَلَّ جِبْرِيلَ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، بَلْ الْمَزِيَّةُ الَّتِي امْتَازَ بِهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى كَلَامِ النَّاسِ كَوْنُهُ دَالًّا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَارَةً عَنْهُ، وَامْتِيَازُهُ عَنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ بِالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ كُلُّهُ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَاتِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِصِفَاتٍ وُجُودِيَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ قَائِمَةٍ بِهَا يَصِحُّ أَنْ تُرَى وَفَسَّقُوا مَنْ نَفَاهَا قَالُوا وَلُزُومُ تَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَتْ مُنْفَكَّةً وَأَلْزَمُوا أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ لِأَنَّهَا الصِّفَاتُ وَأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ إلَخْ لِأَنَّ الْكُلَّ الذَّاتُ الْوَاحِدَةُ وَحَيْثُ جَازَ عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ لَزِمَ عِلْمٌ بِلَا عَالِمٍ إذْ لَا فَرْقَ فِي التَّلَازُمِ عَلَى أَنَّهُ نَظِيرُ " أَسْوَدُ بِلَا سَوَادٍ " وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْفَسَادِ وَكُلُّهَا تَقْبَلُ الدَّفْعَ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِتَغَايُرِ الْمَفَاهِيمِ الْإِضَافِيَّةِ، وَإِنْ قَالَ أليوسي إذَا أَرَادُوهَا لِلِاعْتِبَارَاتِ لَزِمَ نَفْيُهَا إذْ لَا ثُبُوتَ لِلِاعْتِبَارِ إلَّا فِي الذِّهْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ هَلْ وُجُوبُهَا وَقِدَمُهَا ذَاتِيٌّ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الذَّاتُ الْمُتَّصِفَةُ بِالصِّفَاتِ أَوْ مُمْكِنَةٌ فِي ذَاتِهَا - عَلَى مَا لِلْفَخْرِ وَمَنْ تَبِعَهُ - وَاجِبَةٌ لِمَا لَيْسَ عَيْنَهَا وَلَا غَيْرَهَا، وَإِنْ لَمْ نَفْهَمْ لَهُ الْآنَ مَحْصُولًا فَإِنَّ الصِّفَةَ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الْمَوْصُوفِ مُسْتَحِيلَةٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا الْمَوْصُوفِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُنَافِي مَوْصُوفًا مَا لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ وَمِمَّا رُدَّ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مَثَلًا مُمْكِنًا لَكَانَ الْجَهْلُ مُمْكِنًا لِأَنَّهُ مُقَابِلُهُ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ لَا يَضُرُّهُ إنَّمَا يَضُرُّهُ لَوْ كَانَ إمْكَانُهُ لِلَّهِ وَهُوَ يَقُولُ بِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْعِلْمِ لَهُ فَتَدَبَّرْ وَقَالَ قَبْلُ وَعَلَى كَلَامِ غَيْرِ الْفَخْرِ لَا نُثْبِتُ إلَّا الْقِدَمَ الذَّاتِيَّ لِلْوَاجِبِ وَحْدَهُ أَيْ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَعَلَى كَلَامِ الْفَخْرِ نُثْبِتُ الْقِدَمَ الْعَرَضِيَّ أَيْضًا لِلْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ وَلَا يَكُونُ الْإِمْكَانُ إلَّا ذَاتِيًّا نَعَمْ يَجُوزُ الْبَقَاءُ فِي الْمُمْكِنَاتِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَرْجِعُ لِعَدَمِ وُقُوفِ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَادِرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ حَدٍّ بِخِلَافِ الْقِدَمِ لِلْمُمْكِنَاتِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ أَزَلًا وَهُوَ مُحَالٌ بِالطَّبْعِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ وَاَلَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عَرَبِيٍّ رضي الله عنه وَرَحِمَهُ أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الصِّفَاتِ عَيْنٌ لَا غَيْرُ كَشْفًا وَيَقِينًا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ اهـ وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ:
اعْتِصَامُ الْوَرَى بِمَغْفِرَتِكْ
…
عَجَزَ الْوَاصِفُونَ عَنْ صِفَتِكْ
تُبْ عَلَيْنَا فَإِنَّنَا بَشَرٌ
…
مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكْ
اهـ كَلَامُ الْأَمِيرِ بِتَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ.
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ بِتَعْظِيمِهِمْ الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَدَمَ الْخُلُودِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ تَخْفِيفَ الْعَذَابِ، وَجَحْدِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الرَّسَائِلَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَحَلَّ اللَّهُ عز وجل طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ وَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ تَعْظِيمًا وَتَمْيِيزًا بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ اهْتِضَامًا لَهُمْ.
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ
تَعَالَى كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَيُقَالُ إنَّهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا صُحُفًا وَكُتُبًا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْأَذْكَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا.
وَثَالِثُهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ أَفْضَلُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَثِّ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ، وَالزَّجْرِ عَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الدَّلَالَةِ لَا بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ كَشَرَفِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْجَبَ شَرَفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ لِهَذِهِ الدَّلَالَةِ.
وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِهَا فَلَا تُمْسَكُ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَيُكَفَّرُ مَنْ أَصَابَهَا بِالْقَاذُورَاتِ وَلَهُ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بِلَادِ الْكَافِرِينَ خَشْيَةَ أَنْ تَنَالَهَا أَيْدِيهِمْ
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَلْ لَهَا مَوْصُوفٌ فَقَطْ وَالْعِلْمُ لَهُ مَوْصُوفٌ وَمُتَعَلَّقٌ فَلَهُ مَزِيَّةُ شَرَفٍ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُمْكِنَاتِ، وَالْقُدْرَةُ بِالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالسَّمْعُ بِالْأَصْوَاتِ، وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْبَصَرُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى السَّبْعَةِ صِفَةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ إلَّا الْحَيَاةَ
(الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ الْفِقْهِ عَلَى الطِّبِّ لِتَعَلُّقِهِ بِرَسَائِلِ اللَّهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلِّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ)
قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - مِنْ أَنَّ كُلَّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقٌ - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَدْلُولَ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَعْهُودِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مَدْلُولٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِوَجْهٍ مَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَعِبَادَتُهُ تَجْرِي عَلَى التَّوَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا عِصْيَانٌ فَسُمِّيَ وَلِيًّا وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ فَلَمْ يَكِلْهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ لَحْظَةً عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصَرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ.
وَرَابِعُهَا تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ.
وَخَامِسُهَا تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عز وجل لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ» .
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا الْإِيمَانُ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ مِنْ الْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصِ مِنْ النِّيرَانِ وَمِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.
وَثَانِيهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.
وَثَالِثُهَا الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ قَالَ الْبَاجِيَّ وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْمَسْجِدَيْنِ مُخَالَفَةُ حُكْمِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي التَّفَاضُلِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذَا ثَبَتَتْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ اهـ.
نَقَلَهُ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ لَكِنْ فِي الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا وَاسْتُدِلَّ أَيْ لِتَفْضِيلِ مَسْجِدِ مَكَّةَ بِحَدِيثِ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ وَهُوَ الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَهُوَ صَرِيحٌ بِدَفْعِ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدُونِ أَلْفٍ، أَوْ بِتَسَاوِيهِمَا وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْ.
وَرَابِعُهَا صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِنَا خَاصَّةً مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا.
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ مَوْصُوفِهِ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ وَمِنْهَا قِدَمُهُ وَبَقَاؤُهُ.
وَثَانِيهَا إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الرَّبِّ سبحانه وتعالى أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ وَمِنْهَا قِدَمُهَا وَبَقَاؤُهَا
وَثَالِثُهَا صِفَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ وَجَمِيعِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ صِفَاتِنَا لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ وَمِنْهَا مُصَاحَبَتُهَا النُّبُوَّةَ.
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ قِيلَ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِوَصْفِ جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ
تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ فَكُلُّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُتَعَلِّقٍ مَدْلُولًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْمَدْلُولَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ وَالْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ كَالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْعِلْمُ وَنَحْوُهُ فَلَا يُقَالُ لَهُ دَالٌّ بَلْ هُوَ مَدْلُولٌ فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ لَهُ مُتَعَلَّقٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَعْلُومُهُ وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخُيُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ.
وَالنِّيَّةُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقَاصِدِ، وَالثَّانِيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَسَائِلِ، وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْأَفْضَلِ أَفْضَلُ.
(الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الْإِرَادَةِ بِالْمُمْكِنَاتِ وُجُودِهَا أَوْ عَدَمِهَا، وَاخْتِصَاصِ الْقُدْرَةِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ خَاصَّةً، وَاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ - وَهِيَ الْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ -، وَاخْتِصَاصِ الْبَصَرِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ دُونَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاصْطِلَاحِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْخُيُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ إرَادَتَنَا فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ تَنَوُّعُهَا إلَى نَوْعَيْنِ لِاتِّحَادِهَا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِيهِ وَمَا قَالَهُ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَمَا بَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَقَاصِدَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ إنْ أَرَادَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ زِيَادَةً فِي الْأُجُورِ فَذَلِكَ دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ كَوْنَ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلَةً بِكَوْنِهَا مَقَاصِدَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَ وَالثَّانِيَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي الثَّالِثَةَ عَشَرَ إلَّا حَصْرَهُ لِوُجُودِ التَّفْضِيلِ فِي عِشْرِينَ قَاعِدَةً فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ الْآنَ دَلِيلَ صِحَّةِ ذَلِكَ الْحَصْرِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الدَّارِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَصْوَاتِهِ هَذِهِ وَالْمُرِيدُ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَتَقْدِيمِ " قَائِمٌ " عَلَى الْمَجْرُورِ وَكَوْنِ الْمَجْرُورِ بِفِي دُونَ غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَمَا أَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عليه السلام بِإِرَادَتِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَلْفَاظِ النَّاسِ وَأَلْفَاظِ الْخَالِقِ فِي كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً إلَّا أَنَّ الْمَزِيَّةَ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ فِي أَنَّنَا نَقُولُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى وَفْقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ - وَالْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ كَلَامِ الْخَلَائِقِ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إرَادَتِهِمْ تَبَعًا لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَتَفَرُّدُهُ فِي رَصْفِ الْقُرْآنِ بِالْإِرَادَةِ هُوَ الْفَرْقُ اهـ.
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَدَعْوَى انْفِرَادِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَضْعِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ لَا أَرَاهَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَلَعَلَّ جِبْرِيلَ أَرَادَ ذَلِكَ بَلْ الْمَزِيَّةُ الَّتِي امْتَازَ بِهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى كَلَامِ النَّاسِ كَوْنُهُ دَالًّا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَارَةً عَنْهُ وَامْتِيَازُهُ عَنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَيُقَالُ إنَّهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا صُحُفًا وَكُتُبًا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كَمَا قَالَ الشِّهَابُ. اهـ.
قُلْت وَعَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهِ لِلتَّفْضِيلِ بِشَرَفِ الصُّدُورِ بَلْ مِثَالُهُ بِشَرَفِ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ فَافْهَمْ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْأَذْكَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا.
وَثَالِثُهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالتَّحْرِيمِ أَفْضَلُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَثِّ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالزَّجْرِ عَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الدَّلَالَةِ لَا الْمَدْلُولِ كَشَرَفِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ عَلَى غَيْرِهِ فَلِذَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ فَلَا تُمْسَكُ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَيُكَفَّرُ مَنْ أَصَابَهَا بِالْقَاذُورَاتِ وَصَارَ لَهَا وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بِلَادِ الْكَافِرِينَ خَشْيَةَ أَنْ تَنَالَهَا أَيْدِيهِمْ.
