الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُحَرَّمِ مِنْ غَيْرِهِ بِتَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقِسْ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَابَيْنِ.
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَا يُعَذَّبُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّت يُعَذَّبُ بِهِ الْمَيِّتُ)
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَاحِ فَأَشْكَلَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ تُعَارِضُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَحَصَل الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِالنِّيَاحَةِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ:
إذَا مِتَّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
…
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
وَثَانِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي نَوَائِحِهِمْ مَفَاخِرَ هِيَ مَخَازٍ عِنْدَ الشَّرْعِ كَالْغَصْبِ وَالْفُسُوقِ فَيُعَذَّبُ بِهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِمَدْلُولِ مَا يَقَعُ فِي الْبُكَاءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْبُكَاءِ وَبَيْن تِلْكَ الْأُمُورِ مُلَازَمَةٌ قَدْ حَصَلَتْ فِي الْوَاقِعِ عَبَّرَ بِالْبُكَاءِ عَنْهُ مَجَازًا، وَالْعِلَاقَةُ هِيَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُلَازِمُ مَدْلُولَهُ، وَالْبُكَاءَ يُلَازِمُ هَذَا اللَّفْظَ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ هِيَ الْعِلَاقَةُ.
وَثَالِثُهَا مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأ إنَّمَا «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ عليه السلام إنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ تَكُونُ أَجْوِبَةً عَنْ الْحَدِيثِ، وَلَا تُوجِبُ فَرْقًا بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَرُدُّ الْبُكَاءَ إلَى فِعْلِ الْمَيِّتِ بِالْوَصِيَّةِ كَمَا قَالَهُ أَوَّلًا أَوْ بِالْمُبَاشَرَةِ كَمَا قَالَهُ ثَانِيًا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إنَّمَا عُذِّبَتْ فِي قَبْرِهَا بِكُفْرِهَا لَا بِبُكَاءِ أَهْلِهَا.
وَالْفَرْقُ فِي التَّحْقِيقِ إنْ مَشَيْنَا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَاتَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَالْفَرْضُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ، وَاَلَّذِي جَعَلَ عَدَمَهُ مَانِعًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ إلَّا شَرْطًا لِلسَّبَبِ بِأَنْ يُخِلَّ عَدَمُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، وَعَدَمُ حِكْمَةِ السَّبَبِ عَدَمٌ لَهُ، وَالْفَرْضُ تَحَقُّقُهُ وَأَنَّ هُنَاكَ حِكْمَةٌ تُخِلُّ بِحِكْمَتِهِ، وَبِهَذَا عُلِمَ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ مَانِعِ السَّبَبِ وَعَدَمِ شَرْطِ السَّبَبِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ مَانِعِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ شَرْطِ الْحُكْمِ، وَتَحَصَّلَ أَنَّ لَنَا سَبَبًا وَمَانِعًا لِلْحُكْمِ وَمَانِعًا لِلسَّبَبِ وَشَرْطًا لِلْحُكْمِ وَشَرْطًا لِلسَّبَبِ وَعَدَمَ شَرْطٍ لِلْحُكْمِ وَعَدَمَ شَرْطٍ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ مَانِعَ الْحُكْمِ مَا أَخَلَّ بِالْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ فَيَكُونُ عَدَمُهُ كَعَدَمِ الْحَيْضِ شَرْطًا لِتَأْثِيرِ السَّبَبِ فِي الْحُكْمِ إمَّا بِمُجَرَّدِ التَّرَتُّبِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الزَّوَالِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ كَمَا فِي الزِّنَا لِوُجُوبِ الْجَلْدِ وَالْإِسْكَارِ لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ لَا شَرْطًا لِوُجُودِ الْحُكْمِ حَتَّى يُنَافِي كَوْنَ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ، وَمَانِعُ السَّبَبِ مَا اسْتَلْزَمَ حِكْمَةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ مَعَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَإِنَّهُ لَا يُقَالُ مَانِعٌ إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ أَوْ السَّبَبِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا لِمَا عَرَفْت، وَشَرْطُ الْحُكْمِ مَا يَقْتَضِي عَدَمُهُ نَقِيضَ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ مَا أَخَلَّ عَدَمُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ فَيَنْتَفِي السَّبَبُ بِعَدَمِ حِكْمَتِهِ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةِ إمْعَانٍ اهـ بِتَوْضِيحٍ مِنْ الشِّرْبِينِيِّ وَالْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّيْ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ جُعِلَتْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي أَدَاءِ الْجُمُعَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمَانِ لَمْ تُجْعَلْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ]
الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ جُعِلَتْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي أَدَاءِ الْجُمُعَاتِ وَقَصْرِ الصَّلَوَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمَانِ لَمْ تُجْعَلْ الْمَظَانُّ مِنْهَا مُعْتَبَرَةً فِي رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ وَلَا دُخُولِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ وَتَرْتِيبِ أَحْكَامِهَا) ، وَذَلِكَ أَنَّ شُهُورَ الْعِبَادَاتِ كَرَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَنَحْوِهَا لَمَّا وُجِدَ الْقَطْعُ بِحُصُولِهَا وَحُصُولِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا شَرْعًا مِنْ جِهَةِ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِهَا وَكَمَالِ الْعِدَّةِ كَانَتْ وَصْفًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا دَائِمًا، أَوْ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي تَعْرِيفِهِ لِلْحُكْمِ إلَى اعْتِبَارِ مَظِنَّتِهِ مَعَهُ كَظَنِّنَا أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِسَبَبِ قَرَائِنَ تَقَدَّمَتْ إمَّا مِنْ جِهَةِ تَوَالِي تَمَامِ الشَّهْرِ فَنَظُنُّ نَقْصَ هَذَا الشَّهْرِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ تَوَالِي النَّقْصِ فَنَظُنُّ تَمَامَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ طُلُوعِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَنَظُنُّ تَمَامَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ فِي الطُّلُوعِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَنَظُنُّ نُقْصَانَ هَذَا الشَّهْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ مَظِنَّةُ رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، إذْ مَعَ تَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْوَصْفِ الْمَطْلُوبِ إمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِكَمَالِ الْعِدَّةِ لَا نَعْتَبِرُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَظَانِّ، وَكَذَلِكَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً فِي نَفْسِهَا لِحُصُولِ الْقَطْعِ بِهَا فِي أَكْثَرِ صُوَرِهَا لَمْ تَقُمْ مَظَانُّهَا فِي الصُّوَرِ مَقَامَهَا.
وَأَمَّا سَمَاعُ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ الْمُوجِبَةِ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» وَمَشَقَّةُ السَّفَرِ الْمُوجِبَةُ لِتَرْخِيصِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصْفًا غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُنِيطَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهِ فَاعْتُبِرَتْ فِي الْجُمُعَاتِ الْبِقَاعُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فِي الْإِتْيَانِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَافَةِ يَظُنُّ سَمَاعَ أَذَانِهَا إذَا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ، وَاعْتُبِرَتْ فِي تَرْخِيصِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ الْبِقَاعُ الَّتِي عَلَى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرْخِيصِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّمَاعُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ جُعِلَتْ مَظِنَّتُهُ مِنْ الْبِقَاعِ مَقَامَهُ وَالْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا جُعِلَتْ مَظِنَّتُهَا مِنْ الْبِقَاعِ مَقَامَهَا، وَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً لَمْ تُجْعَلْ مَظَانُّهَا
لَهَا وَلَدٌ فَرَحَلَتْ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِهَا إلَى الْمَغْرِبِ فَحَضَرَ يَوْمُ الْعِيدِ وَعَادَتُهَا فِيهِ فِي بَلَدِهَا تَخْرُجُ إلَى الْمَقَابِر فَتَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي بَلَدِهَا خَطَرَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَقَابِرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِهَا فَتَفْعَلُ فِيهَا مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي بَلَدِهَا فَخَرَجَتْ إلَيْهَا، وَفَعَلَتْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَتْ الْبُكَاءَ وَالْعَوِيلَ وَالتَّفْجِيعَ عَلَى وَلَدِهَا، ثُمَّ نَامَتْ فَرَأَتْ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ هَاجُوا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هَلْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَلَدٌ؟ فَقَالُوا لَا فَقَالَ السَّائِلُ مِنْهُمْ لِلْمَسْئُولِ فَكَيْفَ جَاءَتْ عِنْدَنَا تُؤْذِينَا بِبُكَائِهَا وَعَوِيلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدَنَا وَلَدٌ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلَيْهَا فَضَرَبُوهَا ضَرْبًا وَجِيعًا فَاسْتَيْقَظَتْ فَوَجَدَتْ أَلَمًا عَظِيمًا مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَتَأَلَّمُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ وَتَفْرَحُ بِاللَّذَّاتِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ تُعَذَّبُ الْكُفَّارُ فِي قُبُورِهَا كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ الْيَهُودَ لَتُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا» فَالْأَوْضَاعُ الْبَشَرِيَّةُ فِي