الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 - بَابُ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالى عَالِمًا بِهِ غَيرَ شَاكٍّ فِيهِ .. دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَوَّلًا: إِنْ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الكَبَائِرِ، أَوْ عَمِلَهَا وَتَابَ عَنْهَا، أَوْ أَدْرَكَهُ الْعَفْوُ، أَوْ بَعْدَ عُقُوبَتِهِ عَلَيهَا إِنْ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْعَفْوُ مِنَ اللهِ تَعَالى وَحَرَّمَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى النَّارِ
ــ
11 -
بَابُ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالى عَالِمًا بِهِ غَيرَ شَاكٍّ فِيهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَوَّلًا: إِنْ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الكَبَائِرِ، أَوْ عَمِلَهَا وَتَابَ عَنْهَا، أَوْ أَدْرَكَهُ الْعَفْوُ، أَوْ بَعْدَ عُقُوبَتِهِ عَلَيهَا إِنْ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْعَفْوُ مِنَ اللهِ تَعَالى وَحَرَّمَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى النَّارِ
أي باب معقود في بيان أنه (من لقي الله تعالى) ومات حالة كونه (عالمًا) وموقنًا بوجوده بصفاته الكمالية (غير شاك فيه) أي في وجوده تعالى (دخل الجنة) جواب من الشرطية (أولًا) أي بلا سبق دخول نار (إن كان بريئًا من) الذنوب (الكبائر) الموبقات وغيرها (أو عملها) أي عمل الكبائر (و) لكن (تاب عنها) توبة نصوحًا (أو) لم يتب عنها ولكن (أدركه العفو) والغفران من الله تعالى بمحض فضله وكرمه (أو) دخل الجنة (بعد عقوبته) ومجازاته (عليها إن لم يتب عنها) أي عن تلك الكبائر (ولم يدركه العفو) والغفران (من الله تعالى).
وحقيقة العلم هي وضوح أمر ما وانكشافه على غايته بحيث لا يبقى له بعد ذلك غاية في الوضوح، ولا شك في أن من كانت معرفته بالله تعالى ورسوله كذلك كان في أعلى درجات الجنة، وهذه الحالة هي حالة النبيين والصديقين ولا يلزم فيمن لم يكن كذلك ألا يدخل الجنة فإن من اعتقد الحق وصدق به تصديقًا جازمًا لا شك فيه ولاريب دخل الجنة كما قدمناه وكما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة:"من لقي الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله غير شاك فيهما دخل الجنة" وكما قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" رواه أبو داود (3116) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه فحاصل هذين الحديثين أن من لقي الله تعالى وهو موصوف بالحالة الأولى والثانية دخل الجنة، غير أن هناك فرقًا بين الدرجتين كما بين الحالتين كما صرحت به الآيات الواضحات كقوله تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] اهـ قرطبي. وترجم النواوي لهذا الحديث بقوله: (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا).
44 -
س (26) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ كِلاهُمَا عَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَال أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ
ــ
وكذلك ترجم له السنوسي وكذلك في أكثر نسخ المتون، وترجم له الأبي بقوله:(باب أحاديث من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).
وفي بعض نسخ المتون (باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه دخل الجنة وحُرِّم على النار).
وترجم له القرطبي بقوله: (باب من لقي الله تعالى عالمًا به دخل الجنة) وهذه قريبة إلى ترجمتنا السابقة والاختلاف بينهما، اختلاف لفظي مآلها واحد، ولكن ترجمتنا أوضح منها لما اشتملت عليه من القيود التي لا بد من اعتبارها المأخوذة من الأحاديث منطوقًا ومفهومًا والله أعلم.
(44)
- س (36)(حدثنا أبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي الحافظ الكوفي ثقة من العاشرة مات سنة (235) خمس وثلاثين ومائتين، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ستة عشر بابًا تقريبًا (وزهير بن حرب) بن شداد الحرشي مولاهم أبو خيثمة النسائي، ثقة من العاشرة، مات سنة (234) أربع وثلاثين ومائتين، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في سبعة عشر بابا تقريبًا، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه لأن المتقارنين كلاهما ثقتان كلاهما) أي كل من أبي بكر وزهير بن حرب رويا (عن إسماعيل بن إبراهيم) بن سهم بن مقسم الأسدي مولاهم أبي بشر البصري المعروف بابن علية، وهي أمه مولاة لبني أسد بن خزيمة أيضًا، وكان يكره أن يقال له ابن علية، ثقة من الثامنة مات سنة (193) ثلاث وتسعين ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في خمسة عشر بابًا تقريبًا وجملة قوله (قال أبو بكر حدثنا ابن علية) أتى بها تورعًا من الكذب على أحد شيخيه، لأنه لو اقتصر على قوله عن إسماعيل بن إبراهيم لكان كاذبًا على شيخه أبي بكر، ولو اقتصر على قوله حدثنا ابن علية لكان كاذبًا على شيخه زهير، فبين صيغة كل من الشيخين تورعًا من الكذب على أحدهما، قال النواوي: وهذا من احتياط مسلم رحمه الله تعالى، فإن أحد الراويين قال: ابن علية، والآخر قال: إسماعيل بن إبراهيم فبينهما ولم يقتصر على أحدهما انتهى.
عَنْ خَالِدٍ، قَال: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ حُمْرَانَ،
ــ
(عن خالد) بن مهران بكسر الميم المجاشعي مولاهم أبي المُنَازل بضم الميم وكسر الزاي البصري الحذاء بفتح المهملة وتشديد الذال المعجمة، قال النواوي: لم يكن خالدٌ حذاء قط، أي ما حذا نعلًا قط ولا باعها؛ ولكنه تزوج امرأة من الحذائين فنزل عليها بينهم فنسب إليهم هذا هو المشهور، وقال فهد بن حيان: بالفاء إنما كان يقول احذوا على هذا النحو فلُقب بالحذاء، وخالد يُعدُّ في التابعين انتهى بتصرف.
روى عن الوليد بن مسلم أبي بشر وأبي عثمان النهدي وأبي قلابة وأبي معشر وأبي المنهال ومحمد وأنس وحفصة بني سيرين وغيرهم، ويروي عنه (ع) وابن علية وابن سيرين شيخه وشعبة والحمادان وعبد الوهاب الثقفي ووهيب وخلق، وقال في التقريب: ثقة يرسل، من الخامسة، مات سنة (142) اثنتين وأربعين ومائة، مات في أولها.
روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الوضوء في موضعين وفي الصلاة في أربعة مواضع وفي الجنائز في موضعين والزكاة والصوم في موضعين والحج والبيوع والأحكام والجهاد وفي سن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الفتن في موضعين وفي القدر وفي آخر الكتاب، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها أربعة عشر بابًا تقريبًا.
(قال) خالد الحذاء (حدثني الوليد بن مسلم) بن شهاب التميمي العنبري أبو بشر البصري روى عن حُمران بن أبان وأبي المتوكل الناجي وأبي الصديق الناجي وغيرهم، ويروي عنه (م د س) وخالد الحذاء ومنصور بن زاذان وسعيد بن أبي عروبة ويونس بن عبيد وجماعة، وثقه أبو حاتم وابن معين، وقال في التقريب: ثقة من الخامسة، روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الصلاة في بابين فقط.
قال النواوي: وربما اشتبه على بعض من لا يعرف الأسماء بالوليد بن مسلم الأموي مولاهم الدمشقي أبي العباس صاحب الأوزاعي ولا يشتبه ذلك على العلماء به فإنهما مفترقان في النسبة إلى القبيلة والبلدة والكنية كما ذكرنا؛ وفي الطبقة فإن الأول أقدم طبقة وهو في طبقة كبار شيوخ الثاني، ويفترقان أيضًا في الشهرة والعلم والجلالة فإن الثاني متميز بذلك كله قال العلماء انتهى علم الشام إليه وإلى إسماعيل بن عياش، وكان أجل من ابن عياش بن مسلم العنسي أبي عتبة الحمصي ثقة فيما رواه من الشاميين ضعيف في غيرهم روى عنه (عم) رحمهم الله تعالى أجمعين والله أعلم. اهـ نواوي.
(عن حُمران) بضم أوله وسكون ثانيه بن أبان ويقال: ابن أبي مولى عثمان بن
عَنْ عُثْمَانَ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ: أَنهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ .. دَخَلَ الْجنَّةَ"
ــ
عفان اشتراه في زمن أبي بكر الصديق كان من سبي عين التمر القرشي الأموي مولاهم أبي يزيد المدني، روى عن مولاه عثمان بن عفان ومعاوية، ويروي عنه (ع) والوليد بن مسلم أبو بشر وعطاء بن يزيد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم وغيرهم، وقال في التقريب: ثقة من الثانية، مات سنة (75) خمس وسبعين، وقيل غير ذلك، وليس في مسلم حُمران إلا هذا، روى عنه المؤلف في بابين فقط الإيمان والوضوء (عن عثمان) بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي الأموي أبي عمرو المدني ذي النورين؛ مجهز جيش العسرة؛ وأحد العشرة؛ وأحد الستة، هاجر الهجرتين له مائة وستة وأربعون حديثًا (146) يروي عنه (ع) وأبناؤه أبان وسعيد وعمرو وأنس، ومروان بن الحكم وخلق، قال ابن عمر: كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يُحيي الليل كله بركعة، قال عمرو بن علي: قتل يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (35) وله اثنتان وثمانون سنة (82) قال عبد الله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يُغلق إلى يوم القيامة رضي الله عنه وأرضاه، روى عنه حمران وعمرو بن سعيد بن العاص وأبو أنس الأصبحي مالك وزيد بن خالد الجهني وعبد الله بن شقيق وأبان بن عثمان وسعيد بن العاص وسعيد بن المسيب وغيرهم ممن سبق آنفًا.
روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الوضوء في ثلاثة مواضع وفي الصلاة وفي الحج في موضعين وفي القدر روى عنه في خمسة أبواب تقريبًا، وهذا السند من سداسياته ثلاثة منهم بصريون واثنان مدنيان وواحد كوفي، ومن لطائفه أن فيه رواية مولى عن مولى.
(قال) عثمان رضي الله تعالى عنه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وهو) أي والحال أنه (يعلم) ويوقن (أنه لا إله) أي لا معبود بحق في الوجود (إلا الله) سبحانه وتعالى (دخل الجنة) أولًا إن كان بريئًا من الكبائر أو تاب عنها أو ستره الله عليها، وإلا فبعد المجازاة عليها.
قوله (وهو يعلم) قال المازري: فيه الرد على من يقول من المرجئة إن النطق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بالشهادتين دون اعتقادٍ كاف، وقال القاضي عياض: ويحتج به من يرى أن التصديق بالقلب دون النطق كافٍ، ولا يكفي عند أهل السنة إلا لمن بلسانه آفة، أو اخترمته المنية ولا حجة له فيه؛ لأنه قد فسره قوله في الحديث الآخر (من قال لا إله إلا الله) فلا بد من الجمع بين الاعتقاد والنطق عند أهل السنة.
وحديث عثمان هذا انفرد به مسلم عن أصحاب الأمهات ولكن شاركه أحمد ورواه في (1/ 65 و 69) قال القاضي عياض: جاءت في هذا الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة، للسلف فيها خبط كثير، ففي هذا (من مات وهو يعلم) وفي حديث معاذ (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وعنه في آخر (من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة) وفي آخر (من لقيه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه حرمه الله تعالى على النار) وهو بمعنى حديث عبادة بن الصامت وحديث عتبان، وفي حديث أبي هريرة (لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاكٍّ إلا دخل الجنة) وفي آخر عنه (لا يحجب عن الجنة) وفي حديث أبي ذر وأبي الدرداء (ما من عبد قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) قال المازري: ولما دلت الظواهر على نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة واقتضت هذه الأحاديث أمنهم تعين فيها التأويل صونًا لظاهر الشرع من التناقض، فأولها ابن المسيب بأن ذلك كان قبل نزول الفرائض، وأما بعد نزولها فالعاصي في المشيئة، وأولها الحسن بحملها على من مات ولم يعصِ، وحملها البخاري على من مات وهو تائب.
قال النواوي: ويبعد فيها تأويل ابن المسيب لأن أبا هريرة أحد رواتها وهو متأخر الإسلام أسلم عام خيبر وكانت الفرائض فُرضت، وأولها ابن الصلاح بأن إسقاط ما زاد على الشهادتين يجوز أن يكون من الرواة لا من النبي صلى الله عليه وسلم، قال الأبي (قلت): الأحاديث تدور على سبعة من أجلة الصحابة وعشرة من التابعين؛ فيبعد أن يسقطها الجميع، ثم لعل أبا هريرة تحمله قبل إسلامه، قال القاضي عياض: لا يمتنع حمل الأحاديث على ظاهرها وتستغني عن التأويل، فإن العاصي عندنا في المشيئة يجوز أن يُغفر له بدءًا فيلتحق بمن لم يعصِ فلا يدخل النار إلا دخول ورود، ويجوز أن ينفذ فيه الوعيد فيدخلها ثم لا بد له من دخول الجنة فأحاديث دخول الجنة وعد على ظاهره، إذ لا بد له من دخول الجنة بدءًا أو بعد الجزاء، وأحاديث حرَّم الله عليه النار يعني حرَّم
45 -
(00) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ،
ــ
الخلود فيها، وحديث من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة هو على ظاهره من أنه يدخلها بدءًا إما لأنه ختم كلامه بذلك كفَّر عنه أو كثَّر أجره حتى رجحت حسناته، وكذلك حديث يدخل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء لأن ما أضاف إلى الشهادتين من أمر عمن كفَّر أيضًا أو كَثَّر حسناتِه، قال النواوي والأصح في دخول الورود أنه الجواز على الصراط.
قال المازري: مذهبنا في العاصي بالكبائر أنه تحت المشيئة كما تقدم، وقالت المرجئة: لا تضره مع الإيمان معصية، وكفرته الخوارج، وقالت المعتزلة: فاسق ليس بمؤمن ولا كافر مخلد في النار، وأحاديث الباب ترد على الخوارج والمعتزلة، وهي ظاهرة في مذهب المرجئة.
قال الأبي: جواز المغفرة بدءًا يوجب أن لا يدخل أحدٌ من الأمة النار فتُخالف ما تقدم من أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة، ويجاب بأن الغرض من هذا الأصل مخالفة المعتزلة في قولهم: يجوز العفو ثم لا يلزم من الجواز الوقوع حتى يوجب ما ذكرتم، أو يقال إن ذلك مخصوص بالطائفة التي ينفذ فيها الوعيد اهـ من الأبي.
ثم ذكر المؤلف المتابعة في حديث عثمان رضي الله تعالى عنه فقال:
(45)
- متا (00)(حدثنا محمد بن أبي بكر) بن علي العطار بن مُقدَّم (المقدمي) بضم الميم وفتح الدال المشددة، نسبة إلى جده مُقدَّم المذكور أبو عبد الله الثقفي مولاهم البصري، روى عن بشر بن المفضل ووهب بن جرير وأبي عوانة ويحيى بن سعيد القطان والمعتمر بن سليمان وعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن زيد وأبي داود الطيالسي وغيرهم، ويروي عنه (خ م س) وأبو يعلى والحسن بن سفيان وأبو زرعة ووثقه، وقال في التقريب: ثقة من العاشرة مات سنة (234) أربع وثلاثين ومائتين.
روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الصلاة في ثلاثة مواضع وفي الزكاة في ثلاثة مواضع وفي الحدود وفي الأطعمة، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها خمسة أبواب تقريبًا.
قال محمد بن أبي بكر (حدثنا بشر بن المفضل) بن لاحق أبو إسماعيل الرقاشي
حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ، قَال: سَمِعْتُ حُمْرَانَ يَقُول: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
…
" مِثْلَهُ سَوَاءٌ
ــ
بالقاف مولاهم البصري، روى عن خالد الحذاء وأبي مسلمة وأبي ريحانة وابن عون ويحيى بن سعيد وداود بن أبي هند وغيرهم، ويروي عنه (ع) ومحمد بن أبي بكر المقدمي ونصر بن علي وحامد بن عمر البكراوي وأبو كامل الجحدري وأحمد وخلق وقال أحمد إليه المنتهى في التثبت بالبصرة ووثقه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقال ابن المديني: كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة ويصوم يومًا ويفطر يومًا، وقال في التقريب: ثقة عابد من الثامنة مات سنة (187) سبع وثمانين ومائة.
روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الوضوء في موضعين وفي الصلاة في ستة مواضع والجنائز والنكاح في ثلاثة مواضع والصوم والبيوع والحج واللباس والعتاق والقسامة والطب وفي التوبة فجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها ثلاثة عشر بابًا تقريبًا قال بشر بن المفضل (حدثنا خالد) بن مهران (الحذاء) المجاشعي أبو المنازل البصري ثقة من الخامسة مات سنة (142) اثنتين وأربعين ومائة (عن الوليد) بن مسلم (أبي بشر) العنبري البصري ثقة من الخامسة ولم أر من أرخ موته (قال) الوليد بن مسلم (سمعت حُمران يقول سمعت عثمان) بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهذا السند من سداسياته أيضًا، ورجاله أربعة منهم بصريون واثنان مدنيان، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة بشر بن المفضل لإسماعيل بن إبراهيم في رواية هذا الحديث عن خالد الحذاء، وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن المتابع والمتابع ثقتان، وفيها أيضًا تصريح السماع في ثلاثة مواضع، حالة كون عثمان (يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) من مات وهو يعلم
…
الحديث. وقوله (مثله) مفعول ثان لقوله حدثنا بشر بن المفضل، والضمير فيه عائد إلى إسماعيل بن إبراهيم، أي وحدثنا بشر بن المفضل عن خالد الحذاء مثل ما حدث إسماعيل بن إبراهيم عن خالد، وقوله (سواء) بالنصب حال من مثله لتخصصه بالإضافة مؤكدة لمعنى المماثلة، أي حالة كون ذلك المثل مساويًا لحديث إسماعيل بن إبراهيم لفظًا ومعنىً.
ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عثمان بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما فقال:
46 -
(37) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، قَال: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عُبَيدُ اللهِ الأشجَعِي عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ،
ــ
(46)
- ش (37)(حدثنا أبو بكر) محمد أو أحمد (بن النضر بن أبي النضر) هاشم بن القاسم البغدادي وأكثر ما ينسب أبو بكر إلى جده أبي النضر، وهنا نسبه المؤلف إلى أبيه النضر اسمه محمد أو أحمد كما قررناه، وقيل: اسمه كنيته، روى عن جده أبي النضر هاشم بن القاسم ويعقوب بن إبراهيم بن سعد وأبي عاصم النبيل ومحمد بن بشر وحجاج بن محمد وغيرهم، ويروي عنه (م ت س) وأبو قدامة السرخسي وابن أبي خيثمة وأبو يعلى والسراج وقال: سألته عن اسمه فقال اسمي وكنيتي أبو بكر وغيرهم، وقال في التقريب: ثقة من الحادية عشرة مات سنة (245) خمس وأربعين ومائتين، روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان والجهاد والمناقب والعلم والزهد والذبائح، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ستة تقريبًا، (قال) أبو بكر (حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم) ابن مسلم بن مقسم التميمي، ويقال الليثي مولاهم الحافظ البغدادي مشهور بكنيته ولقبه قيصر، خراساني الأصل، روى عن عبيد الله الأشجعي وسليمان بن المغيرة وعكرمة بن عمار، ويروي عنه (ع) وأبو بكر بن النضر وزهير بن حرب وغيرهم، وثقه العجلي، وقال في التقريب: ثقة ثبت من التاسعة، مات سنة (207) سبع ومائتين، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في عشرة أبواب تقريبًا، قال أبو النضر (حدثنا عبيد الله) بن عبد الرحمن (الأشجعي) ويقال ابن عبيد الرحمن بالتصغير الكوفي نزيل بغداد، روى عن مالك بن مغول وعبد الملك بن أبجر والثوري فأكثر وهشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد، ويروي عنه (خ م ت س ق) وأبو النضر هاشم بن القاسم وأبو كريب وأحمد بن جواس وعثمان بن أبي شيبة وخلق، قال ابن معين: ثقة مأمون، وقال في التقريب: ثقة مأمون من كبار التاسعة، أثبت الناس كتابًا في الثوري، مات سنة (182) اثنتين وثمانين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الصلاة وفي شرف النبي صلى الله عليه وسلم والزهد والعلم والمداحين، فجملة الأبواب التي روى عنه فيها ستة تقريبًا.
(عن مالك بن مغول) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الواو البجلي أبي عبد الله الكوفي أحد علماء الكوفة، روى عن طلحة بن مُصرِّف وأبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتيبة وعون بن أبي جُحيفة وعبد الله بن بُريدة وسماك بن حرب وغيرهم، ويروي عنه (ع)
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ
ــ
وعبيد الله الأشجعي وعبد الله بن نمير وعبد الله بن المبارك ووكيع وشعبة والسفيانان ويحيى بن سعيد وطائفة، وثقه أحمد وابن معين، وقال في التقريب: ثقة ثبت من كبار السابعة، مات سنة (159) تسع وخمسين ومائة.
روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الصلاة في موضعين وفي الجنائز وفي الحج والفرائض والوصايا والجهاد والذبائح، فجملة الأبواب التي روى عنه فيها ثمانية.
(عن طلحة بن مصرف) بضم الميم وفتح الصاد وكسر الراء المشددة -وغلط من فتحها بصيغة اسم المفعول- بن عمرو بن كعب بن جحدب بن معاوية الهمداني اليامي من بني يام بن دافع بن مالك بن همدان أبي محمد الكوفي أحد الأئمة الأعلام، روى عن أبي صالح السمان وأنس وابن أبي أوفى وسعيد بن جبير، ويروي عنه (ع) ومالك بن مغول والزبير بن عدي وعبد الملك بن سعيد بن أبجر ومنصور بن المعتمر والأعمش ومسعر وشعبة وخلائق، وقال في التقريب: ثقة قارئ فاضل من الخامسة، وقال العجلي: كان من أقرأ أهل الكوفة، روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الأيمان وفي الزكاة في موضعين وفي الوصايا في موضعين، روى عنه في أربعة أبواب (عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات المدني مولى جويرية بنت الحارث امرأةٍ من قيس، روى عن أبي هريرة وجابر، ويروي عنه (ع) وطلحة بن مصرف، ثقة ثبت من الثالثة، مات سنة (101) إحدى ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ثمانية أبواب تقريبًا.
(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني؛ أحد الصحابة المكثرين، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه أربعمائة حديث وثمانية عشر حديثًا وهذا السند من سباعياته، ورجاله اثنان منهم بغداديان وثلاثة كوفيون واثنان مدنيان، قال القاضي عياض: هذا السند استدركه الدارقطني بأن غير الأشجعي لم يروه من هذا الطريق إلا مرسلًا، فقالوا: مالك عن طلحة عن أبي صالح مرسلًا، قال النواوي: قال ابن الصلاح: الإرسال وإن قدح في السند لم يقدح في صحة المتن؛ لأن ما وصله الثقة وأرسله غيرُهُ الحُكْمُ فيه للوصل عند المحققين لأنه زيادة ثقة، ولذا قال الشيخ أبو مسعود إبراهيم بن
قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ، قَال: فَنَفِدَت أَزْوَادُ الْقَوْمِ، قَال: حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِم،
ــ
محمد الدمشقي في جواب هذا الاستدراك: الأشجعي ثقة مُجَوِّدٌ فإذا جود ما قصر فيه غيره حُكم له به ومع ذلك فالحديث له أصل ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الأعمش له مُسْنَدًا، وبرواية يزيد بن أبي عبيد وإياس بن سلمة بن الأكوع عن سلمة، قال الشيخ ابن الصلاح: رواه البخاري عن سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما شك الأعمش فهو غير قادح في متن الحديث فإنه شك في عين الصحابي الراوي؛ وذلك غير قادح لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول.
(قال) أبو هريرة (كنا) معاشر الصحابة (مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير) أي في سفر غزوة تبوك كما سيأتي التصريح به، والمسير مصدر ميمي بمعنى السير يريد به السفر (قال) أبو هريرة (فنفدت) أي فرغت وفنيت من نفد ينفد من باب فرح ومنه قوله تعالى {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (أزواد القوم) جمع زاد وهو ما يتزود به المسافر لسفره من طعام وشراب وماء (قال) أبو هريرة فجاعوا وعطشوا (حتى هم) النبي صلى الله عليه وسلم وقصد (بنحر) وتذكية (بعض حمائلهم) أي حمائل القوم ونوقهم وأبعرتهم التي يحملون عليها أمتعتهم ويركبونها في حال سيرهم، قال السنوسي: والضمير في هَمَّ يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، قال القرطبي: وليس هذا الهم من وحي لما اتفق من عمر، وإنما هو عن اجتهاد، ومستند النظر فيه أنه من ارتكاب أخف الضررين، قال النواوي: وفي هذا الذي هم به النبي صلى الله عليه وسلم بيان لمراعاة المصالح؛ وتقديم الأهم فالأهم، وارتكاب أخف الضررين لدفع أضرهما والله أعلم.
قال الأبي: والهم وسط بين العزم والخطرات التي لا تندفع اهـ.
قال في المفهم: كان هذا الهم من النبي صلى الله عليه وسلم بحكم النظر المصلحي لا بالوحي، ألا ترى كيف عرض عمر بن الخطاب عليه مصلحة أخرى ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم رجحانها فوافقه عليها؛ وعمل بها ففيه دليل على العمل الصالح وعلى سماع رأي أهل العقل والتجارب، وعلى أن الأزواد والمياه إذا نفدت أو قلت جمع الإمام ما بقي منها وقوتهم به سواء، وهذا كنحو ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم الأشعريين فقال: "الأشعريون إذا قل زادهم جمعوه فاقتسموه بينهم بالسوية
قَال: فَقَال عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أزْوَادِ الْقَوْمِ .. فَدَعَوْتَ الله عَلَيهَا، قَال: فَفَعَلَ، قَال: فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ
ــ
فهم مني وأنا منهم".
والنحر طعن لَبَّة الإبل ونحوها من كل ما طال عنقه عند التذكية بدل ذبح ما قصر عنقه من البقر والغنم ونحوهما وقوله (حمائلهم) رُوي بالحاء المهملة وبالجيم وكلاهما صحيح والحمائل بالحاء المهملة جمع حمولة بفتح الحاء ومنه قوله تعالى {حَمُولَةً وَفَرْشًا} وهي الإبل التي تُحمل عليها الأثقال وتسمى رواحل لأنها يُرحل عليها، وتسمى نواضح إذا استُقي عليها والبعير ناضح والناقة ناضحة قاله أبو عبيد، وبالجيم جمع جمالة بكسرها مثل حجر وحجارة، والجمل هو الذكر دون الناقة (قال) أبو هريرة (فقال) عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله لو جمعت ما بقي) بكسر القاف على وزان رضي وبفتحها على وزان سعى، والكسر لغة أكثر العرب وبها جاء القرآن الكريم والفتح لغة طيء، أي لو أمرت بجمع ما بقي (من أزواد القوم) في أيديهم فجمعت عندك (فدعوت الله) أي سألت الله سبحانه وتعالى إنزال البركة (عليها) أي على تلك البقية المجموعة وجواب لو الشرطية محذوف تقديره لكان أصلح لهم وأبقى، ويصح كونها للتمني أي نتمنى جمعك إياها فدعوتك عليها بالبركة والبركة زيادة الخير معنىً، قال النواوي: وفي هذا بيان جواز عرض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحة لينظر الفاضل فيه فإن ظهرت له مصلحة فعله (قال) أبو هريرة (ففعل) النبي صلى الله عليه وسلم ما استشار به عمر فنادى في الناس فجمعوا ما بقي في أيديهم من الأزواد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على نطع مبسوطة عنده، قال النواوي: وفيه جواز خلط المسافرين أزودتهم وأكلهم منها مجتمعين، وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض، وجعله بعض أصحابنا سُنة اهـ.