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ لَهُ تَعَلُّقَ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْعِلْمِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَالْإِرَادَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمُمْكِنَاتِ وَالْقُدْرَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالسَّمْعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَصْوَاتِ وَالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَالْبَصَرِ لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَلْ لَهَا مَوْصُوفٌ فَقَطْ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ فَإِنَّ لَهُ مَوْصُوفًا وَمُتَعَلَّقًا كَمَا عَلِمْت.
(الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ الْفِقْهِ عَلَى الطِّبِّ لِتَعَلُّقِهِ بِرَسَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ وَكَتَفْضِيلِ إرَادَتِنَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْخُيُورِ عَلَى إرَادَتِنَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّرُورِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِاتِّحَادِهَا لَا يَصِحُّ تَنَوُّعُهَا وَلَا أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ
الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ فَالْخَبَرُ فِيهِ مَسْبُوقٌ لِلْعِلْمِ فِي التَّعَلُّقِ وَكُلُّ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُخْبَرٌ عَنْهُ وَيَخْتَصُّ الْكَلَامُ بِأَنَّ لَهُ تَعَلُّقَ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ أَكْثَرُ تَعَلُّقًا مِنْ الْعِلْمِ فَيَكُونُ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَتَفْضِيلِ الْبَصَرِ عَلَى السَّمْعِ لِاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِالْكَلَامِ، وَالْبَصَرُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ كَانَتْ كَلَامًا، أَوْ غَيْرَهُ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِالْمُجَاوَرَةِ كَتَفْضِيلِ جِلْدِ الْمُصْحَفِ عَلَى سَائِرِ الْجُلُودِ فَلَا يَمَسُّهُ مُحْدِثٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَابَسَ بِقَاذُورَةٍ وَلَا بِمَا يُوجِبُ الْإِهَانَةَ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ بَلْ لِمُجَاوَرَتِهِ الْوَرَقَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِالْحُلُولِ كَتَفْضِيلِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ التَّفْضِيلُ إنَّمَا هُوَ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَالْعَمَلُ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرَّمٌ فِيهِ عِقَابٌ شَدِيدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الثَّوَابُ هُنَالِكَ عَلَى عَمَلِ الْعَامِلِ مَعَ أَنَّ التَّفْضِيلَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ كَيْفَ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ أَوَمَا عَلِمَ أَنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ أَعَمُّ مِنْ الثَّوَابِ وَأَنَّهَا مُنْتَهِيَةٌ إلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً أَنَا ذَاكِرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّفْضِيلِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ جِلْدُ الْمُصْحَفِ بَلْ وَلَا الْمُصْحَفُ نَفْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بَلْ هَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله فَتَأَمَّلْهُ
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة: 22] أَضَافَهُمْ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُمْ بِالْإِضَافَةِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة: 22] إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ) .
قُلْت: قَوْلُهُ " فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ " إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ تَشْرِيفُ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، أَوْ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَا يَقْتَضِيهِ، وَكَتَفْضِيلِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصِدٌ وَالطَّهَارَةَ وَسِيلَةٌ، وَالْمَقَاصِدُ بِكَوْنِهَا مَقَاصِدَ لَا بِزِيَادَةٍ فِي الْأُجُورِ إذْ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ، وَبِالْأَفْضَلِ أَفْضَلُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: وَالْمَدْلُولُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَعْهُودِ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقًا بِوَجْهٍ مَا اهـ فَافْهَمْ.
(الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ)
التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَدِيمِ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا لِلْعِلْمِ فِي التَّعَلُّقِ وَكُلُّ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُخْبَرٌ عَنْهُ إلَّا أَنَّ لِلْكَلَامِ اخْتِصَاصًا بِتَعَلُّقِ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ أَكْثَرُ تَعَلُّقًا مِنْ الْعِلْمِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الْإِرَادَةِ بِالْمُمْكِنَاتِ وُجُودِهَا أَوْ عَدَمِهَا، وَاخْتِصَاصِ الْقُدْرَةِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ خَاصَّةً، وَاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ - وَهِيَ الْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ -، وَاخْتِصَاصِ الْبَصَرِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ دُونَ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَكَتَفْضِيلِ الْبَصَرِ عَلَى السَّمْعِ لِاخْتِصَاصِ السَّمْعِ بِالْكَلَامِ، وَالْبَصَرُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ كَانَتْ كَلَامًا، أَوْ غَيْرَهُ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِالْمُجَاوَرَةِ كَتَفْضِيلِ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ عَلَى سَائِرِ الْجُلُودِ فَلَا يَمَسُّهُ مُحْدِثٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَابَسَ بِقَاذُورَةٍ وَلَا بِمَا يُوجِبُ الْإِهَانَةَ لِمُجَاوَرَتِهِ الْوَرَقَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِالْحُلُولِ كَتَفْضِيلِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءِ.
وَقَالَ الْبَكْرِيُّ:
جَزَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ خَيْرَ الْأَرْضِ مَا
…
قَدْ حَاطَ ذَاتَ الْمُصْطَفَى وَحَوَاهَا
نَعَمْ لَقَدْ صَدَقُوا بِسَاكِنِهَا عَلَتْ
…
كَالنَّفْسِ حِينَ زَكَتْ زَكَى مَأْوَاهَا
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إنْكَارُ بَعْضِ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى انْحِصَارِ التَّفْضِيلِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مُتَعَذَّرٌ هُنَا.
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ اللَّفْظِيُّ بِسَبَبٍ فِي الْإِضَافَةِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة: 22] أَضَافَهُمْ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُمْ بِهَا كَمَا أَضَافَ الْعُصَاةَ إلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] لِيُهِينَهُمْ بِهَا وَيُحَقِّرَهُمْ وقَوْله تَعَالَى {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] الْآيَةَ أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُ بِهَا وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» شَرَّفَ الصَّوْمَ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ نَعَمْ لَا بُدَّ لِلتَّشْرِيفِ، أَوْ التَّحْقِيرِ بِالْإِضَافَةِ مِنْ أَسْبَابٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُضِفْ حِزْبَهُ تَعَالَى إلَيْهِ إلَّا لِطَاعَتِهِمْ وَلَا حِزْبَ الشَّيْطَانِ إلَيْهِ إلَّا لِمَعْصِيَتِهِمْ وَلَا الْبَيْتَ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَلَا الْعَبْدَ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ صَفْوَةَ رُسُلِهِ وَخَاتَمَهُمْ وَلَا الصَّوْمَ لَهُ تَعَالَى إلَّا لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِجَزَاءٍ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى قَدْرِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ بَسْطُ الْخِلَافِ فِيهِ فَلَا تَغْفُلْ.
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَتَفْضِيلِ ذُرِّيَّتِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى جَمِيعِ الذَّرَارِيِّ بِسَبَبِ نَسَبِهِمْ الْمُتَّصِلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَتَفْضِيلِ نِسَائِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]
إلَيْهِ كَمَا أَضَافَ الْعُصَاةَ إلَى الشَّيْطَانِ لِيُهِينَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَيُحَقِّرَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] الْآيَةَ أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهِ تَعَالَى لِيُشَرِّفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» شَرَّفَ الصَّوْمَ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ هَذَا التَّشْرِيفِ الْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَنَقْلُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ.
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَتَفْضِيلِ ذُرِّيَّتِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى جَمِيعِ الذَّرَارِيِّ بِسَبَبِ نَسَبِهِمْ الْمُتَّصِلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَتَفْضِيلِ نِسَائِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ، وَإِنْ كُنَّ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ مُتَفَاوِتَاتٍ.
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
إهَانَتُهُ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَمْ يُضِفْ حِزْبَهُ تَعَالَى إلَيْهِ إلَّا لِطَاعَتِهِمْ وَلَمْ يُضِفْ حِزْبَ الشَّيْطَانِ إلَيْهِ إلَّا لِمَعْصِيَتِهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] لَيْسَتْ إضَافَةُ الْبَيْتِ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [الأنفال: 41] لَيْسَتْ إضَافَةُ الْعَبْدِ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ جَعَلَهُ صَفْوَةَ رُسُلِهِ وَخَاتَمَهُمْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الصَّوْمِ لَيْسَتْ الْإِضَافَةُ إلَّا لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِجَزَاءٍ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى قَدْرِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْإِضَافَةَ نَفْسَهَا هِيَ التَّشْرِيفُ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ أَسْبَابًا لَهَا فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْخَامِسَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي السَّادِسَةَ عَشَرَ إلَّا مَا حَكَاهُ عَنْ شَيْخِهِ عِزِّ الدِّينِ مِنْ مُلَاحَظَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى نُفَضِّلُهَا بِهِ عَلَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ مَا قَالَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ نَبِيًّا وَأَمَّا وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إذْ لَا اخْتِصَاصَ لِلنَّبِيِّ عَلَى الرَّسُولِ بِمَزِيَّةٍ يَقَعُ بِهَا التَّفْضِيلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ السَّابِعَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ.
وَإِنْ كُنَّ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ مُتَفَاوِتَاتٍ وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ بِهِنَّ أَقْوَى مِنْ نِسْبَةِ مَنْ عَقَدَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ، وَنِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ أَقْوَى مِمَّنْ دَخَلَ وَطَلَّقَهُنَّ وَنِسْبَةَ مَنْ دَخَلَ وَطَلَّقَهُنَّ أَقْوَى مِمَّنْ فَارَقَهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَنِسْبَةَ مَنْ فَارَقَهُنَّ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ أَقْوَى مِمَّنْ فَارَقَهُنَّ قَبْلَهُ بِاتِّفَاقٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَفِي الْجَمَلِ عَنْ الْمَوَاهِبِ جُمْلَةُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً مَاتَ عَنْ عَشْرٍ، وَاحِدَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَهِيَ قَتِيلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَتِسْعٍ دَخَلَ بِهِنَّ، جَمَعَهُنَّ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ:
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ
…
إلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ
فَعَائِشَةٌ مَيْمُونَةُ وَصَفِيَّةُ
…
وَحَفْصَةُ تَتْلُوهُنَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ
جُوَيْرِيَةٌ مَعَ رَمْلَةٍ. ثُمَّ سَوْدَةٌ
…
ثَلَاثٌ وَسِتٌّ نَظَمَهُنَّ مُهَذَّبُ
وَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ بِاتِّفَاقٍ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُمَا خَدِيجَةُ وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَثِنْتَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُمَا شُرَافُ بِنْتُ خَلِيفَةَ أُخْتُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَخَوْلَةُ بِنْتُ الْهُذَيْلِ وَفَارَقَ عَلَى خُلْفٍ فِي كَوْنِهِ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتٍ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ ثِنْتَيْنِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ كَعْبٍ وَسَبَا بِنْتَ أَسْمَاءَ وَطَلَّقَ سَبْعًا بِاتِّفَاقٍ: بَعْدَ الدُّخُولِ بِاتِّفَاقٍ ثِنْتَيْنِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ وَعَالِيَةَ بِنْتَ ظَبْيَانَ، وَقَبْلَهُ بِاتِّفَاقٍ ثَلَاثًا وَهُنَّ عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ وَاَلَّتِي مِنْ غِفَارٍ، وَعَلَى خُلْفٍ فِي كَوْنِهِ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ ثِنْتَيْنِ وَهُمَا أُمُّ شَرِيكٍ الْقُرَشِيَّةُ وَالْمُسْتَقِيلَةُ الَّتِي جُهِلَ حَالُهَا وَهِيَ لَيْلَى بِنْتُ الْخَطِيمِ فَجُمْلَةُ الْمُتَّفَقِ عَلَى دُخُولِهِ بِهِنَّ وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً سِتٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زِمْعَةَ وَأَرْبَعُ عَرَبِيَّاتٍ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ الْمُصْطَلِقِيَّةُ وَوَاحِدَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ وَهِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ مَاتَ فِي حَيَاتِهِ مِنْهُنَّ ثِنْتَانِ خَدِيجَةُ وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَتُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَاقِي وَالْمُتَّفَقُ عَلَى مَنْ دَخَلَ وَطَلَّقَ بَعْدَهُ ثِنْتَانِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الضِّحَاكِ وَعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ اهـ بِتَلْخِيصٍ وَتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ.