الْأَرْوَاحِ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْكَنٍ فَارَقَتْهُ وَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي أَوْضَاعِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْبُكَاءُ وَالْعَوِيلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَتَأَذَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ وَتَنْقَبِضُ كَانَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَأَذَّى بِهِ كَذَلِكَ كَانَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى غَيْرِهَا، وَهُوَ عَلَيْهَا أَشَدُّ نِكَايَة؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَابَةُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ، وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ وَفَقْرٍ وَاسْتِغْنَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ لِأَهْلِيهِمْ، وَيَتَأَلَّمُونَ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُسَرُّونَ بِاللَّذَّاتِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالزِّيَارَاتِ، وَيَتَأَلَّمُونَ بِانْقِطَاعِهَا.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانُوا يَتَأَلَّمُونَ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِيهِمْ وَغَيْرِ أَهْلِيهِمْ، وَالْأَلَمُ عَذَابٌ فَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ» ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَذَّبُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ أَيْ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الذُّنُوبِ وَالْبُكَاءُ عَذَابٌ لَيْسَ عَذَابَ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الذُّنُوبِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَلْ مَعْنَاهُ الْأَلَمُ الْجِبِلِّيُّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَقَامَهَا، فَالْبِقَاعُ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا سَبَبٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَالْأَوْقَاتُ اُعْتُبِرَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا سَبَبٌ مُنْضَبِطٌ فَلَمْ تُعْتَبَرْ مَظَانُّهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْبِقَاعِ وَالْأَزْمَانِ (وَصْلٌ) مَبْنَى هَذَا الْفَرْقِ وَسِرُّهُ قَاعِدَةُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَرِّفَ لِلْحُكْمِ إنْ كَانَ وَصْفًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَالسُّكْرِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْقُوتِ فِي الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا خَفِيًّا أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ، أَمَّا الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَكَالرِّضَا فِي انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» فَإِنَّ الرِّضَا لَمَّا كَانَ أَمْرًا خَفِيًّا جُعِلَتْ الصِّيَغُ وَالْأَفْعَالُ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ قَائِمَةً مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ يُظَنُّ عِنْدَهَا وَأُلْغِيَ الرِّضَا إذَا انْفَرَدَ عَنْهَا حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنْضَبِطِ لِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِ فِي رُتَبِهِ فَكَمَشَقَّةِ السَّفَرِ فِي تَرْخِيصِ الْقَصْرِ وَالْإِفْطَارِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِذَلِكَ التَّرْخِيصِ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةِ الْمَقَادِيرِ إذْ لَيْسَ مَشَاقُّ النَّاسِ سَوَاءً فِي ذَلِكَ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ تُظَنُّ عِنْدَهَا وَكَالْإِنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ وَحُصُولِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فِي النَّاسِ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُنْزِلُ إلَّا بِالدَّفْقِ وَالْإِحْسَاسِ بِاللَّذَّةِ الْكُبْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ تَقْطِيرًا عَلَى سَبِيلِ السَّيَلَانِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاقٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ يَنْدَفِقُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ الْوَلَدُ مَعَ الْعَزْلِ، وَالْإِنْسَانُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ وَهِيَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْزِلُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ بِالْفِكْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْزِلُ بِالنَّظَرِ فَقَطْ، وَكَانَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ جُعِلَ مَظِنَّةً وَكَالْعَقْلِ فِي التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِ فِي الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ جِدًّا بِحَسَبِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَانْحِرَافِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ لِاعْتِدَالِ مِزَاجِهِ أَعْقَلُ مِنْ رَجُلٍ بَالِغٍ لِانْحِرَافِ مِزَاجِهِ جُعِلَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ وَهُوَ مُنْضَبِطٌ، إذَا أَقَامَ الشَّرْعُ مَظِنَّةَ الْوَصْفِ مَقَامَهُ أُعْرِضَ عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ نَعَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا مَعَ الْمَظِنَّةِ فَلَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْمَظِنَّةِ.
فَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَظِنَّةِ حُكْمٌ كَمَا لَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الرِّضَا مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَى صُدُورِ الصِّيغَةِ أَوْ الْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلُ قَدْ خُولِفَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّا لَوْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الْإِنْزَالِ وَجَبَ الْغُسْلُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِي فَأُقِيمَ الشُّرْبُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ مَقَامَهُ، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَقْطَعُ أَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ حَتَّى إنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ كَيْفَ تُقَامُ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْقَذْفِ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِعَدَمِ الْقَذْفِ فِي بَعْضِ النَّاسِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَثَرِ بِمَا شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ مَعَ أَنَّا قَدْ نَقْطَعُ فِيهِ بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمَظِنَّةِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً مُعْتَبَرَةً فِي الْحُكْمِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ خَفِيًّا أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ، وَحِينَئِذٍ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ مِنْهَا الْبَيْعَ فَإِنَّ حَاجَةَ الْمُكَلَّفِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ
الَّذِي إذَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَلَمِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ «صلى الله عليه وسلم نَحْنُ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّ بَلَاءً ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَذَابًا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بَلْ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى الْقَرْنِ الْمَاضِي أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَايَا كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ، وَالْعَذَابُ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَلَا يُفْرَحُ بِهِ فَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ، وَيَبْقَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي وَمَا سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ كَانَ أَسْعَدَهَا وَأَوْلَاهَا وَهَذَا كَذَلِكَ، فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ.
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ وَالْآلَاتِ وَكُلِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَهِلَّةُ فِي الرَّمَضَانَاتِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ) وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحِسَابِ فَإِذَا دَلَّ حِسَابُ تَسْيِيرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خُرُوجِ الْهِلَالِ مِنْ الشُّعَاعِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْحِسَابَ فَأَثْبَتَ الْهِلَالَ بِهِ لَمْ يُتَّبَعْ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ مَعَ أَنَّ حِسَابَ الْأَهِلَّةِ وَالْكُسُوفَاتِ وَالْخُسُوفَاتِ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ طُولَ الدَّهْرِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وَقَالَ تَعَالَى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أَيْ هُمَا ذَوَا حِسَابٍ فَلَا يَنْخَرِم ذَلِكَ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ لَا يَنْخَرِمُ حِسَابُهَا، وَالْعَوَائِدُ إذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتْ الْقَطْعَ كَمَا إذَا رَأَيْنَا شَيْخًا نَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُولَدْ كَذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالْحِكْمَةُ الْمُوجِبَةُ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَمَظِنَّةُ الرِّضَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْحَاجَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهَا الْمُوجِبَةَ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا وَاعْتِبَارُ الرِّضَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا وَاعْتِبَارُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ اعْتِبَارِ الرِّضَا وَفَرْعُهُ وَمِنْهَا السَّفَرُ فَإِنَّ رَاحَةَ الْمُكَلَّفِ وَصَلَاحَ جِسْمِهِ مَصْلَحَةٌ وَحِكْمَةٌ تُوجِبُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ إذَا عَرَضَتْ أَوْجَبَتْ تَخْفِيفَ الْعِبَادَةِ عَنْهُ لِئَلَّا تَعْظُمَ الْمَشَقَّةُ فَتَضِيعَ مَصَالِحُهُ بِإِضْعَافِ جِسْمِهِ وَإِهْلَاكِ قُوَّتِهِ.
وَمَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ أَرْبَعَةُ الْبُرُدِ فَحِفْظُ صِحَّةِ الْجِسْمِ وَتَوْفِيرُ قُوَّتِهِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَشَقَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُهُ وَالْأَثَرُ فَرْعُ الْمُؤَثِّرِ، وَأَرْبَعَةُ الْبُرُدِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فَرْعُ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ تَتَحَقَّقُ الْحِكْمَةُ وَالْوَصْفُ مِنْ غَيْرِ مَظِنَّةٍ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا أَنَّ الرَّضَاعَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ جُزْءُ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ اللَّبَنُ جُزْءَ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ نَظِيرَ إيجَابِ صَيْرُورَةِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ وَطَمْثِهَا جُزْءَ الصَّبِيِّ لِلتَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ.
فَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «الرَّضَاعُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَالْجُزْئِيَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَوَصْفُ الرَّضَاعِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الزِّنَا وَصْفٌ كَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ وَاخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ حِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فَالِاخْتِلَاطُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى، وَوَصْفُ الزِّنَا الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ، وَمِنْهَا أَنَّ السَّرِقَةَ وَصْفٌ كَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقَطْعِ وَضَيَاعُ الْمَالِ حِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فَضَيَاعُ الْمَالِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى، وَوَصْفُ السَّرِقَةِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ فَوَصْفُ كُلٍّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا لَمْ يَحْتَجْ لِقِيَامِ مَظِنَّتِهِ مَقَامَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ تِلْكَ الْحِكْمَةُ، وَإِلَّا لَحُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صَبِيٍّ أَكَلَ مِنْهَا قِطْعَةَ لَحْمٍ لِتَحَقُّقِ صَيْرُورَةِ جُزْئِهَا جُزْءًا مِنْهُ، وَلَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ صِغَارًا.
وَيَأْتِي بِهِمْ كِبَارًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَوْجَبَ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ، وَلَوَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ ضَيَّعَ الْمَالَ بِالْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحَدٌ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ فَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ بِالتَّعْلِيلِ بِهَا، وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ فَافْهَمْ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْحِكْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُقِيمُ حَدَّ الزِّنَا وَحَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ مِنْ الزِّنَا بِأَنْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ وَيَظْهَرَ عَدَمُ حَمْلِهَا أَوْ جَزَمْنَا بِعَدَمِ ضَيَاعِ الْمَالِ بِسَبَبِ أَخْذِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، وَالْغَالِبُ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَظِنَّةِ إذَا قَطَعْنَا فِيهَا بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَحْوَ الْكُفْرِ وَالْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْأَمْلَاكِ أَوْ الْمُوجِبَةِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ الْمَظَانِّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا بِالْإِكْرَاهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْإِكْرَاهِ فَلْيُتَفَطَّنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَإِنَّهَا وَإِنْ ذُكِرَتْ هُنَا لِبِنَاءِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهَا سِرَّهُ إلَّا أَنَّهَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ رحمهم الله كَثِيرًا فِي مَوَارِدِ الْفِقْهِ وَالتَّرْجِيحِ وَالتَّعْلِيلِ