قال الأبي: في هذا الأخذ نظر لأن هذا جمع خاص لضرورة مع أن الأكل لم يكن من الأزودة بل من الزيادة ولا حق فيها لأحد ويأتي الكلام على جمع الأزودة في حديث الأشعريين إن شاء الله تعالى.
قال القرطبي: وفيه أن الأزودة والمياه إذا قلت يجمع الإمام ما بقي منها ويقوتهم منه بالسوية، قال الأبي وفيه من النظر ما تقدم (قال) أبو هريرة (فجاء ذو البر) أي
بِبُرِّهِ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ، قَال: وَقَال مُجَاهِدٌ: وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ، قُلْتُ: وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنَّوَى؟ قَال: كَانُوا يَمُصُّونَهُ ويشْرَبُونَ عَلَيهِ الْمَاءَ،
ــ
صاحب القمح (ببره) أي بما بقي عنده من بره وقمحه (و) جاء (ذو التمر) أي صاحبه (بتمره) أي بما بقي عنده من تمره (قال) طلحة بن مصرف (وقال مجاهد) بن جبر في روايته عن أبي هريرة أي زاد على ما رواه لنا أبو صالح لفظة (و) جاء (ذو النواة) أي صاحب نوى التمر (بنواه) أي بالنوى الذي بقي عنده، قال القرطبي: قوله (وذو النواة بنواه) كذا الرِّواية في النوى بالتأنيث في الأوَّل وهو بمعنى النوى، ومعناه (وذو النوى بنواه) كما قال:(وذو البُرِّ ببُرِّه، وذو التمر بتمره) اهـ.
والنوى لب التمر الذي لا يؤكل، قال القاضي عياض قوله (قال وقال مجاهد) فاعل قال طلحة بن مصرف، وقال مجاهد مقول محكي لقال أي قال طلحة لفظة وقال مجاهد
…
إلخ.
قال النواوي: قال الشَّيخ أبو عمرو وجدته في كتاب أبي نُعيم المُخرج على صحيح مسلم وذو النواة بنواه، قال: وللواقع في كتاب مسلم وجه صحيح، وهو أن يجعل النواة عبارة عن جملة من النوى أفردت عن غيرها كما أطلق اسم الكلمة على القصيدة أو تكون النواة من قبيل ما يستعمل في الواحد والجمع اهـ.
قال مجاهد (قلت) لأبي هريرة (وما كانوا) أي وأي شيء كان الأصحاب (يصنعون) ويفعلون (بالنوى) ويستفيدون منه، هل يدقونه ويأكلون دقيقه أو يأكلون بقايا لحوم التمر منه، و (ما) في قوله (وما كانوا) استفهامية في محل نصب مفعول مقدم وجوبًا ليصنعون، وكان زائدة بين الفعل ومفعوله، أي وأي شيء يصنعون بالنوى، ويحتمل أصالتها، وجملة يصنعون خبرها (قال) أبو هريرة لمجاهد (كانوا) أي كان الأصحاب (يمصونه) أي يمصون النوى ويلتذون ما بقي عليه من طعم التمر (ويشربون عليه) أي على النوى (الماء) العذب ويقتاتون بذلك لضيق حالهم وفراغ ما عندهم من الزاد.
وقوله (يمصونه) في الميم الفتح والضم وهما معًا مضارع مصصت بكسر الصاد، وأمَّا مَصَصْتُ بفتحها فمضارعه بضم الميم لا غير، وفي الأمر من نحو مَصَّ الرمانة ومَصَّها خمس لغات على ما ذكره ثعلب فتح الميم مع فتح الصاد وكسرها وضم الميم مع الحركات الثلاث في الصاد، والمعروف في مصها مما اتصل بضمير المؤنثة المفردة فتح
قَال: فَدَعَا عَلَيهَا حَتَّى مَلأَ الْقَوْمُ أَزْودَتَهُمْ،
ــ
الصاد ويجوز كسرها وضمها اهـ أبي.
وفي المختار مَصَّ الشيء يمصه بالفتح مصًا وامتصه أيضًا والتمصص المص في مهلة، وأمصه الشيء فمصه والمصمصة المضمضة ولكن بطرف اللسان والمضمضة بالفم كله وفي الحديث:"كُنَّا نمصمص من اللبن ولا نمصمص من التمر" اهـ.
(قال) أبو هريرة (فدعا) رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليها) أي على تلك الأزودة المجموعة البركة، أي دعا الله عز وجل إنزال البركة وجعلها فيها والبركة كثرة الشيء معنى لا حسًّا.
وقوله (حتَّى ملأ القوم) غاية لمحذوف دل عليه ما سيأتي في الرّواية الآتية تقديره، فدعا عليها ثم قال خذوا منها في أوعيتكم فأخذوا منها في أوعيتهم حتَّى ملأ القوم أوعية (أزودتهم) الفارغة من الزاد، فالكلام على حذف مضاف ففيه مجاز بالحذف فالعلاقة المحلية.
قال القرطبي: قوله (حتَّى ملأ القوم أزودتهم) هكذا الرِّواية وصوابه مزاودهم فإنَّها هي التي تملأ بالأزودة، وهي جمع زاد: وهو ما يحمله المسافر معه في السَّفر من الطَّعام والماء والمزاود جمع مزادة: وهي ما يحمل فيه الزاد من الأوعية والأزودة لا تملأ بل إنَّما تُملأ بها أوعيتها فسمى المزاود أزودة لأنها تُجعل فيها على عادتهم في تسمية الشيء باسم محله كقولهم: سأل الوادي، وإنَّما السائل السيل لا الوادي، وقد عبر عنها في الرِّواية الأخرى بالأوعية اهـ بتصرف.
قال ابن الصلاح: الأزودة جمع زاد: وهي لا تملأ إنَّما تُملأ بها أوعيتها قال: ووجهه عندي أن يكون المراد حتَّى ملأ القوم أوعية أزودتهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه اهـ.
قال القاضي عياض: قوله (أزودتهم) كذا الرِّواية وهي جمع زاد ولعلّه مزاودهم كما قال في الآخر أوعيتهم، أو يكون من تسمية الشيء باسم ما يحله كتسمية النساء ظعائن، وإنَّما الظعائن الهوادج التي تحملهن، وتسمية الأسقية الروايا، وإنَّما الروايا الإبل التي تحملها، قال الأبي: فيكون من مجاز المجاورة.
قال القاضي عياض: تكثير القليل من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم المتواترة،
قَال: فَقَال عِنْدَ ذَلِكَ: "أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَني رَسُولُ الله، لَا يَلقَى الله بِهِمَا عَبْدٌ غَيرَ شَاكٍّ فِيهِمَا .. إِلا دَخَلَ الْجَنةَ"
ــ
وقد استوفينا أحاديثه في "الشفا" وأيضًا فإن خبر صحابي بحضرة ملئهم عن واقع شاهده الجميع ولم ينكروه مع أنهم لا يقرون على منكر يتنزل منزلة التواتر لأنَّ سكوتهم كالنطق، قال الأبي: إلَّا أن الفرق بينه وبين التواتر؛ أن التواتر يفيد العلم بنفسه، والخبر المذكور يفيده بالعادة، ثم الأظهر في التكثير أنَّه إنَّما وقع في النوع المُقتات غالبًا، وكأن الشيخ يختار أن التكثير وقع في الجميع ولا يظهر لأنَّ غير المُقتات كالنوى إنَّما يُحتاج إليه عند الضرورة وقد ارتفعت، وكيفية التكثير يحتمل أنها بإعادة أمثال ما يُرفع أو أنها بتزييد الأمثال دفعة اهـ أُبي.
قال السنوسي: قوله إنَّما يُحتاج إليه عند الضرورة كأنه قصر الحاجة في النوى على مصه عند الضرورة وكأنه لا فائدة له إلَّا ذلك، وقد تكون الفائدة فيه هنا التكثير من الخارق وعلامة النبوة.
أو إعداده لعلف رواحلهم، وقول مجاهد: وذو النوى بنواه يدل على أن التكثير وقع في الجميع، كما ذكر عن الشَّيخ ابن عرفة، وقد يحتمل أن فائدة إحضار النوى أنَّه صار بدعوته صلى الله عليه وسلم تمرًا كغيره، والفرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الذي اختار الأبي ظاهرٌ، وهو أقرب من احتماله من حيث إنه ظهرت به الفائدة لإحضار ذي النوى نواه بخلاف احتماله ولا ينافي هذا الاحتمال قوله في الحديث: وما كانوا يصنعون بالنواة، قال يمصونه ويشربون عليه الماء لأنَّ المراد بقوله يمصونه حكاية ما مضى من فعلهم.
(قال) أبو هريرة (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (عند ذلك) أي عندما ملؤوا أوعيتهم (أشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله) سبحانه وتعالى حقًّا، تعجبًا من إجابة هذه الدعوة وظهور هذه البركة ثم قال (لا يلقى الله) سبحانه (بهما) أي بهاتين الشهادتين، ولقاؤه كناية عن موته كما مر (عبد) من عباد الله تعالى فاعل يلقى، حالة كونه (غير شاك) حال من عبد لتخصصه بصفة محذوفة كما قدرنا أي غير متردد (فيهما) أي في معناهما (إلَّا دخل الجنَّة) إن كان بريئًا من الكبائر أو تاب عنها أو عفا الله عنها وإلا فبعد العقوبة على ذنبه؟ وحديث أبي هريرة هذا ذكره المؤلف استشهادًا به لحديث عثمان
47 -
(00) حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَبُو كُرَيبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوَيةَ، قَال أَبُو كُرَيبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاويةَ عَنِ الأعمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ،
ــ
الذي استدل به على الترجمة، وهذا الحديث أعني حديث أبي هريرة مما انفرد المؤلف بروايته عن أصحاب الأمهات وغيرهم، ولذلك أورده على سبيل الاستشهاد لا على سبيل الاستدلال.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:
(47)
- متا (00)(حدَّثنا سهل بن عثمان) بن فارس الكندي أبو مسعود العسكري نزيل الري روى عن أبي معاوية ويزيد بن زُريع وغيرهما، ويروي عنه (م) والحسن بن سفيان، وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال في التقريب: أحد الحُفاظ له غرائب، من العاشرة مات سنة (235) خمس وثلاثين ومائتين، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ستة أبواب تقريبًا.