وَأَمَّا تَفْضِيلُ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ عَلَى بَاقِيهِنَّ وَالْخِلَافُ فِي أَفْضَلِهِمَا فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَلْ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَحْوَالِ وَكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْجَمِيلَةِ فَيُسْتَحْسَنُ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي أَخْتَارُهُ الْآنَ أَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ فَعَائِشَةُ أَفْضَلُهُنَّ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ وَخَدِيجَةُ مِنْ حَيْثُ تَقَدُّمُهَا، وَإِعَانَتُهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ فَيَكُونُ الْأَقْرَبُ الْوَقْفَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا فِي عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ قَالَ: وَفِي كَلَامِ الْبُرْهَانِ الْحَلَبِيِّ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ تَلِي عَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - وَلَمْ يَقِفْ أُسْتَاذُنَا عَلَى نَصٍّ فِي بَاقِيهِنَّ وَلَا فِي مُفَاضَلَةِ بَعْضِ أَبْنَائِهِ الذُّكُورِ عَلَى بَعْضٍ وَلَا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَنَاتِ الشَّرِيفَاتِ سِوَى مَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ مُطْلَقًا وَلَا بَيْنَهُنَّ سِوَى فَاطِمَةَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ بَنَاتِهِ الْكَرِيمَاتِ وَلَا بَيْنَ بَاقِي الْبَنَاتِ سِوَى فَاطِمَةَ مَعَ الزَّوْجَاتِ الطَّاهِرَاتِ، وَإِنْ جَرَتْ عِلَّةُ فَاطِمَةَ بِالْبِضْعِيَّةِ فِي الْجَمِيعِ فَالْوَقْفُ أَسْلَمُ اهـ.
قَالَ الْأَمِيرُ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْمَلَوِيُّ أَوْلَادُهُ صلى الله عليه وسلم الذُّكُورُ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ اللَّهِ وَيُلَقَّبُ بِالطَّيِّبِ وَبِالطَّاهِرِ فَلَهُ
عَشَرَ)
التَّفْضِيلُ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى كَتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُثْمِرُ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَهِدَايَتَهُمْ إلَى الْحَقِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَالْعِبَادَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا وَاجْتَمَعَ يَوْمًا عَالِمَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ الْمَعْقُولَاتِ وَالْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْآخَرُ عَالِمٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَقَالَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي: الْهَنْدَسَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ، وَالْفِقْهُ مَظْنُونٌ وَالْقَطْعُ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: صَدَقْتَ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هِيَ أَفْضَلُ، غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُثْمِرُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ.
وَنَعِيمَ الْجِنَانِ، وَرِضْوَانَ الرَّحْمَنِ، وَالْهَنْدَسَةُ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ فَوَافَقَهُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَا مُتَنَاصِفَيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ مَوْضُوعَاتُهُ أَيْ تَآلِيفُهُ فَيَنْتَفِعُ الْأَبْنَاءُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ بَعْدَ الْأَسْلَافِ وَالْعِبَادَةُ تَنْقَطِعُ مِنْ حِينِهَا وَثَمَرَةُ الْعِلْمِ وَهِدَايَتُهُ تَبْقَى إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَجَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الرِّسَالَةُ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الرِّسَالَةَ مُثْمِرَةٌ الْهِدَايَةَ لِلْأُمَّةِ الْمُرْسَلِ إلَيْهَا وَالنُّبُوَّةَ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّبِيِّ فَنِسْبَتُهَا إلَى النُّبُوَّةِ كَنِسْبَةِ الْعَالِمِ لِلْعَابِدِ وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله يُلَاحِظُ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى يُفَضِّلُهَا بِهَا عَلَى الرِّسَالَةِ فَكَانَ يَقُولُ: النُّبُوَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِنْشَاءِ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فَهَذَا وُجُوبٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالرِّسَالَةُ خِطَابٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ الْأُمَّةِ، وَالْخِطَابُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ جِهَةِ شَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ هُوَ مُتَعَلَّقُهَا وَالرِّسَالَةُ مُتَعَلَّقُهَا الْأُمَّةُ، وَإِنَّمَا حَظُّهُ مِنْهَا التَّبْلِيغُ فَهَذَانِ وَجْهَانِ مُتَعَارِضَانِ كَمَا يُقَالُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى: إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَيَاةِ لِأَجْلِ التَّعَلُّقِ الَّذِي لَهُ وَالْحَيَاةُ لَا مُتَعَلَّقَ لَهَا وَيُلَاحَظُ فِي الْحَيَاةِ جِهَةٌ أُخْرَى هِيَ بِهَا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ لِلْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى الْعِلْمِ فِي ذَاتِهَا، وَالْعِلْمُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهَا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَكُونَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَقَبَانِ زِيَادَةً عَلَى الِاسْمِ وَالْقَاسِمُ، وَإِبْرَاهِيمُ وَالْإِنَاثُ أَرْبَعَةٌ زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ وَيَنْبَغِي حِفْظُهُمْ وَمَعْرِفَتُهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُنَا وَيَقْبُحُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْرِفَ أَوْلَادَ سَيِّدِهِ اهـ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ إلَّا إبْرَاهِيمَ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ مِنْ مِصْرَ اهـ.
وَقَدْ جَمَعْتُ أَوْلَادَهُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِي لِيَسْهُلَ حِفْظُهُمْ:
أَوْلَادُ طَه سَبْعَةٌ أَطْهَارٌ
…
ذُكُورُهُمْ ثَلَاثَةٌ أَبْرَارُ
الْقَاسِمُ إبْرَاهِيمُ عَبْدُ اللَّهِ ذَا
…
بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرِ تَلْقِيبًا خُذَا
وَأَرْبَعٌ إنَاثُهُمْ فَاطِمَةُ
…
فَأُمُّ كُلْثُومٍ كَذَا رُقَيَّةُ
فَزَيْنَبٌ وَأُمُّهُمْ خَدِيجَةُ
…
لَكِنْ لِإِبْرَاهِيمَ مَارِيَةُ
، وَفِي الْجُمَلِ عَنْ الْمَوَاهِبِ وَخَطَبَ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَ نِسْوَةٍ وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِنَّ بِاتِّفَاقٍ، وَسَرَارِيُّهُ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهِنَّ بِالْمِلْكِ أَرْبَعٌ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ وَرَيْحَانَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقِيلَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَالثَّالِثَةُ وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَاسْمُهَا نَفِيسَةُ وَالرَّابِعَةُ أَصَابَهَا فِي بَعْضِ السَّبْيِ وَلَمْ يُعْرَفْ اسْمُهَا اهـ.
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى كَتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُثْمِرُ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَهِدَايَتَهُمْ إلَى الْحَقِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ وَالْعِبَادَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا وَلِأَنَّ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ مِنْ مَوْضُوعَاتِهِ أَيْ تَآلِيفِهِ، وَهِدَايَتُهُ مُتَعَلِّمِيهِ تَبْقَى إلَى يَوْمِ الدِّينِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْأَبْنَاءُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ بَعْدَ الْأَسْلَافِ وَالْعِبَادَةُ تَنْقَطِعُ مِنْ حِينِهَا وَكَتَفْضِيلِ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تُثْمِرُ الْهِدَايَةَ لِلْأُمَّةِ الْمُرْسَلِ إلَيْهَا، وَالنُّبُوَّةَ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّبِيِّ فَنِسْبَتُهَا إلَى النُّبُوَّةِ كَنِسْبَةِ الْعَالِمِ لِلْعَابِدِ وَلَيْسَ لِلنُّبُوَّةِ جِهَةٌ أُخْرَى نُفَضِّلُهَا بِهَا عَلَى الرِّسَالَةِ وَتَكُونُ مُعَارِضَةً لِجِهَةِ تَفْضِيلِ الرِّسَالَةِ عَلَيْهَا حَتَّى يُحْتَاجَ أَنْ يُقَالَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
وَأَمَّا مُلَاحَظَةُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي النُّبُوَّةِ جِهَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِنْشَاءِ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فَهَذَا وُجُوبٌ مُتَعَلِّقٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالرِّسَالَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا حَظُّ الرَّسُولِ مِنْهَا التَّبْلِيغُ فَتَكُونُ أَفْضَلَ بِجِهَةِ شَرَفِ الْمُتَعَلِّقِ مِنْ الرِّسَالَةِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ نَبِيًّا، وَأَمَّا وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ فَلَا يَصِحُّ مُلَاحَظَةُ ذَلِكَ إذْ لَا اخْتِصَاصَ لِلنَّبِيِّ عَلَى الرَّسُولِ بِمَزِيَّةٍ يَقَعُ بِهَا التَّفْضِيلُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ نَعَمْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَاتِ التَّفْضِيلِ فِي صِفَتَيْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَحَيَاتِهِ وَفِي عِلْمَيْ الْفِقْهِ وَالْهَنْدَسَةِ أَمَّا فِي الْعِلْمَيْنِ فَقَدْ حَكَى الْأَصْلُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْمًا عَالِمَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ الْمَعْقُولَاتِ وَالْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْآخَرُ عَالِمٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَقَالَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي: الْهَنْدَسَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْفِقْهِ لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ وَالْفِقْهُ مَظْنُونٌ وَالْقَطْعُ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ صَدَقْت مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هِيَ أَفْضَلُ، غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ مِنْهَا لِأَنَّهُ يُثْمِرُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَنَعِيمَ الْجِنَانِ وَرِضْوَانَ الرَّحْمَنِ، وَالْهَنْدَسَةُ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ فَوَافَقَهُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَا مُتَنَاصِفَيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي الْوَصْفَيْنِ فَقَالَ الْأَصْلُ: عِلْمُهُ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الْحَيَاةِ مِنْ جِهَةِ التَّعَلُّقِ الَّذِي لَهُ وَالْحَيَاةُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا وَحَيَاتُهُ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي ذَاتِهَا لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهَا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَفٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَقِيقَتَيْنِ ثَمَرَةٌ إلَّا أَنَّ ثَمَرَةَ إحْدَاهُمَا أَعْظَمُ وَجَدْوَاهَا أَكْثَرُ فَتَكُونُ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا
الْحَقِيقَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَهَا ثَمَرَةٌ وَهِيَ مُثْمِرَةٌ، غَيْرَ أَنَّ إحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ ثَمَرَتُهَا أَعْظَمُ وَجَدْوَاهَا أَكْثَرُ فَتَكُونُ أَفْضَلَ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا الْفِقْهُ وَالْهَنْدَسَةُ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الْهَنْدَسَةَ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِسَابِ وَالْمِسَاحَاتِ وَالْحِسَابُ يَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا، وَالْمِسَاحَاتُ تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَاتِ وَنَحْوِهَا وَمِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْحِسَابُ الْمَسْأَلَةُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَمَعَ الْآخَرِ ثَلَاثَةٌ فَجَلَسَا يَأْكُلَانِ فَجَلَسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ يَأْكُلُ مَعَهُمَا.
ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ دَفَعَ لَهُمَا الَّذِي أَكَلَ مَعَهُمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ: اقْسِمَا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى قَدْرِ مَا أَكَلْته لَكُمَا فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ: إنَّهُ أَكَلَ نِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِي وَنِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِك فَأَعْطِنِي النِّصْفَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا أُعْطِيك إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ لِي خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ فَآخُذُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَك ثَلَاثَةُ أَرْغِفَةٍ تَأْخُذُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ فَتَرَافَعَا إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَحَكَمَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ فَشَكَا مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْأَرْغِفَةُ ثَمَانِيَةٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ إلَّا ثُلُثًا بَقِيَ لَك ثُلُثٌ مِنْ أَرْغِفَتِك أَكَلَهُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَأَكَلَ صَاحِبُك مِنْ أَرْغِفَتِهِ ثَلَاثَةً إلَّا ثُلُثًا وَهِيَ خَمْسَةٌ يَبْقَى لَهُ رَغِيفَانِ وَثُلُثٌ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَثْلَاثٍ أَكَلَهَا صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ فَأَكَلَ لَك ثُلُثًا وَلَهُ سَبْعَةَ أَثْلَاثٍ فَيَكُونُ لَك دِرْهَمٌ وَلَهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي الْمُلْزِمُ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِدَقِيقِ الْحِسَابِ كَمَا تَرَى وَمِنْ مَسَائِلِ الْمِسَاحَةِ الْغَرِيبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِقْهِ رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةً فِي عَشَرَةٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا، جَمِيعُ ذَلِكَ عَشَرَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فَاخْتُلِفَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأُجْرَةِ فَقَالَ ضُعَفَاءُ الْفُقَهَاءِ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ النِّصْفَ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ يَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْفِقْهُ وَالْهَنْدَسَةُ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً أَمَّا الْفِقْهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْهَنْدَسَةُ فَلِأَنَّهَا يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِسَابِ وَالْمِسَاحَاتِ.
وَالْحِسَابُ يَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا، وَالْمِسَاحَاتُ تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَاتِ وَنَحْوِهَا وَمِنْ نَوَادِرِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي الْمُلْزِمُ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِدَقِيقِ الْحِسَابِ الْمَسْأَلَةُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَهِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَمَعَ الْآخَرِ ثَلَاثَةٌ فَجَلَسَا يَأْكُلَانِ فَجَلَسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ يَأْكُلُ مَعَهُمَا، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ دَفَعَ الثَّالِثُ لَهُمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ اقْسِمَا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى قَدْرِ مَا أَكَلْته لَكُمَا فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ إنَّهُ أَكَلَ نِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِي وَنِصْفَ أَكْلِهِ مِنْ أَرْغِفَتِك فَأَعْطِنِي النِّصْفَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا أُعْطِيك إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ لِي خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ فَآخُذُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَك ثَلَاثَةُ أَرْغِفَةٍ تَأْخُذُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ فَتَرَافَعَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَحَكَمَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ فَشَكَا مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْأَرْغِفَةُ ثَمَانِيَةٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَلَاثَةً إلَّا ثُلُثًا فَبَقِيَ مِنْ أَرْغِفَتِك بَعْدَ أَكْلِك ثُلُثُ رَغِيفٍ أَكَلَهُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَبَقِيَ بَعْدَ أَكْلِ صَاحِبِ الْخَمْسَةِ رَغِيفَانِ وَثُلُثٌ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَثْلَاثٍ أَكَلَهَا صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ لَك دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فِي مُقَابَلَةِ الثُّلُثِ الَّذِي أَكَلَهُ لَك وَلِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ فِي مُقَابَلَةِ سَبْعَةٍ إلَّا ثَلَاثٍ الَّتِي أَكَلَهَا لَهُ وَمِنْ غَرَائِبِ الْمَسَائِلِ الْمِسَاحِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِقْهِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي الْمُلْزِمُ مَسْأَلَةُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَشَرَةٍ عَرْضًا فِي عَشَرَةٍ عُمْقًا بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ فَاخْتُلِفَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأُجْرَةِ فَقَالَ ضُعَفَاءُ الْفُقَهَاءِ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ لِأَنَّهُ عَمِلَ النِّصْفَ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ يَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ لِأَنَّهُ عَمِلَ الثُّمُنَ وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الذِّرَاعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَوْ عُمِلَ وَبُسِطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمُسِحَ كَانَ حَصِيرًا طُولُهُ عَشَرَةٌ وَعَرْضُهُ عَشَرَةٌ وَمِسَاحَتُهُ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِمِائَةٍ فَالذِّرَاعُ الْأَوَّلُ تَحَصُّلُ مِسَاحَتِهِ مِائَةٌ وَهِيَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ، وَمِائَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَعْمَلْ إلَّا مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِسَبَبِ أَنَّ الذِّرَاعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْخَمْسَةِ مِسَاحَتُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فِي خَمْسَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَنِسْبَةُ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى الْأَلْفِ نِسْبَةُ الثُّمُنِ فَيَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ مِنْ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ ثُمُنَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْهَنْدَسَةِ يَشْمَلُ الْحِسَابَ وَالْمِسَاحَةَ وَغَيْرَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، غَيْرَ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَلِيلَةٌ فَثَمَرَةُ الْفِقْهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَمَرَةِ الْهَنْدَسَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا.
وَثَانِيهَا عِلْمُ النَّحْوِ وَعِلْمُ الْمَنْطِقِ كِلَاهُمَا لَهُ ثَمَرَةٌ جَلِيلَةٌ غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَةَ النَّحْوِ أَعْظَمُ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي نُطْقِ اللِّسَانِ وَكِتَابَةِ الْيَدِ فَإِنَّ اللَّحْنَ كَمَا يَقَعُ فِي اللَّفْظِ يَقَعُ فِي الْكِتَابَةِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَ فِي مَوَاضِعِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَنْطِقِ إلَّا فِي ضَبْطِ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ خَاصَّةً وَأَيْضًا الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَهْتَدِي لِتَقْوِيمِ اللِّسَانِ
لِأَنَّهُ عَمِلَ الثُّمُنَ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَشَرَةٍ فِي عَشَرَةٍ وَذَلِكَ أَلْفُ ذِرَاعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الذِّرَاعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَوْ عُمِلَ وَبُسِطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمُسِحَ كَانَ حَصِيرًا طُولُهُ عَشَرَةٌ وَعَرْضُهُ عَشَرَةٌ وَمَسَّاحَتُهُ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِمِائَةٍ، فَالذِّرَاعُ الْأَوَّلُ تَحْصُلُ مِسَاحَتُهُ مِائَةٌ وَهِيَ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ وَمِائَةٌ فِي عَشَرَةٍ بِأَلْفٍ وَعَمِلَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فَالذِّرَاعُ الْأَوَّلُ لَوْ بُسِطَ عَلَى الْأَرْضِ تُرَابًا عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ، وَخَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَالذِّرَاعُ مِسَاحَتُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فِي خَمْسَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَنِسْبَةُ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى الْأَلْفِ نِسْبَةُ الثُّمُنِ فَيَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ ثُمُنَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الدَّقَائِقُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ الْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْهَنْدَسَةِ يَشْمَلُ الْحِسَابَ وَالْمِسَاحَةَ وَغَيْرَهُمَا وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ.
وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، غَيْرَ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَلِيلَةٌ فَثَمَرَةُ الْفِقْهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَمَرَةِ الْهَنْدَسَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا.
وَثَانِيهَا عِلْمُ النَّحْوِ وَعِلْمُ الْمَنْطِقِ كِلَاهُمَا لَهُ ثَمَرَةٌ جَلِيلَةٌ، غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَةَ النَّحْوِ أَعْظَمُ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي نُطْقِ اللِّسَانِ وَكِتَابَةِ الْيَدِ فَإِنَّ اللَّحْنَ يَقَعُ فِي الْكِتَابَةِ وَفِي اللَّفْظِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْفِقْهِ وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَ فِي مَوَاضِعِهِ.
وَأَمَّا الْمَنْطِقُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ضَبْطِ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ خَاصَّةً وَقَدْ يَكْفِي فِيهَا الطَّبْعُ السَّلِيمُ وَالْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ وَلَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِهِ لِتَقْوِيمِ اللِّسَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ اللَّحْنِ فَإِنَّهَا أُمُورٌ سَمْعِيَّةٌ وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّحْوِ بِالضَّرُورَةِ فِيهَا، وَالْمَنْطِقُ يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِصَفَاءِ الْعَقْلِ فَصَارَتْ الْحَاجَةُ لِلنَّحْوِ أَعْظَمَ، وَثَمَرَتُهُ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ.
وَثَالِثُهَا عِلْمُ النَّحْوِ مَعَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ غَيْرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ يُثْمِرُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فَإِنَّهَا مِنْهُ تُؤْخَذُ فَالشَّرِيعَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالنَّحْوُ إنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَصْحِيحِ الْأَلْفَاظِ وَبَعْضِ الْمَعَانِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَسَلَامَتِهِ مِنْ اللَّحْنِ لِأَنَّهَا أُمُورٌ سَمْعِيَّةٌ وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّحْوِ بِالضَّرُورَةِ فِيهَا وَالْمَنْطِقُ يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِهِ الطَّبْعُ السَّلِيمُ وَالْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِصَفَاءِ الْعَقْلِ فَصَارَتْ الْحَاجَةُ لِلنَّحْوِ أَعْظَمَ وَثَمَرَتُهُ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ
وَثَالِثُهَا عِلْمُ النَّحْوِ مَعَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِلَاهُمَا مُثْمِرٌ غَيْرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ فَلَا تُؤْخَذُ أَحْكَامُهَا إلَّا مِنْهُ فَهِيَ ثَمَرَتُهُ وَالنَّحْوُ إنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَصْحِيحِ الْأَلْفَاظِ، وَبَعْضُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَقَاصِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَحْصِيلِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِرَادَتِهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فِي الْمُمْكِنَاتِ بِزَمَانِهَا وَصِفَاتِهَا الْجَائِزَةِ عَلَيْهَا عَلَى سَائِرِ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ إذْ لَا تَأْثِيرَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْهَا.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْحَيَاءَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْقِحَةُ فَقَالَ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَيَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَثَّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالزَّجْرَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَالِقْحَةَ لَا يَنْزَجِرُ صَاحِبُهَا عَنْ مَكْرُوهٍ وَلَا تَحُثُّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ.
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الشَّجَاعَةَ عَلَى الْجُبْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ تَحُثُّ عَلَى رَدْءِ الْأَعْدَاءِ وَنُصْرَةِ الْجَارِ وَدَفْعِ الْعَارِ، وَالْجُبْنَ لَا يَأْتِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَرَابِعُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ السَّخَاءَ عَلَى الْبُخْلِ كَمَا وَرَدَ «الْكَرِيمُ حَبِيبُ اللَّهِ» لِأَنَّ السَّخَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَنَانَةَ، وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَلْبِ الْقُلُوبِ بِخِلَافِ الْبُخْلِ فَإِنَّهُ مِنْ طِبَاعِ اللِّئَامِ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَفِيمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نَظَرٌ اهـ.
قُلْت: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ نَسَبَ التَّأْثِيرَ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ لَا يُنْسَبُ حَقِيقَةً إلَّا لِلذَّاتِ وَقَوْلُهُمْ الْقُدْرَةُ فَعَّالَةٌ مَجَازٌ لَا كُفْرٌ مَا لَمْ يُرِدْ الِانْفِكَاكَ وَالِاسْتِقْلَالَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ قَالَ وَقَدْ أَشَارَ الشَّارِحُ لِذَلِكَ كَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ بِهَا فِي تَعْرِيفِ الْقُدْرَةِ عُرْفًا بِأَنَّهَا صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ يَتَأَتَّى بِهَا إيجَادُ كُلِّ مُمْكِنٍ، وَإِعْدَامُهُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ اهـ.
لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ وَاسِطَةٍ، أَوْ يُمَثِّلَ بِالْآلَةِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَيُقْتَصَرُ لِلْقَاصِرِينَ عَلَى قَوْلِنَا اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَإِلَّا جَاءَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكَانَ مُضِلِّي مَنْ هُدِيتُ بِرُشْدِهِ
قَالَ وَفِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي شَرْحِ تَرْجُمَانِ الْأَشْوَاقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ، وَسِرُّ الْقَدَرِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا أَفْرَادٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ طَوَى عِلْمَهُ عَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ مَا عَدَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ وَرِثَهُ فِيهِ «كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ يَوْمًا أَتَدْرِي يَوْمَ لَا يَوْمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَعَمْ ذَلِكَ يَوْمُ الْمَقَادِيرِ» ، أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَقَدْ أَطْلَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِرَاثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَكِنْ لَا يَسَعُنَا الْإِفْصَاحُ عَنْهُ لِغَلَبَةِ مُنَازَعَةِ الْمَحْجُوبِينَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ اهـ بِتَصَرُّفٍ.
وَفِي بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ نُسِبُ التَّأْثِيرُ لِلْأَسْبَابِ وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْحُكَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْمَذْهَبُ
وَالْأَلْفَاظُ إنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَقَاصِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَلْفَاظِ، وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَحْصِيلِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْعِلْمُ وَالْخَبَرُ تَابِعَانِ لَيْسَا بِمُؤَثِّرَيْنِ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْ قَبِيلِ الْعِلْمِ وَمَا لَهُ التَّأْثِيرُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فِي الْمُمْكِنَاتِ بِزَمَانِهَا وَصِفَاتِهَا الْجَائِزَةِ عَلَيْهَا، وَالْحَيَاةُ لَا تُؤَثِّرُ إيجَادًا وَلَا تَخْصِيصًا وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ السَّبْعَةِ مُؤَثِّرٌ إلَّا الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ فَقَطْ.
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْحَيَاءَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْقِحَةُ فَقَالَ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَيَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَثَّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالزَّجْرَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَالِقْحَةَ لَا يَنْزَجِرُ صَاحِبُهَا عَنْ مَكْرُوهٍ وَلَا تَحُثُّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ وَلِذَلِكَ فَضَّلَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الشَّجَاعَةَ عَلَى الْجُبْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ تَحُثُّ عَلَى دَرْءِ الْأَعْدَاءِ وَنَصْرِ الْجَارِ وَدَفْعِ الْعَارِ، وَالْجُبْنَ لَا يَأْتِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فَضَّلَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ السَّخَاءَ عَلَى الْبُخْلِ لِكَوْنِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَلْبِ الْقُلُوبِ كَمَا وَرَدَ الْكَرِيمُ حَبِيبُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ السَّخَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَنَانَةَ، وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْبُخْلُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طِبَاعِ اللِّئَامِ
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ) .
قُلْت: فِيمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نَظَرٌ.
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ)
قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى جَمِيعَ قَوْلِهِ فِيهَا عَلَى نِسْبَةِ تِلْكَ الْآثَارِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْحَقُّ أَنْ لَا تَأْثِيرَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ السَّبَبِ كَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ وَمُسَبَّبِهِ كَالنَّتِيجَةِ إمَّا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ كَالتَّلَازُمِ بَيْنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ فَوُجُودُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِيٌّ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ بَلْ أَنْ يُوجَدَا مَعًا، أَوْ يُعْدَمَا مَعًا وَقِيلَ: عَادِيٌّ يَقْبَلُ التَّخَلُّفَ كَالْإِحْرَاقِ عِنْدَ مَسِّ النَّارِ فَقَدْ تَخَلَّفَ فِي نَحْوِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالتَّوَلُّدِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الضَّرْبِ النَّاشِئِ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَالتَّوَلُّدُ أَنْ يُوجِبَ الْفِعْلُ لِفَاعِلِهِ شَيْئًا آخَرَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ.
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سُرْعَةَ السَّيْرِ وَوُفُورَ الْقُوَّةِ بِحَيْثُ إنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام يَسِيرُ مِنْ الْعَرْشِ إلَى الْفَرْشِ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَحْمِلُ مَدَائِنَ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحِهِ لَا يَضْطَرِبُ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يَقْلَعُهَا مِنْ تَحْتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيَصْعَدُ بِهَا إلَى الْجَوِّ، ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَبِحَيْثُ إنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْجَانِّ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ عليه السلام رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ الزَّاجِرُونَ لَهُمْ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الْإِقْسَامِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ عليه السلام يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَتَّبَ سُلَيْمَانُ هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا إلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ أَذِيَّتُهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبِثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ، أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ، وَتَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُضَافُ لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ مِنْ التَّفْضِيلِ تُحْمَلُ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ إذَا احْتَمَلَ النَّصُّ ذَلِكَ؛ إذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ أَبْنِيَةَ بَنِي آدَمَ خَسِيسَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَلَا تُعَارِضُ مَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ لِأُمُورٍ.
أَحَدُهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَقْلٌ مَحْضٌ وَالْبَهَائِمَ شَهْوَةٌ مَحْضَةٌ وَالْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا فَكَمَا أَنَّ غَلَبَةَ الشَّهْوَةِ تُنَزِّلُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْبَهَائِمِ بِعُذْرِهَا بِالْعَدَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] كَذَلِكَ غَلَبَةُ الْعَقْلِ تَرْفَعُهُ عَنْ الْمَلَائِكَةِ؛ إذْ وُجُودُ الشَّهَوَاتِ مَعَ قَمْعِهَا أَتَمُّ مِنْ بَابِ " أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَحْمَزُهَا بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَزَايٍ أَيْ أَشَقُّهَا ".
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلَطَافَةِ أَجْسَامِهِمْ النُّورَانِيَّةِ لَا يَتَشَكَّلُونَ فِي صُوَرِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَتَشَكَّلُ جِبْرِيلُ بِصُورَةِ مِيكَائِيلَ وَلَا الْعَكْسُ بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْبَشَرِ فَيُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ أَنَّ مَقَامَ «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ» الْحَدِيثَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْبَشَرِ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَكُلُّ طَاعَاتِهِمْ مُحَتَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْرُغُونَ مِنْ تَوْظِيفٍ حَتَّى يُمْكِنَهُمْ التَّطَوُّعُ نَعَمْ قَالَ السَّعْدُ لَا قَاطِعَ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ كَذَا يُؤْخَذُ مِنْ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ
وَيَسِيرُ جِبْرِيلُ عليه السلام مِنْ الْعَرْشِ إلَى الْفَرْشِ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَحْمِلُ مَدَائِنَ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحِهِ لَا يَضْطَرِبُ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يَقْتَلِعُهَا مِنْ تَحْتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيَصْعَدُ بِهَا إلَى الْجَوِّ ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَهَذَا عَظِيمٌ.
وَالْمَلَكُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْجَانِّ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ عليه السلام رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ الزَّاجِرُونَ لَهُمْ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ الْمُقْسِمُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ عليه السلام يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَتَّبَ سُلَيْمَانُ هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا إلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ أَذِيَّتُهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبِثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ، أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ وَمَا سَبَبُ اقْتِدَارِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْجَانِّ إلَّا فَضْلُ أَبْنِيَتِهِمْ وَوُفُورُ قُوَّتِهِمْ فَهُمْ مُفَضَّلُونَ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُضَافًا لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ يُنْتَفَعُ بِهَا كَثِيرًا فِي النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ فَإِذَا قُصِدَ الْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ النُّصُوصِ حُمِلَ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ إذَا كَانَ النَّصُّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَيَنْدَفِعُ أَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ وَالنُّقُوضِ عَنْ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ فِي أَبْنِيَتِهِمْ وَأَنَّ أَبْنِيَةَ بَنِي آدَمَ خَسِيسَةٌ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الَّتِي ذَكَرَهَا إلَى تَأْثِيرِ غَيْرِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ مَسَاقِ كَلَامِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَاعِدَةِ الْعِشْرِينَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَهِيَ مِنْ الْمُفَضَّلَاتِ الَّتِي عُلِمَ تَفْضِيلُهَا صَحِيحٌ كُلُّهُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْجَانِّ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنْ السِّنِينَ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَمْ يَجْعَلْهَا تَعَالَى مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ كَمَا جَعَلَ أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهَا الْعَفَنُ وَآفَاتُ الرُّطُوبَاتِ دُونَ أَجْسَادِ الْجَانِّ فَلِذَلِكَ كَثُرَ بَقَاؤُهُمْ وَطَالَ وَأَسْرَعَ لِبَنِي آدَمَ الْمَوْتُ عَلَى حَسَبِ تَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَمِمَّا وَرَدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي الْجَانِّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِيدُ النَّارَ:
أَتَوْا نَارِي فَقُلْت مَنُونُ أَنْتُمْ
…
فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامَا
فَقُلْت إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ
…
زَعِيمٌ يَحْسُدُ الْإِنْسَ الطَّعَامَا
لَقَدْ فُضِّلْتُمْ بِالْأَكْلِ عَنَّا
…
وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سِقَامَا
فَصَرَّحُوا فِي شِعْرِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ إنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ بِرَوَائِحِهَا وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْ أُمَّتَك لَا يَسْتَجْمِرُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ فَإِنَّهَا طَعَامُنَا وَطَعَامُ دَوَابِّنَا» مَعَ أَنَّا نَجِدُ الْعَظْمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ.
قَالَ الْأَصْلُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِالرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِجِرْمِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُمْ طَائِرٌ لَا يَأْوِي فِي الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْوِي فِي الْأَرْضِ يَرْحَلُونَ وَيَنْزِلُونَ فِي الْبَرَارِي كَالْأَعْرَابِ، وَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَرَاكِيبُهُمْ أَعْظَمُ وَسَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْسَرُ فَيَسِيرُونَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَلِذَلِكَ تُؤْخَذُ عَنْهُمْ أَخْبَارُ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِسَبَبِ سُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ وَتَنَقُّلِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاِتَّخَذَهُمْ سُلَيْمَانُ عليه السلام لِأَعْمَالٍ تَعْجِزُ عَنْهَا الْبَشَرُ بِسَبَبِ فَرْطِ قُوَّتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] وَلَهُمْ قُوَّةُ التَّنَقُّلِ عَلَى التَّصَوُّرِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَرَادُوا فَتَقْبَلُ بِنْيَتُهُمْ التَّنَقُّلَ إلَى الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَالْبَهَائِمِ وَصُوَرِ بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَلَطَافَةِ التَّرْكِيبِ وَبِنْيَتُنَا نَحْنُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا لِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالرَّصَافَةُ وَالدَّوَامُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَخُلِقُوا مِنْ نَارٍ شَأْنُهَا التَّحَرُّكُ وَسُرْعَةُ الِانْتِقَالِ وَاللَّطَافَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي غَرَّ إبْلِيسَ فَأَوْجَبَ لَهُ الْكِبْرَ عَلَى آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَتَرَكَ أَنَّ اللَّهَ يُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَحْكُمْ مَا يُرِيدُ فَجَاءَ بِالِاعْتِرَاضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهَلَكَ اهـ.