(و) حدَّثنا أيضًا (أبو كريب محمَّد بن العلاء) بن كُريب الهمداني الكوفيِّ مشهور بكنيته، أحد الأثبات المكثرين، ثقة من العاشرة مات سنة (248) ثمان وأربعين ومائتين، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في عشرة أبواب تقريبًا.
وفائدة هذه المقارنة تقوية السند، لأنَّ سهل بن عثمان صدوق أو ثقة له غرائب كما مر آنفًا وأكد بقوله (جميعًا) أي حالة كونهما مجتمعين في الرِّواية عن أبي معاوية إشعارًا بأنه شاك في بقاء من روي له عن أبي معاوية، أي كلاهما (عن أبي معاوية) محمَّد بن خازم التميمي مولاهم الضَّرير الكوفيِّ عَمِي وهو صغير ثقة من كبار التاسعة، مات سنة (195) خمس وتسعين ومائة، وقد رُمي بالإرجاء، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في أربعة عشر بابا، وأتى بقوله (قال أبو كريب حدَّثنا أبو معاوية) تورعًا من الكذب على أبي كريب ببيان صيغته لأنَّه أتى بصيغة السماع لا بالعنعنة (عن) سليمان بن مهران الملقب بـ (ـالأعمش) الكاهلي مولاهم أبي محمَّد الكوفيِّ، ثقة حافظ عارف بالقراءة ورعٌ لكنَّه يدلس من الخامسة مات في ربيع الأوَّل سنة (148) ثمان وأربعين ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ثلاثة عشر بابا (عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات، مولى جُويرية بنت الحارث امرأة من قيس، المدني ثقة ثبت من الثالثة، مات سنة (101) إحدى ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف
عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -شَكَّ الأَعْمَشُ- قَال: لَما كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ
ــ
روى عنه في ثمانية أبواب تقريبًا (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر قال الأعمش (أو) قال أبو صالح (عن أبي سعيد) الخدري سعد بن مالك بن سنان بن خدرة بضم الخاء المعجمة له ولأبيه صحبة، مات بالمدينة سنة (65) خمس وستين وقيل: أربع وسبعين، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ثمانية أبواب تقريبًا (شك الأعمش) فيما سمعه عن أبي صالح هل قال عن أبي هريرة أو قال عن أبي سعيد الخدري، فأتى بالصيغتين لاحتمال وقوع كل منهما عن أبي صالح.
قال القاضي عياض: وهذا السند أيضًا مما استدرك به الدارقطني على المؤلف بأن الأعمش شَكَّ، قال النواوي: أجاب ابن الصلاح بأن الشَّك في عين الراوي العدل لا يقدح في صحة الحديث لأنَّ القصد النقل عن ثقة وقد حصل، قال الخطيب البغدادي: وإذا قال الراوي حدثني فلان أو فلان قُبِلَ بلا خلاف، وإذا صح ذلك في غير الصحابي ففي الصحابي أجدر وأولى انتهى.
وهذا السند من خماسياته، ورجاله ثلاثة منهم كوفيون واثنان مدنيان، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة الأعمش لطلحة بن مصرف في رواية هذا الحديث عن أبي صالح، وكرر متن الحديث لما في هذه الرِّواية من المخالفة للرواية الأولى في بعض الكلمات، وبالزيادة.
(قال) أبو هريرة أو أبو سعيد (لما كان غزوة تبوك) أي زمن غزوة تبوك لا اليوم نفسه، قال النواوي: هكذا ضبطناه يوم غزوة تبوك، والمراد باليوم هنا الوقت والزمان لا اليوم الذي هو ما بين طلوع الفجر وغروب الشَّمس، وليس في كثير من الأصول أو أكثرها ذكر اليوم هنا، وأمَّا الغزوة فيقال فيها أيضًا الغزاة، وأمَّا تبوك فهي من أدنى أرض الشام إلى الحجاز (قال السهيلي) وكان سبب هذه الغزاة أن قومًا من اليهود أتوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم إن كنت صادقًا في أنك نبي فالحق بالشام فإنَّها أرض الأنبياء والمحشر فصدقهم فغزا لا يريد إلَّا الشام فبلغهم فلما بلغ تبوك أنزل الله سبحانه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} فأمر بالرجوع إلى المدينة فرجع وسميت تبوك باسم عين فيها هنالك وهي التي أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن لا يمس أحدٌ من مائها شيئًا فسبق إليها رجلان وهي تَبِضُّ
أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَوْ أَذِنْتَ لَنَا .. فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأكَلْنَا وَاذَهَنا،
ــ
بشيء من الماء فجعلا يُدخِلان فيها سَهمَيهِما ليكثر ماؤها فسبهما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال ما زِلْتُما تبوكَانها (1) منذ اليوم فسميت تبوك من ذلك اليوم اهـ الأبي.
(أصاب النَّاس) أي أخذ الأصحاب الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (مجاعة) وحلت بهم فاقة والمجاعة بفتح الميم مصدر ميمي وهو الجوع الشديد (فقالوا) بالفاء في نسخة شرحها الأبي وفي نسخة شرح النواوي وأكثر المتون (قالوا) بلا فاء أي قال النَّاس الذين معه صلى الله عليه وسلم على سبيل المشاورة (يا رسول الله لو أذنت لنا) في نحر نواضحنا لنأكل لحومها لسد ما حل بنا من الجوعة (فنحرنا) وذكينا (نواضحنا) وإبلنا التي نركبها ونحمل عليها أمتعتنا (فأكلنا) لحومها (وادهنا) أي واتخذنا من شحومها دهنًا ندهن به ونستصبح به وجواب لو الشّرطيّة محذوف تقديره لكان خيرًا ومصلحة لنا، قوله (لو أذنت لنا) أي لو أمرتنا بنحرها وأكل لحمها والنواضح من الإبل التي يُستقى عليها قال أبو عبيد الذكر منها ناضح والأنثى ناضحة كما مر، قوله (وادهنا) ليس المقصود منه ما هو المعروف من الإدهان والتمسح بالدهن وإنَّما معناه اتخذنا دهنا من شحومها نتأدم منها ونستصبح بها، وعبارة الأبي ومعنى ادهنا أخذنا الشحم من لحومها وقولهم (لو أذنت لنا) هذا من أحسن آداب خطاب الكبار والسؤال منهم فيقال لو فعلت كذا أو أمرت بكذا لو أذنت في كذا وأشرت إلى كذا وجواب لو محذوف لعلمه من السياق تقديره لو أذنت لنا لكان خيرًا لنا أو لكان صوابًا ورأيًا متينًا أو مصلحة ظاهرة وما أشبه ذلك وهذا أجمل من قولهم للكبير افعل كذا بصيغة الأمر.
وقوله هنا (لو أذنت لنا) يعارض ما مر في الرّواية السابقة من قولهم (حتَّى هم بنحر حمائلهم) لأنَّ الاستئذان المذكور هنا يدل على أنهم هموا أولًا قبل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وما سبق يدل على أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم هم أولًا فبينهما معارضة، فكيف يجمع بين الروايتين (قلت) يجمع بينهما بأنهم استأذنوا له أولًا فهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
(1) قوله (تبوكانها) من باك يبوك من باب قال: يقال باك العين إذا ثور ماءها وحركه بعود ونحوه ليخرج اهـ قاموس.
فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "افْعَلُوا"، قَال: فَجَاءَ عُمَرُ فَقَال: يَا رَسُولَ الله؛ إِنْ فَعَلْتَ .. قَلَّ الظهْرُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيهَا بِالْبَرَكَةِ، لَعَل الله أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ"،
ــ
وفي الحديث أنَّه لا ينبغي للعسكر من الغزاة أن يضيعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بغير إذن الإمام ولا يأذن لهم إلَّا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة لأنَّ في تضييعها إضعافًا لهم وكذلك ما يخاف من تضييعه في الحضر فوقه مصلحة عامة كبيع السلاح ونحوه (فقال) لهم (رسول الله صلى الله عليه وسلم افعلوا) ما قلتم من نحرها وأكل لحمها والادهان بشحومها (قال) أبو هريرة أو أبو سعيد الخدري (فجاء عمر) بن الخطاب إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (فقال) له صلى الله عليه وسلم على سبيل المشاورة (يا رسول الله إن فعلت) ما طلبوا منك وأذنت لهم فيه فنحروا وأكلوا لحمها (قل الظهر) والمركوب لهم، وفي ذلك ضياعهم، قال النواوي: وفي قول عمر هذا جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء، وأن للمفضول أن يشير عليهم بخلاف ما رأوه إذا ظهرت مصلحته عنده، وأن يُشير عليهم بإبطال ما أمروا بفعله، والمراد بالظهر هنا الدواب سميت بذلك لكونها يُركب على ظهرها أو لكونها يستظهر بها ويستعان بها على السَّفر انتهى.