وَفِي كِتَابِ مُسَامَرَةِ الْأَخْيَارِ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - خَبَرُ الْحَيَّةِ الطَّائِفَةِ بِالْبَيْتِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْجِنِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْكُنُ ذَا طُوًى وَكَانَ لَهَا ابْنٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا وَكَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فَتَزَوَّجَ وَأَتَى زَوْجَتَهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ سَابِعِهِ قَالَ لِأُمِّهِ يَا أُمَّهْ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ سَبْعًا نَهَارًا قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: أَيْ بُنَيَّ إنِّي أَخَافُ عَلَيْك سُفَهَاءَ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَرْجُو السَّلَامَةَ فَأَذِنَتْ لَهُ فَوَلَّى فِي صُورَةِ جَانٍّ فَلَمَّا أَدْبَرَ جَعَلَتْ تُعَوِّذُهُ وَتَقُولُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَتُحْمَلُ آيَةُ التَّفْضِيلِ عَلَى ذَلِكَ.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْجَانِّ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنْ السِّنِينَ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْعَفَنُ وَلَا آفَاتُ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ فَلِذَلِكَ كَثُرَ بَقَاؤُهُمْ وَطَالَ، وَأَسْرَعَ لِبَنِي آدَمَ الْمَوْتُ وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي الْجَانِّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ يُقِيدُ النَّارَ:
أَتَوْا نَارِي فَقُلْت مَنُونُ أَنْتُمْ
…
فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامَا
فَقُلْت إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ
…
زَعِيمٌ يَحْسُدُ الْإِنْسَ الطَّعَامَا
لَقَدْ فُضِّلْتُمْ بِالْأَكْلِ عَنَّا
…
وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سِقَامَا
فَصَرَّحُوا فِي شِعْرِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرُهُ: إنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ بِرَوَائِحِهَا وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْ أُمَّتَكَ لَا يَسْتَجْمِرُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ فَإِنَّهَا طَعَامُنَا وَطَعَامُ دَوَابِّنَا» مَعَ أَنَّا نَجِدُ الْعَظْمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِالرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِجِرْمِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُمْ طَائِرٌ لَا يَأْوِي فِي الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْوِي فِي الْأَرْضِ يَرْحَلُونَ وَيَنْزِلُونَ فِي الْبَرَارِيِّ كَالْأَعْرَابِ، وَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَرَاكِيبُهُمْ أَعْظَمُ وَسَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْسَرُ فَيَسِيرُونَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَلِذَلِكَ تُؤْخَذُ عَنْهُمْ أَخْبَارُ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِسَبَبِ سُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ وَتَنَقُّلِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاِتَّخَذَهُمْ سُلَيْمَانُ عليه السلام لِأَعْمَالٍ تَعْجِزُ عَنْهَا الْبَشَرُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أُعِيذُهُ بِالْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ
…
وَدَعَوَاتِ ابْنِ أَبِي مَحْذُورَهْ
وَمَا تَلَا مُحَمَّدٌ مِنْ سُورَهْ
…
إنِّي إلَى حَيَاتِهِ فَقِيرَهْ
وَإِنَّنِي بِعَيْشِهِ مَسْرُورَهْ
فَمَضَى الْجَانُّ أَيْ وَهُوَ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ نَحْوَ الطَّوَافِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُنْقَلِبًا حَتَّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ دُورِ بَنِي سَهْمٍ عَرَضَ لَهُ شَابٌّ مِنْ بَنِي سَهْمٍ أَحْمَرُ أَكْثَفُ أَزْرَقُ أَحُولُ أَعْسَرُ فَقَتَلَهُ فَثَارَتْ بِمَكَّةَ غَبَرَةٌ حَتَّى لَمْ تُبْصَرْ لَهَا الْجِبَالُ قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ إنَّمَا تَثُورُ تِلْكَ الْغَبَرَةُ عِنْدَ مَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ الْجِنِّ قَالَ فَأَصْبَحَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ عَلَى فِرَاشِهِمْ مَوْتَى كَثِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْجِنِّ فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ شَيْخًا أَصْلَعَ سِوَى الشَّبَابِ قَالَ فَنَهَضَتْ بَنُو سَهْمٍ وَحُلَفَاؤُهَا وَمَوَالِيهَا وَعَبِيدُهَا فَرَكِبُوا الْجِبَالَ وَالشِّعَابَ بِالثَّنِيَّةِ فَمَا تَرَكُوا حَيَّةً وَلَا عَقْرَبًا وَخُنْفُسَاءَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا قَتَلُوهُ فَأَقَامُوا بِذَلِكَ ثَلَاثًا فَسَمِعُوا فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ يُسْمَعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّهَ اللَّهَ فَإِنَّ لَكُمْ أَحْلَامًا وَعُقُولًا أَعْذِرُونَا أَعْذِرُونَا مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَقَدْ قَتَلُوا مِنَّا أَضْعَافَ مَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ اُدْخُلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِصُلْحٍ نُعْطِهِمْ وَيُعْطُونَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَعُودَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِسُوءٍ أَبَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ وَاسْتَوْثَقُوا لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَسُمِّيَتْ بَنُو سَهْمٍ الْعَيَاطِلَةَ قَتَلَةَ الْجِنِّ اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ فَانْظُرْهُ. وَثَالِثُهَا: تَفْضِيلُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ فَإِنَّ بِنْيَةَ الذَّهَبِ مُلْتَزِزَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ وَبِنْيَةَ الْفِضَّةِ مُتَفَشْفِشَةٌ رَخْوَةٌ، وَسَبَبُ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ إنَّ طَبْخَ الذَّهَبِ طَالَ تَحْتَ الْأَرْضِ بِحَرِّ الشَّمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْفِضَّةُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ذَلِكَ فَكَانَتْ بِنْيَةُ الذَّهَبِ أَفْضَلَ مِنْ بِنْيَةِ الْفِضَّةِ. الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ: التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مِنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ؛ بِأَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْآخَرِ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ، وَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَحَجِّ الْفَرْضِ عَلَى تَطَوُّعِهِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَتَفْضِيلِ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ (خَاتِمَةٌ) نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَهَا. فِي مُهِمَّاتٍ:(الْمُهِمُّ الْأَوَّلُ) أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: دُنْيَوِيٌّ، كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ.
وَالثَّانِي: دِينِيٌّ، كَتَفْضِيلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمِنَةِ بِإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَمَغْفِرَةِ الزَّلَّاتِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْآمَالِ، وَرَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ، وَعَاشُورَاءَ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَأَيَّامِ الْبِيضِ وَالْجُمُعَةِ وَالْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَزْمِنَةِ وَكَتَفْضِيلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَرَفَةَ وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا وَمِنْ الْأَقَالِيمِ الْمُفَضَّلَةِ شَرْعًا الْيَمَنُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» وَالْمَغْرِبُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» .
(الْمُهِمُّ الثَّانِي) الْمُفَضَّلَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ
بِسَبَبِ فَرْطِ قُوَّتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] وَلَهُمْ قُوَّةُ التَّنَقُّلِ عَلَى التَّصَوُّرِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَرَادُوا فَتَقْبَلُ بِنْيَتُهُمْ التَّنَقُّلَ إلَى الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَالْبَهَائِمِ وَصُوَرِ بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَلَطَافَةِ التَّرْكِيبِ وَبِنْيَتُنَا نَحْنُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالرَّصَافَةُ وَالدَّوَامُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَخُلِقُوا مِنْ نَارٍ شَأْنُهَا التَّحَرُّكُ وَسُرْعَةُ الِانْتِقَالِ وَاللَّطَافَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي غَرَّ إبْلِيسَ فَأَوْجَبَ لَهُ الْكِبْرَ عَلَى آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - وَتَرْكَ أَنَّ اللَّهَ يُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فَجَاءَ بِالِاعْتِرَاضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهَلَكَ.
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ فَإِنَّ بِنْيَةَ الذَّهَبِ مُلْتَزَّةٌ مُتَدَاخِلَةٌ، وَبِنْيَةَ الْفِضَّةِ مُتَفَشْفِشَةٌ رَخْوَةٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَحَدِّثُونَ عَنْ الْمَعَادِنِ أَنَّ طَبْخَ الذَّهَبِ طَالَ تَحْتَ الْأَرْضِ بِحَرِّ الشَّمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْفِضَّةُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ذَلِكَ فَكَانَ بِنْيَةُ الذَّهَبِ أَفْضَلَ مِنْ بِنْيَةِ الْفِضَّةِ.
(الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ) التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَيُفَضِّلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْآخَرِ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ وَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حَجِّ الْفَرْضِ عَلَى تَطَوُّعِهِ وَالْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ فِي أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّفْضِيلِ قَدْ تَتَعَارَضُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ مَنْ حَازَ أَكْثَرَهَا وَأَفْضَلَهَا وَالتَّفْضِيلُ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَجْمُوعَاتِ وَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» رضي الله عنهم مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَكَاخْتِصَاصِ سُلَيْمَانَ عليه السلام بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَنُوحٍ عليه السلام
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَا يُطَّلَعُ عَلَى سَبَبِ تَفْضِيلِهِ كَتَفْضِيلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ أَقْسَامَ تَصَرُّفِ الْعِبَادَةِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ بِمَا يَجِبُ وَيَسْتَحِيلُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى.
وَثَانِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إسْقَاطِهِ، وَإِلَّا فَكُلُّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ عز وجل بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ.
وَثَالِثُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْعِبَادِ وَالْغَالِبُ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ كَالزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْمَنْذُورَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ.
وَرَابِعُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْعِبَادِ كَالْأَذَانِ فَحَقُّهُ تَعَالَى التَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَحَقُّ رَسُولِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ الْإِرْشَادُ لِلْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ، وَالدُّعَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ، وَالصَّلَاةُ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالتُّرُوكِ وَالْكَفِّ عَنْ الْكَلَامِ وَكَثِيرِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَعَلَى حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْقِيَامِ بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْقُنُوتُ، وَفِي السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّسْلِيمُ آخِرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» .
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يُعْلَمُ تَفْضِيلُهُ إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِيَّاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا تَفْضِيلُهُ بِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِنَا فَمِنْ جِهَةِ الْمَعْلُومِ بِوُجُوهٍ كَكَوْنِهَا مُهَاجَرَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَمَوْطِنَ اسْتِقْرَارِ الدِّينِ وَظُهُورِ دَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدْفِنَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَبِهَا كَمَلَ الدِّينُ وَاتَّضَحَ الْيَقِينُ وَحَصَلَ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَكَانَ النَّقْلُ عَنْ أَهْلِهَا أَفْضَلَ النُّقُولِ وَأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَاتِ لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ فِيهِ يَنْقُلُونَ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ عَنْ الْأَسْلَافِ فَيَخْرُجُ النَّقْلُ عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ إلَى حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ.