(ولكن ادعهم) يا رسول الله أي ادع النَّاس وناد فيهم بالإتيان إليك ببقايا أزوادهم فيأتوا إليك (بفضل أزوادهم) أي بما فضل وبقي عندهم من بقية أزوادهم (ثم) بعد إتيانهم إليك ببقايا أزوادهم وجمعها عندك (ادع الله) سبحانه وتعالى (لهم) أي لأجلهم (عليها) أي على تلك البقايا المجموعة (بالبركة) والزيادة فيها والإكثار منها معنىً، والبركة زيادة الشيء وكثرته معنى لا حسًّا (لعل الله) سبحانه وتعالى ونرجوه (أن يجعل في ذلك) المجموع من بقايا الأزواد بركة وزيادة وكثرة معنوية، فمفعول يجعل محذوف كما قدرناه لعلمه من السياق.
قال النواوي (قوله أن يجعل في ذلك) هكذا وقع في الأصول التي رأينا وفيه محذوف تقديره يجعل في ذلك بركة أو خيرًا أو نحو ذلك فحذف المفعول به لأنَّه فضلة، وأصل البركة كثرة الخير وثبوته، وتبارك الله ثبت الخير عنده، وقيل غير ذلك اهـ.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر (نعم) حرف تصديق في الإثبات قائم
قَال: فَدَعَا بِنِطَع فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، قَال: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، قَال: وَيَجِيءُ الآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، قَال: وَيَجِيءُ الآخَرُ بِكِسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، قَال: فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَيهِ
ــ
مقام الجواب تقديره أي سأفعل ما قلت لي على سبيل المشاورة من جمع بقايا الأزواد والدعاء عليها، قال الأبي: وهذا من النسخ قبل الفعل، لأنَّ إذنه الأوَّل إباحة، والإباحة حكم شرعي فرفعها نسخ انتهى.
قال السنوسي: وفيه نظر لأنَّ الإباحة أولًا إنَّما كانت للضرورة وقد ارتفعت بما ظهر من البركة، وارتفاع الحكم لارتفاع سببه ليس بنسخ اهـ.
(قال) أبو هريرة أو أبو سعيد (فدعا) النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وطلب منهم (بنطع) أي بإحضار جلد مدبوغ وبسطه عنده ليجمع عليه الأزواد، والتطوع على وزان ضلع، بساط متخذ من أديم، وكانت الأنطاع تبسط بين أيدي الملوك والأمراء حين أرادوا قتل أحدٍ صبرًا ليصان المجلس من الدم وإليه أشار أبو الطَّيِّب بقوله:
إذا ضرب الأمير رقاب قوم
…
فما لكرامة مد النطوعا
وفيه أربع لغات مشهورة أشهرها كسر النون مع فتح الطاء، والثانية فتحهما، والثالثة فتح النون مع إسكان الطاء، والرابعة كسر النون مع إسكان الطاء؛ أي فدعا بنطع فأحضر (فبسطه) أي فأمر ببسطه وفرشه (ثم دعا) ونادى في النَّاس (بفضل أزوادهم) أي بجمع بقايا أزوادهم على ذلك النطع (قال) أبو هريرة أو أبو سعيد (فجعل الرجل) منهم أي شرع أن (يجيء) ويحضر (بكف ذرة) وحفنتها ومدها ويحتمل كون جعل من أفعال الشروع كما فسرنا، وكونه من أخوات صار أي صار حاضرًا بكف ذرة والذرة بضم الذال وتخفيف الراء المفتوحة حب مقتات معروف لها أنواع كثيرة تصل إلى ثلاثين نوعًا، وهي في أصلها نوعان ذرة حبشية وهي كبار الحبوب وذرة شامية وهي صغار الحبوب، وأصغرها حبًا نوع يسمى بالدخن (قال) أبو هريرة (ويجيء) الرجل (الآخر بكف تمر) أي بمد تمر وحفنته (قال) أبو هريرة (ويجيء الآخر بكسرة) خبز وقطعتها، وقوله (حتَّى اجتمع) غاية لمحذوف أي فجمعوها حتَّى اجتمع (على النطع) المفروش (من ذلك) الطَّعام المجموع (شيء يسير) أي شيء قليل لا يسعهم عادة.
(قال) أبو هريرة (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه) أي على ذلك
بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَال:"خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُم"، قَال: فَأخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وعَاء إلا مَلَؤُوهُ، قَال: فَأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَة، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى الله بِهِمَا عَبْدٌ غَيرَ شَاكٍّ .. فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ"
ــ
المجموع في النطع (بالبركة) أي طلب من الله تعالى بذل وافتقار بإنزال البركة والنماء المعنوي فيه بحيث يكفي ذلك الشيء اليسير كلهم ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد دعائه على ذلك المجموع (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل منهم (خذوا) من هذا المجموع اليسير كل بقدر حاجته واجعلوه (في أوعيتكم) أي في ظروفكم ومزاودكم وأوانيكم جمع وعاء وهو الإناء الذي يوعى ويحفظ فيه الطَّعام (قال) أبو هريرة (فأخذوا) أي فأخذ كل منهم من ذلك المجموع اليسير قدر حاجته وجعلوه (في أوعيتهم) ومزاودهم وملؤوا كل ما عندهم من الأواني والأوعية (حتَّى ما تركوا) أي حتَّى لم يتركوا (في العسكر) والجيش (وعاء) وإناء فارغًا (إلَّا ملؤوه) أي إلَّا ملؤوا ذلك الوعاء الفارغ من ذلك الطَّعام المجموع وجعلوه مملوءًا بالطعام (قال) أبو هريرة (فكلوا) أي عقب ما ملؤوا الأوعية أكلوا مما بقي على النطع (حتَّى شبعوا) وملؤوا بطونهم من أكل ذلك الطَّعام (وفضلت) بكسر الضَّاد وفتحها لغتان مشهورتان فيه أي بقيت (فضلة) وبقية أي شبعوا وفضل منهم شيء فاضل بعد أكلهم وشبعهم (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك (أشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله) حقًّا إلى كافّة الثقلين، وقال أيضًا (لا يلقى الله) سبحانه وتعالى (بهما) أي بهاتين الشهادتين (عبد) من عباد الله تعالى حالة كونه (غير شاك) ولا متردد فيهما والفاء في قوله (فيحجب) أي يمنع، عاطفة سببية، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النفي والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره لا يكون لقاء عبد ربه بهما حالة كونه غير متردد فيهما فحجبه (عن الجنَّة) وهو بضم الياء وفتح الجيم على صيغة المبني للمفعول وعبارة المفهم هنا (قوله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنَّة) يعني كلمتي التوحيد المتقدمتين (ويحجب) يمنع ورويناه بفتح الباء ورفعها، فالنصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النفي وهو الأظهر والأجود وفي الرَّفع إشكال لأنَّه يرتفع على أن يكون
48 -
(28) حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيدٍ،
ــ
خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره فهو يحجب وهو نقيض المقصود فلا يستقيم المعنى حتَّى تقدر لا النافية؛ أي فهو لا يحجب، ولا تحذف لا النافية في مثل هذا والله أعلم.
وظاهر هذا الحديث أن من لقي الله وهو يشهد أن لا إله إلَّا الله وحده دخل الجنَّة ولا يدخل النَّار، وهذا صحيح فيمن لقي الله تعالى بريئًا من الكبائر، فأمَّا من لقي الله تعالى مرتكب كبيرة ولم يتب منها فهو في مشيئة الله تعالى التي دل عليها قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة المفيدة بكثرتها حصول العلم القطعي، أن طائفة كثيرة من أهل التوحيد يدخلون النَّار ثم يخرجون منها بالشفاعة أو بالتفضل المعبر عنه بالقبضة في الحديث الصَّحيح المتفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، أو بما شاء الله تعالى فدل ذلك على أن الحديث المتقدم ليس على ظاهره فيتعين تأويله، ولأهل العلم فيه تأويلان:
أحدهما أن هذا العموم يراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من أهل الكبائر ممن يشاء الله تعالى أن يغفر له ابتداءً من غير توبة كانت منهم ولا سبب يقتضي ذلك غير محض كرم الله تعالى وفضله، كما دل عليه قوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وهذا على مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للمبتدعة المانعين تفضل الله تعالى بذلك، وهو مذهب مردود بالأدلة القطعيّة العقلية والنقلية وبسط ذلك في علم العقائد.
وثانيهما: أنهم لا يُحجبون عن الجنَّة بعد الخروج من النَّار، وتكون فائدته الإخبار بخلود كل من دخل الجنَّة فيها، وأنَّه لا يُحجب عنها ولا عن شيء من نعيمها والله تعالى أعلم انتهى.
ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث عثمان بن عفَّان بحديث عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنهما فقال:
(48)
- (28)(حدَّثنا داود بن رُشيد) بالتصغير الهاشمي مولاهم أبو الفضل الخوارزمي نزيل بغداد، روى عن الوليد بن مسلم وصالح بن عمر ويحيى بن سعيد الأموي وهُشيم وإسماعيل بن عليه ومروان بن معاوية وغيرهم، ويروي عنه (م) و (خ) عن رجل فرد حديث و (د س ق) وقال في التقريب: ثقة من العاشرة، مات لستٍ خلت
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ -يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ- عَنِ ابن جَابِرٍ، قَال: حَدَّثَنِي عُمَيرُ بْنُ هَانِئٍ،
ــ
من شعبان سنة (239) تسع وثلاثين ومائتين، روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الوضوء وفي الصَّلاة في موضعين والجنائز والبيوع واللباس والصوم، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها سبعة.
قال داود (حدَّثنا الوليد) بن مسلم القرشي الأموي مولاهم أبو العباس الدّمشقيّ عالم الشام، روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر والأوزاعي وشيبان ومحمد بن مطرف وغيرهم، ويروي عنه (ع) وداود بن رُشيد وإسحاق بن موسى الأنصاري وزهير بن حرب ومحمد بن مهران الرَّازي وإسحاق الحنظلي وغيرهم، قال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث، وقال في التقريب: ثقة لكنَّه كثير التدليس، أعني تدليس التسوية، وهو أن يسقط من سنده غير شيخه لكونه ضعيفًا أو صغيرًا، ويأتي بلفظ محتمل أنَّه عن الثقة الثَّاني تحسينًا للحديث، وهو شر أقسام التدليس، من الثامنة كان مولده سنة (119) تسع عشرة ومائة، ومات سنة (195) خمس وتسعين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الصَّلاة في موضعين والجنائز في موضعين والعتق والجهاد في موضعين والفتن، روى عنه في ستة أبواب تقريبًا، وأتى بالعناية في قوله (يعني ابن مسلم) إشعارًا بأنه لم يسمع هذه النسبة من شيخه، (عن) عبد الرحمن بن يزيد (ابن جابر) نُسب إلى جده لشهرته به الأزدي أبي عتبة الدّمشقيُّ الداراني، روى عن عُمير بن هانئ والقاسم بن مخيمرة وبُسر بن عبيد الله ورُزيق بن حيان مولى ابن فزارة ومسلم بن عامر وطائفة ويروي عنه (ع) والوليد بن مسلم الدّمشقيُّ ويحيى بن حمزة وابن المبارك وابنه عبد الله بن عبد الرحمن وخلق، قال ابن أبي داود: ثقة مأمون، وقال في التقريب: ثقة من السابعة، مات سنة (153) ثلاث وخمسين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان والجنائز والجهاد في ثلاثة مواضع وفي الأحكام وفي صفة الحشر والفتن، روى عنه في ستة أبواب (قال) ابن جابر (حدثني عُمير بن هانئ) العنسي بسكون النون ومهملتين أبو الوليد الدّمشقيُّ الداراني، روى عن جُنادة بن أبي أميَّة ومعاوية بن أبي سفيان وأبي هريرة، ويروي عنه (ع) وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وعبد الرحمن بن ثابت وثقه العجلي، قال أبو داود: قُتل صبرًا بداريا أيَّام يزيد بن الوليد سنة (127) سبع وعشرين ومائة، وقيل: المقتول ابنه، وقال في التقريب: ثقة من كبار الرابعة، روى عنه المؤلف في بابين فقط في الإيمان والجهاد.
قَال: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَال: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحْ مِنْهُ،
ــ
(قال) عمير (حدثني جنادة بن أبي أميَّة) الأزدي أبو عبد الله الدّمشقيُّ مختلف في صحبته واسم أبي أميَّة كثير روى عن عبادة بن الصَّامت وعمر وعلي في (ع) ويروي عنه (ع) وعمير بن هانئ وبُسر بن سعيد وابنه سليمان، قال العجلي: تابعي ثقة مات سنة (67) سبع وستين، روى عنه المؤلف في بابين في الإيمان والجهاد، قال جنادة بن أبي أميَّة (حدَّثنا عبادة بن الصَّامت) بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة وزيادة هاء في آخره بن قيس بن أصرم بن فهو بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري أبو الوليد الدّمشقيُّ شهد العقبتين وبدرًا وهو أحد النقباء له مائة وأحدٌ وثمانون حديثًا (181) اتفقا منها على ستةٍ وانفرد (خ) بحديثين وكذا (م) يروي عنه جُنادة بن أبي أميَّة وعبد الرحمن بن عُسيلة الصنابحي ومحمود بن الرَّبيع وأبو إدريس الخولاني وأبو الأشعث الصنعاني وخلق، وقال في التقريب: يدري مشهور مات بالرملة سنة (34) أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة روى عنه المؤلف في الإيمان والجهاد والصلاة والبيوع والحدود في موضعين، روى عنه في خمسة أبواب، وهذا السند من سداسياته ورجاله كلهم شاميون إلَّا داود بن رشيد فإنَّه خوارزمي سكن بغداد (قال) عبادة بن الصَّامت (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال) عن صميم قلبه (أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده) أي حالة كونه منفردًا في ذاته وصفاته وحالة كونه (لا شريك له) في أفعاله (و) أشهد (أن محمدًا عبده) لا شريكه (ورسوله) لا ابنه (و) أشهد (أن عيسى) ابن مريم (عبد الله) لا شريكه (وابن أمته) مريم بنت عمران لا ابنه كما تزعمه النصارى (وكلمته) أي كلمة الله سبحانه (ألقاها) أي أوصلها (إلى مريم) بنت عمران أي مخلوق بكلمة كن لا بواسطة أب كغيره من بني آدم ألقاها أي أوصل موجب تلك الكلمة، وهو ذات عيسى إلى رحم مريم وأوجده فيه (وروح) نفخ (منه) سبحانه في رحم مريم، قال النواوي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمعُ أو من أجمعِ الأحاديث المشتملة على العقائد فإنَّه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يُخرِج عن جميع ملل الكفر على اختلافِ عقائدهم وتباعدِها فاختصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم وسُمي عيسى عليه السَّلام
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كلمةً لأنَّه كان بكلمة بن فحسب من غير أب بخلاف غيره من بني آدم، قال الهروي: سُمي كلمة لأنَّه كان وحصل عن الكلمة فسُمي بها كما يقال للمطر رحمة لأنَّه حصل برحمة الله وإحسانه على عباده قال الهروي وقوله تعالى (وروح منه) أي رحمة منه، قال: وقال ابن عرفة أي ليس من أب إنَّما نفخ في أمه الروح، وقال غيره (وروح منه) أي مخلوقة من عنده وعلى هذا يكون إضافتها إليه إضافة تشريف كناقة الله وبيت الله، وإلا فالعالمُ له سبحانه وتعالى ومِن عندِهِ والله أعلم انتهى.
وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في تفسيرنا حدائق الروح والريحان فراجعه إن أردت الخوض فيه، قال الأبي: قوله في حديث عُبادة بن الصَّامت (من قال أشهد أن لا إله إلَّا الله) إلخ لا يشترط في داخل الإسلام المنطق بلفظة أشهد ولا التعبير بالنفي والإثبات، فلو قال الله واحد ومحمد رسول الله كفى، وأمَّا كون المنطق بذلك شرطًا في حصول الثواب المذكور فمحتمل اهـ.
وقوله (أن عيسى) إلى آخره قال القاضي عياض: سُمي عيسى كلمة لأنَّه كان عن كلمة الله تعالى ثم اختلف فيها، فقيل هي كلمة كُن، وقيل هي التي بشر بها الملك مريم، فمعنى ألقى على هذا الأخير أعلمها، وسُمي روح الله لأنَّه حدث عن نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه من أمر الله تعالى فنسبه الله إليه وسُمي الرِّيح روحًا لأنه ريح يخرج عن الروح، وقيل المراد بكونه روحًا أنَّه حياة، وقيل رحمة، وقيل برهان لمن اتبعه، وقيل لأنَّه نُفخت فيه الروح دون أبٍ كما قال في آدم عليه السلام {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} .
قال الأبي: قيل إن ذكر "عبده ورسوله" تعريض بالنصارى فيما ادعت من البنوة والتثليث وباليهود فيما قذفت به مريم عليها السلام وأنكرت من رسالته.
وسمع بعض عظماء النصارى قارئًا يقرأ {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فقال: هذا دين النصارى، يعني هذا يدل على أنَّه بعض منه تعالى، فأجابه الحسن بن علي بن واقد صاحب كتاب النظائر بأن الله تعالى يقول {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فلو أريد بروح منه أنَّه بعضه كان ما في السموات وما في الأرض بعضًا منه، وإنَّما يريد بروح منه أنَّه من إيجاده وخلقه فأسلم النصراني اهـ.
وَأَن الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ .. أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ"
ــ
وقال القرطبي: قوله (وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم) هذا الحديث مقصوده إفادة التَّنبيه على ما وقع للنصارى من الغلط في عيسى وأمه عليهما السلام والتحذير عن ذلك بأن عيسى عبد الله لا إله ولا ولد، وأمه أمة الله تعالى ومملوكة له، لا زوجة، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا.
ويستفاد من هذا ما يلقنه النصراني إذا أسلم، وقد اختلف في وصف عيسى بكونه كلمة، فقيل لأنَّه تكوَّن بكلمة كن من غير أب، وقيل لأنَّ الملك جاء أمه بكلمة البشارة به عن الله تعالى، وهذان القولان أشبه ما قيل في ذلك، ومعنى ألقاها أي أعلمها بها، يقال: ألقيت عليك كلمة أي أعلمتك بها، وسُمي عيسى روح الله لأنَّه حدث عن نفخة الملك وإضافته إلى الله تعالى لأنَّ ذلك النفخ كان من أمره وقدره.
وسُمي النفخ روحًا لأنه ريح يخرج من الروح، قاله المكيون، وقيل: سُمي عيسى بذلك لأنه روى لمن اتبعه، وقيل لأنَّه تعالى خلق فيه الروح من غير واسطة أبٍ كما قال في آدم {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} .