وَثَانِيهَا دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ
وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك» وَمَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَكُونُ أَفْضَلَ وَالظَّاهِرُ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَسْكَنَهُ الْمَدِينَةَ فَتَكُونُ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى
بِإِنْذَارِ الْمِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَآدَمَ صلى الله عليه وسلم بِكَوْنِهِ أَبَا الْبَشَرِ مَعَ تَفْضِيلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَمِيعِ فَلَوْلَا هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَهِيَ تَجْوِيزُ اخْتِصَاصِ الْمَفْضُولِ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ لَلَزِمَ التَّنَاقُضُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا هُوَ بِالطَّاعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمَثُوبَاتِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّاتِ وَشَرَفِ الرِّسَالَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّاتِ فَمَنْ كَانَ فِيهَا أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ وَكَذَلِكَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ بِمَجْمُوعِ مَا فِيهَا فَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ كَاخْتِصَاصِ الْجِهَادِ بِثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَالْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَهُوَ يَقْتَضِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالتَّبِعَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَانَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ الْخَطِيئَاتِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ» وَالصَّلَاةُ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْضِيلُهُ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَفْضُولَاتِ مِنْهَا مَا يُطَّلَعُ عَلَى سَبَبِ تَفْضِيلِهِ وَمِنْهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ وَهَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِيَّاتِ وَمِنْ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله وَمَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالنُّصُوصِ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هَهُنَا تَحْرِيرُ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهَا أَمَّا جُزْئِيَّاتُ الْمَسَائِلِ فَفِي مَوَاضِعِهَا تَنْبِيهٌ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى تَفْضِيلِ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَنَقُولُ تَقَرَّرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعِبَادِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ
أَحَدُهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
جُحْرِهَا» أَيْ تَأْوِي.
وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» .
وَسَابِعُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» وَكَتَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُقَابِلِ مَشْهُورِ مَذْهَبِنَا فَمِنْ جِهَةِ الْمَعْلُومِ بِوُجُوهٍ
أَحَدُهَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْإِتْيَانُ لِلْمَدِينَةِ لَا يَجِبُ
وَثَانِيهَا إقَامَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا
وَثَالِثُهَا مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم فَمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّمَا كَثْرَةُ الطَّارِئِينَ لِلْمَدِينَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ.
وَرَابِعُهَا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِهَا
وَخَامِسُهَا تَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ
وَسَادِسُهَا تَحْرِيمُهَا يَوْمَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ تُحَرَّمْ الْمَدِينَةُ إلَّا فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم
وَسَابِعُهَا كَوْنُهَا مَثْوَى إبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام.
وَثَامِنُهَا كَوْنُهَا مَوْلِدَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم.
وَتَاسِعُهَا كَوْنُهَا لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِحْرَامٍ وَعَاشِرُهَا الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِهَا دُونَ الْمَدِينَةِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]
وَثَانِيهَا ثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]
وَثَالِثُهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ وَبَكَى طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ يَا عُمَرُ هَهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا قَالَ لَهُ إنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانٌ ذَلِقٌ يَشْهَدُ لِمَنْ قَبَّلَهُ وَاسْتَلَمَهُ وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ وَقِيلَ إنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنهما بَلْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ قَالَ لَهُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ كَتَبَ كِتَابًا وَأَلْقَمَهُ هَذَا الْحَجَرَ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ وَعَلَى الْكَافِرِينَ بِالْجُحُودِ قَالَ الْأَمِيرُ فِي مَنَاسِكِهِ، وَإِنَّمَا طُلِبَ التَّكْبِيرُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَقْبِيلَهُ إنَّمَا هُوَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَعْظِيمِهِ وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لَا كَمَا يَصْنَعُ الْمُشْرِكُونَ بِأَصْنَامِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ مَسَّهُ فَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَبَّلَهُ وَعَلَى التَّبَرُّكِ بِذَلِكَ تُبْذَلُ النُّفُوسُ وَأَيْضًا وَرَدَ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ وَالنَّاسُ تَتَعَبَّدُ بِتَقْبِيلِهِ كَمَا تُقَبَّلُ أَيْدِي الْمُلُوكِ اهـ.
وَرَابِعُهَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَهُوَ يَقْتَضِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالتَّبِعَاتِ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ الْخَطِيئَاتِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ» وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَاهُمَا وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَغْفِرَةَ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعَ دَرَجَاتِهِمْ دُونَ الْأُخْرَى لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْضَلُ.
وَخَامِسُهَا قَدْ مَرَّ عَنْ الْبَاجِيَّ أَنَّ حَدِيثَ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ إذَا ثَبَتَ صَرِيحًا فِي أَنَّ نَفْسَ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِ الْمَدِينَةِ، وَفِي الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا وَقَدْ كَثُرَ الِاحْتِجَاجُ فِي كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَكْثَرُهُ خَصَائِصُ وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ
فَقَطْ كَالْمَعَارِفِ وَكَالْإِيمَانِ بِمَا يَجِبُ وَيَسْتَحِيلُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى.
وَثَانِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إسْقَاطِهِ، وَإِلَّا فَكُلُّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ عز وجل بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ.
وَثَالِثُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْعِبَادِ وَالْغَالِبُ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ كَالزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَالْأَمْوَالِ الْمَنْذُورَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ.
وَرَابِعُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْعِبَادِ كَالْأَذَانِ فَحَقُّهُ تَعَالَى التَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَحَقُّ رَسُولِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَحَقُّ الْعِبَادِ الْإِرْشَادُ لِلْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ وَالدُّعَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ وَالصَّلَاةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالتُّرُوكِ وَالْكَفِّ عَنْ الْكَلَامِ وَكَثِيرِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَعَلَى حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْقُنُوتُ وَدُعَاؤُهُ فِي السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّسْلِيمُ آخِرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» فَهِيَ مِنْ الْمُفَضَّلَاتِ الَّتِي عُلِمَ سَبَبُ تَفْضِيلِهَا
وَأَمَّا تَفْضِيلُ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فَبِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا فَمِنْ الْمَعْلُومِ كَوْنُ الْمَدِينَةِ مُهَاجَرَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَأَمَّا تَفْضِيلُ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فَبِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا وَذَكَرَ أُمُورًا مِمَّا تُفَضَّلُ بِهَا الْمَدِينَةُ) قُلْت: لَمْ يَزِدْ عَلَى حِكَايَةِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَإِيرَادِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ الرَّاجِحَ وَفِيهِ نَظَرٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ هُوَ كَمَا قَالَ، وَقَوْلُ مَنْ ادَّعَى حَصْرَ التَّفْضِيلِ فِي الثَّوَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا ذُكِرَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمَا قَالَهُ مِنْ قَصْدِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ إنْ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْمَفْضُولَ قَدْ يَخْتَصُّ بِشَيْءٍ عَنْ الْفَاضِلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُهُ بِهِ فَالْأَذَانُ يَفِرُّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ دُونَ الصَّلَاةِ تَأَمَّلْ نَعَمْ حَدِيثُ الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ نَصٌّ فِي تَفْضِيلِهَا إلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ اهـ بِتَصَرُّفٍ.
(الْمُهِمُّ الثَّالِثُ) أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّفْضِيلِ قَدْ تَتَعَارَضُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ مَنْ حَازَ أَكْثَرَهَا وَأَفْضَلَهَا وَالتَّفْضِيلُ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَجْمُوعَاتِ وَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» رضي الله عنهم مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَكَاخْتِصَاصِ سُلَيْمَانَ عليه السلام بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَنُوحٍ عليه السلام بِإِنْذَارِ الْمِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَآدَمَ صلى الله عليه وسلم بِكَوْنِهِ أَبَا الْبَشَرِ مَعَ تَفْضِيلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَمِيعِ وَكَاخْتِصَاصِ الْجِهَادِ بِثَوَابِ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهِمَا ذَلِكَ وَكَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا بَلْ وَالتَّبِعَاتِ كَمَا عَلِمْت مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَكَاخْتِصَاصِ مَكَّةَ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ الْمَدِينَةَ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَفْضَلُ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي» فَيُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» عَلَى ظَاهِرِهِ لِلزِّيَادَةِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَنْطُوقٌ وَقَعَ صَرِيحًا فَلَا يُعَارِضُهُ مَفْهُومُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَأَشْهَبُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدُونِ الْأَلْفِ أَيْ بِتِسْعِ مِائَةٍ وَعَلَى غَيْرِهِ بِأَلْفٍ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْتِثْنَاءٍ فِي مَبْنَاهُ وَعَلَيْهِ جَرَى الْأَصْلُ فِيمَا مَرَّ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ بَلْ قَدْ مَرَّ عَنْ الرَّهُونِيِّ عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا أَنَّ حَدِيثَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَهُوَ الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَهُوَ صَرِيحٌ أَيْ فِي: تَفْضِيلُ مَسْجِدِ مَكَّةَ يَدْفَعُ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدُونِ أَلْفٍ، أَوْ بِتَأَوُّلِهِمَا فَلِذَا قَالَ مَالِكٌ إنَّ أَسْبَابَ التَّفْضِيلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي مَزِيدِ الْمُضَاعَفَةِ
سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَمَوْطِنَ اسْتِقْرَارِ الدِّينِ وَظُهُورِ دَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدْفِنِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَبِهَا كَمَلَ الدَّيْنُ وَاتَّضَحَ الْيَقِينُ وَحَصَلَ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَكَانَ النَّقْلُ مِنْ أَهْلِهَا أَفْضَلَ النُّقُولِ وَأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ فِيهِ يَنْقُلُونَ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ عَنْ الْأَسْلَافِ فَيَخْرُجُ النَّقْلُ عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ إلَى حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي التَّفْضِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمُتَعَلَّقِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَتَاجِرِ فَمَا تَعَيَّنَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَثَانِيهَا دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ فَيُحْمَلُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ الصَّاعُ وَالْمُدُّ.
وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك» وَمَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَكُونُ أَفْضَلَ وَالظَّاهِرُ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَسْكَنَهُ الْمَدِينَةَ فَتَكُونُ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ السِّيَاقَ لَا يَأْبَى دُخُولَ مَكَّةَ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِإِيَاسِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك مِمَّا عَدَاهَا، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ مَكَّةُ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَتَسْقُطُ الْحُجَّةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ طَيِّبٌ أَيْ هَوَاهَا وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيْ قُدِّسَ مَنْ فِيهَا، أَوْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَدَّسُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَكَذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ أَيْ قُدِّسَ مُوسَى عليه السلام فِيهِ وَالْمَلَائِكَةُ الْحَالُّونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ وَصْفُهُ عليه الصلاة والسلام الْبُقْعَةَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا مَا هُوَ مِنْ الْفِقْهِ فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ مِنْ الْفِقْهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِوَجْهٍ مَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِمِنًى عِنْدَ التَّوَجُّهِ لِعَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَإِنْ انْتَفَتْ عَنْهَا الْمُضَاعَفَةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ عَلَى أَنَّ فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ عَلَى عبق عَنْ سَيِّدِي أَحْمَدَ بَابَا أَنَّ هَذَا تَضْعِيفُ نَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَ مَا بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ» قَالَ: وَأَمَّا احْتِجَاجُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي مَكَّةَ قِبْلَةَ وَكَعْبَةَ الْحَجِّ وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهَا مَزِيَّةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ صَادَ بِحَرَمِهَا وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ صَادَ بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ وَبِأَنَّ جَمَاعَةً رَأَوْا أَنْ تُغَلَّظَ الْحُدُودُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ لِحُرْمَتِهِ وَلَا تُقَامَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ مَوْطِنُ إقَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمُهَاجَرِهِ وَمَوْطِنُ وَمُهَاجَرُ أَصْحَابِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَدْفِنُ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَمِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الرَّوْضَةَ الْمُشَرَّفَةَ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ فَيَكُونُ مَا قَارَبَهَا وَجَاوَرَهَا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ:
بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
فَتَأَمَّلْهُ بِإِنْصَافٍ اهـ.
قُلْت: وَفِي الْحَطَّابِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ عَنْ الشَّيْخِ السَّمْهُودِيِّ فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ نَقَلَ عِيَاضٌ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَلِيدِ وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ بَلْ نَقَلَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْعَرْشِ وَصَرَّحَ التَّاجُ الْفَاكِهِيُّ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّمَوَاتِ قَالَ بَلْ الظَّاهِرُ الْمُتَعَيَّنُ جَمِيعُ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَوَاتِ لِحُلُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْأَكْثَرِ بِخَلْقِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا وَدَفْنِهِمْ فِيهَا لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ مَا عَدَا مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ اهـ.
فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْأَصْلِ إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا الْمَدِينَةِ اهـ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ مَكَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءِ صَيْدِهَا وَرُؤْيَةِ تَغَلُّظِ الْحُدُودِ فِي حَرَمِهَا وَأَنَّهَا لَا تُقَامُ فِيهِ مَزَايَا تَقْتَضِي الْفَضِيلَةَ لَا الْأَفْضَلِيَّةَ،.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا فَجَوَابُهُ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَانَ كَمَالُهُ صلى الله عليه وسلم وَكَمَالُ الدِّينِ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَرَ فَلَعَلَّ سَاعَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ سَنَةٍ بِمَكَّةَ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْإِقَامَةِ بِهَا قَالَ الرَّهُونِيُّ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ» فَجَوَابُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ إمَّا إنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِتَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ، أَوْ خَيْرِهَا مَا عَدَاهَا اهـ.
قُلْت: عَلَى أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي وُجُوهِ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَإِنْ قَالَ: الْأَصْلُ إنَّ الثَّانِيَ مُطْلَقٌ فِي الْمُتَعَلِّقِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَالْمَتَاجِرِ وَأَنَّ سِيَاقَ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي عَدَمَ دُخُولِ مَكَّةَ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِإِيَاسِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك مِمَّا عَدَاهَا
بِالْمَحَبَّةِ وَهُوَ وَصْفٌ لَهَا بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَهِيَ إقَامَتُهُ صلى الله عليه وسلم بِهَا، وَإِرْشَادُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّبْلِيغَ وَتِلْكَ الْقُرُبَاتِ فَبَطَلَ الْوَصْفُ الْمُوجِبُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَيَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ
وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الزَّمَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْكَوْنِ مَعَهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ وَيُعَضِّدُهُ خُرُوجُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ
وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أَيْ تَأْوِي وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إتْيَانِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا بِسَبَبِ وُجُودِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا حَالَ حَيَاتِهِ فَلَا عُمُومَ لَهُ فِي الْأَزْمَانِ وَلَا بَقَاءَ لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بَعْدَهُ لِخُرُوجِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إلَى الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ الْوَاقِعُ فِيهِ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم لِخُرُوجِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا خَبَثًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَسَابِعُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا الْمَدِينَةِ وَأَمَّا مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَفُضِّلَتْ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْمَدِينَةُ يُنْدَبُ لِإِتْيَانِهَا وَلَا يَجِبُ.
وَثَانِيهَا أَنَّ إقَامَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ (ثَلَاثَ عَشْرَةَ) سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا غَيْرَ أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَانَ كَمَالُهُ صلى الله عليه وسلم وَكَمَالُ الدِّينِ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَرَ فَلَعَلَّ سَاعَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ سَنَةٍ بِمَكَّةَ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْإِقَامَةِ بِهَا
وَثَالِثُهَا فُضِّلَتْ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِئِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَفَضَلَتْ مَكَّةُ بِالطَّائِفِينَ مِنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ وَالْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك بِمَا جَعَلْته فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ إقَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا، وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ طَيِّبٌ أَيْ هَوَاهَا وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيْ قُدِّسَ مَنْ فِيهَا، أَوْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُقَدَّسُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالْوَادِي الْمُقَدَّسُ أَيْ قُدِّسَ مُوسَى عليه السلام فِيهِ وَالْمَلَائِكَةُ الْحَالُّونَ فِيهِ اهـ.
إذْ يَكْفِي كَوْنُهُمَا ظَاهِرَيْنِ فِي الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِمَجْمُوعِ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ لَا بِهِمَا فَقَطْ حَتَّى يَسْقُطَا بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ فَافْهَمْ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ وَلَا حُجَّةَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُرَغِّبَةِ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ عَلَى تَفْضِيلِهَا أَمَّا دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ فَلِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا خُرِّجَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يُبَارَكَ لَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ أَنْ تَكُونَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى» فَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إلَى قَرْيَةٍ تُفْتَحُ مِنْهَا الْبِلَادُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلِحَمْلِهَا عَلَى زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْكَوْنُ مَعَهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ قَالَ الْأَصْلُ وَيُعَضِّدُهُ خُرُوجُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَصْبِرُ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ اهـ فَلَا يَتِمُّ فِي جَمِيعِهَا كَمَا.
قَالَ الرَّهُونِيُّ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ خَاصٌّ بِحَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهَا خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم ثَابِتَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ وَقَوْلُهُ إنَّ مَعْنَى حَدِيثِ «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ» أَنَّ النَّاسَ يَنْتَابُونَ إلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ وَلَا ظَاهِرًا مِنْهُ وَقَدْ فُهِمَ غَيْرُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ مِنْ شُيُوخِنَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَغَيْرِهَا وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِخَطِّهِ وَزَادَ فِي ابْنِ سِرَاجٍ يَأْرُزُ بِالضَّمِّ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ كِتَابِ الْقَابِسِيِّ يَأْرُزُ بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ هَكَذَا سَمِعَهُ مِنْ الْمَرْوَزِيِّ وَمَعْنَاهُ يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ وَقِيلَ يَرْجِعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «لَيَعُودَنَّ كُلُّ إيمَانٍ إلَى الْمَدِينَةِ» اهـ مِنْهَا بِلَفْظِهَا، وَفِي الصِّحَاحِ مَا نَصُّهُ وَأَرَزَ فُلَانٌ يَأْرِزُ أَرْزًا وَأُرُوزًا إذَا تَضَامَّ وَتَقَبَّضَ مِنْ بُخْلِهِ فَهُوَ أَرُوزٌ.
ثُمَّ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أَيْ يَنْضَمُّ إلَيْهَا فَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِيهَا اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ اهـ.
قُلْت: وَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ مِنْ التَّعْضِيدِ مَدْفُوعٌ بِمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَتَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُفْتَحُ الشَّامُ إلَخْ وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ إلَخْ» قَالَ الْبَاجِيَّ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ إلَخْ لَهُمْ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا أَعْظَمُ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَنَالُونَهُ مِنْ الْخِصْبِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ حَيْثُ يَنْتَقِلُونَ إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ اهـ.
وَمَا فِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا.
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم فَمَنْ سِوَاهُ وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَاهُمَا وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَغْفِرَةِ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ دُونَ الْأُخْرَى لَعُلِمَ أَنَّهَا عِنْدَهُ أَفْضَلُ.
وَرَابِعُهَا أَنَّ التَّعْظِيمَ وَالِاسْتِلَامَ نَوْعٌ مِنْ الِاحْتِرَامِ وَهُمَا خَاصَّانِ بِالْكَعْبَةِ
وَخَامِسُهَا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِهَا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهَا
وَسَادِسُهَا تَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهَا وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا
وَسَابِعُهَا تَحْرِيمُهَا يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ تُحَرَّمْ الْمَدِينَةُ إلَّا فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ دَلِيلُ فَضْلِهَا
وَثَامِنُهَا كَوْنُهَا مَثْوَى إبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
وَتَاسِعُهَا كَوْنُهَا مَوْلِدَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم
وَعَاشِرُهَا كَوْنُهَا لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِحْرَامٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهَا
وَحَادِيَ عَشَرَهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]
وَثَانِيَ عَشَرَهَا الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِهَا دُونَ الْمَدِينَةِ
وَثَالِثَ عَشَرَهَا ثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ قِسْمَانِ: تَفْضِيلٌ دُنْيَوِيٌّ كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ، وَدِينِيٌّ كَتَفْضِيلِ رَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ وَعَاشُورَاءَ عَلَى الْأَيَّامِ وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ الْبِيضِ وَعَشْرُ الْمُحَرَّمِ وَالْخَمِيسُ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ مِنْ الْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ نَحْوِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَرَفَةَ وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَمَرْمَى الْجِمَارِ، وَمِنْ الْأَقَالِيمِ الْيَمَنُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» وَالْمَغْرِبُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» وَمِنْ الْأَزْمِنَةِ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَمَغْفِرَةِ الزَّلَّاتِ، وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْآمَالِ، وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهَا خَشْيَةَ الْإِسْهَابِ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي عَلَى الْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْبِقَاعِ فَقَالَ الثَّوَابُ هُوَ سَبَبُ التَّفْضِيلِ وَالْعَمَلُ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ فَلَا ثَوَابَ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا فَأَرَدْت أَنْ أُبَيِّنَ تَعَدُّدَ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ فَبَطَلَ مَا قَالَهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْقَاضِي وَبَلَغَنِي أَيْضًا عَنْ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ قَالَ أَسْبَابُ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا كَمَلَتْ فِي عَلِيٍّ رضي الله عنه فَهُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَخَذَ يَرُدُّ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَأَرَدْت أَيْضًا أَنْ أُبْطِلَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْحَصْرِ، وَمَسَائِلُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَهِيَ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الدِّينِ وَهَذَا الْكِتَابُ إنَّمَا قَصَدْت فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ خَاصَّةً فَلِذَلِكَ اقْتَصَرْت عَلَى تَفْضِيلِ الصَّلَاةِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَأَحَلْتُ مَا عَدَاهَا عَلَى مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ الْتَفَتَ إلَيْهَا فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ يَا مُزَاحِمُ نَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّا نَفَتْ الْمَدِينَةُ قَالَ الْبَاجِيَّ يُرِيدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا تَنْفِي خَبَثَهَا فَخَافَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ نَفَتْهُ الْمَدِينَةُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَبَثِ لِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ، أَوْ ضَلَالٍ عَنْ هُدًى وَمِثْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ اهـ فَافْهَمْ.
(الْمُهِمُّ الرَّابِعُ) مَسَائِلُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً إلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى التَّفْضِيلِ بِالطَّاعَاتِ وَكَثْرَةِ الْمَثُوبَاتِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّاتِ وَشَرَفِ الرِّسَالَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّاتِ فَمَنْ كَانَ فِيهَا أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ: وَتَلْخِيصُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّاظِمُ أَوَّلًا وَآخِرًا أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْعُمُومِ وَيَلِيهِ إبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ نُوحٌ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الرُّسُلِ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ، ثُمَّ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ أَرْأَسُ رُسُلِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ مِنْهُمْ ثُمَّ بَقِيَّةُ رُسُلِهِمْ، ثُمَّ بَقِيَّتُهُمْ غَيْرُ الرُّسُلِ، ثُمَّ هُمْ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ النَّظْمِ أَنَّ التَّفْضِيلَ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ فَأَبُو بَكْرٍ هُوَ الْأَفْضَلُ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْأَصْنَافِ فَأَفْضَلُهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْبَدْرِيِّينَ، ثُمَّ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ أُحُدٍ، ثُمَّ بَقِيَّةُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ فِي كَلَامِ الشَّمْسِ الْبِرْمَاوِيِّ اهـ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَإِنْ كَانَتْ أَشْبَهَ بِأُصُولِ الدِّينِ إلَّا أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْفِقْهِ بِوَجْهٍ مَا، سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مَا أُخِذَ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ السُّنَّةِ، أَوْ الْإِجْمَاعِ وَلَا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِدَادِ لَا الِاسْتِقْلَالِ كَأَغْلَبِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا الْعَقْلُ وَهَذَا الْكِتَابُ الْمَقْصُودُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ خَاصَّةً وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.