(و) أشهد (أن الجنَّة) دار الكرامة (حق) أي أمر ثابت موجود مخلوق (و) أشهد (أن النَّار حق) أي ثابت موجود مخلوق، قال السنوسي: ولعل فائدة ذكر الجنَّة والنار أيضًا التخلص من عقائد الدهرية ومن يقول بنفي المعاد البدني لأنَّه قد قال به بعض من يُعد نفسه من المسلمين وليس منهم، وعطف جملة قوله (وأن عيسى) إلخ شبه عطف خاص على عام اعتناء بشأنها لما عرض فيها من الجهالات ولأن استحضار الجزئيات في ضمن كلياتها، واللوازم الخفية عند حضور ملزوماتها مما يحتاج إلى زيادة تنبيه ودقة نظر، وإلا فذكر كلمتي الشهادة مع تحقُّق معناهما على ما يجب يتضمن جميع ذلك.
وقوله (أدخله الله) سبحانه وتعالى جواب من الشّرطيّة في قوله (من قال) أي أدخل الله سبحانه وتعالى ذلك القائل دار الكرامة (من أي أبواب الجنَّة شاء) أي من إحدى الأبواب الثمانية في الجنَّة شاء الدخول منها تكرمة له بسبب هذا الذكر؛ أي يخير في الدخول من أيها شاء تكرمة له، ولكنه يدخل من الباب الذي سبق في علمه تعالى دخوله منه.
قال الأبي: ولا يعارض هذا الحديث حديث إن في الجنَّة بابا يقال له باب الريان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا يدخله إلَّا الصائمون لأنَّه يقتضي أن هذا القائل لو أراد الدخول منه لم يمكن لأنَّه لا يلزم من التخيير الدخول فإنَّه قد يخير ولا يخلق الله تعالى عنده إيثار الدخول منه انتهى.
قال القرطبي: قوله (أدخله الله من أي أبواب الجنَّة شاء) ظاهر هذا يقتضي أن قول هذه الكلمات يقتضي دخول الجنَّة والتخيير في أبوابها وذلك بخلاف ما ظهر من حديث أبي هريرة الآتي في كتاب الزكاة فإن فيه ما يقتضي أن كل من كان من أهل الجنَّة إنَّما يدخل من الباب المعين للعمل الذي كان يعمله غالبًا الداخل فإنَّه قال فيه: فمن كان من أهل الصَّلاة دُعي من باب الصَّلاة ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الصيام وهكذا الجهاد، والجمع بين الظاهرين أن كل من يدخل الجنَّة مخير في الدخول من أي باب شاء غير أنَّه إذا عُرض عليه الأفضل في حقه دخل منه مختارًا للدخول منه من غير جبر عليه ولا منع له من الدخول من غيره ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(تنبيه): قالوا: والحكمة في كون أبواب الجنَّة ثمانية أنها على عدد خصال الإسلام المشهورة المذكورة في حديث جبريل عليه السلام ويزاد عليه الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن أكثر مما يناسب واحدًا منها كان من أهل بابه، ومن أكثر مما يناسب الجميع كان من أهل الأبواب الثمانية، والأبواب الثمانية طرقٌ للجنات الثمانية، كل باب طريق لجنة منها كما أن أبواب النَّار السبعة طرق لطبقاتها السبع، (وحكمة) كون أبواب النَّار سبعة على ما قال بعضهم أنها بعدد الجوارح التي يعصي المكلف بها وهي الفم والأنف والعين والأذن واليد والرجل والفرج وباقي البدن يرجع إلى هذه وهي الأصل أعاذنا الله تعالى بفضله من جميعها وجعلنا ممن يكرم بالدعاء من أبواب الجنَّة كلها بلا سبق محنة ومناقشة.
ووجه التنعم بأبواب الجنَّة المدخول منها: إما التنعم بالجنات التي كل باب طريق لواحدة منها أو لأنَّه أُعد في كل باب من أنواع النعيم والمسرات ما لم يُعد في الآخر أو لإظهار الاعتناء برفع الحجر عمن مُكن من الدخول من جميعها أو لجميع ما ذكر وهو أظهر والله تعالى أعلم. وهذا الحديث أعني حديث عبادة بن الصَّامت مما انفرد الإمام
49 -
(00) حَدَّثَنَا (1) أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الأوزَاعي،
ــ
مسلم من أصحاب الأمهات ثم ذكر المتابعة في هذا الحديث فقال:
(49)
- متا (00)(حدَّثنا أحمد بن إبراهيم) بن كثير بن زيد العبدي البغدادي أبو عبد الله المعروف بـ (الدُّورقيُّ) بفتح الدال والراء بينهما واو ساكنة نسبة إلى دورق بلدة من بلاد فارس أخو يعقوب بن إبراهيم الدُّورقيُّ أصغر من أخيه بسنتين روى عن مبشر بن إسماعيل وعبد الصَّمد بن عبد الوارث وأبي داود الطَّيالسيُّ ويزيد بن زُريع وحفص بن غياث وغيرهم، ويروي عنه (م د ت ق) وبقي بن مخلد وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويعقوب بن شيبة وغيرهم، وقال في التقريب: ثقة حافظ من العاشرة، مات سنة (246) ست وأربعين ومائتين عن ثمان وسبعين (78) سنة، وكان مولده سنة ثمان وستين ومائة (168).
قال أحمد بن إبراهيم (حدَّثنا مبشر بن إسماعيل) بضم الميم وكسر المعجمة المشددة الكلبي مولاهم أبو إسماعيل الحلبي، روى عن الأوزاعي وجعفر بن بُرقان وصفوان بن عمرو وغيرهم ويروي عنه (ع) وأحمد بن إبراهيم الدُّورقيُّ وأحمد بن حنبل ومحمد بن مِهران الجمال ونصر بن عاصم وخلق، قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، وقال في التقريب: صدوق من التاسعة مات بحلب سنة (200) مائتين، روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان فقط.
(عن) عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الشامي أبي عمرو (الأوزاعي) نسبة إلى أوزاع بطن من حمير وقيل إن الأوزاع قرية بدمشق إذا خرجت من باب الفراديس، ويقال إنَّما قيل له الأوزاعي لأنَّه من أوزاع القبائل، روى عن عمير بن هانئ والزهري ويحيى بن أبي كثير وقتادة وعطاء وابن سيرين ومكحول ونافع وخلق، ويروي عنه (ع) ومبشر بن إسماعيل وعيسى بن يونس والوليد بن مسلم ويحيى القطان وخلق، وقال في التقريب: ثقة جليل من السابعة، مات في الحمام سنة (157) سبع وخمسين ومائة وكان من فقهاء أهل الشام وزهادهم، وقال إسحاق: إذا اجتمع الأوزاعي والثوري ومالك على أمر فهو سنة.
(1) في نسخة: (حدثني).
عَنْ عُمَيرِ بْنِ هَانِئٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ، غَيرَ أَنَّهُ قَال:"أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"مِنْ أَبي أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ"(1)
ــ
روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء والصلاة في ستة مواضع والزكاة والصوم والحج والبيوع في ثلاثة مواضع والنبوة والدعاء والهبة والجهاد والأشربة، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها اثنا عشر بابًا تقريبًا (عن عمير بن هانئ) العنسي أبي الوليد الدّمشقيُّ ثقة من كبار الرابعة وتقدم البسط في ترجمته قريبًا وأن المؤلف روى عنه في بابين فقط، وغرض المؤلف بسوق هذا السند بيان متابعة الأوزاعي لابن جابر في رواية هذا الحديث عن عُمير بن هانئ، والجار والمجرور في قوله (في هذا الإسناد) وكذا في قوله (بمثله) متعلق بما عمل في المتابع بكسر الباء، ولفظة (في) في قوله (في هذا الإسناد) بمعنى الباء التي للتعدية، وعدل إليها فرارًا من تعلق حرفي جر متماثلين في اللفظ والمعنى بعامل واحد لو قال (بهذا الإسناد بمثله)، واسم الإشارة راجع إلى ما بعد شيخ المتابَع الذي هو ابن جابر، وهو التَّابعي والصحابي، والضمير في (بمثله) عائد إلى المتابَع بفتح الباء المذكور في السند السابق كما هو القاعدة المقررة في اصطلاحات مسلم وكذا في غيره، وهو ابن جابر والمعنى وحدثنا الأوزاعي بهذا الإسناد عن عمير بن هانئ بمثل ما حدث ابن جابر عن عمير بن هانئ، وفائدة هذه المتابعة تقوية السند الأوَّل لأنَّ الأوزاعي أوثق من ابن جابر مع بيان محل اختلافهما في المتن، وهذا السند أيضًا من سداسياته ورجاله كلهم شاميون إلَّا أحمد بن إبراهيم فإنَّه دورقي.
وتقدم لك أن المثل عبارة عن الحديث اللاحق الموافق للسابق في جميع لفظه ومعناه إلَّا فيما استثنى بنحو قوله (غير أنَّه) أي لكن أن الأوزاعي (قال) في روايته لهذا الحديث (أدخله) أي أدخل (الله) سبحانه ذلك القائل (الجنَّة) دار الكرامة (على ما كان) أي مع ما وقع وحصل منه (من عمل) أي سواء كان عمله صالحًا أو سيئًا، أو سواء كان عمله الصالح قليلًا أو كثيرًا (ولم يذكر) الأوزاعي في روايته لفظة (من أي أبواب الجنَّة شاء) كما ذكره ابن جابر.
قال القرطبي: قوله (على ما كان من عمل) أي يُدخله الجنَّة ولا بد سواء كان عمله صالحًا أو سيئًا وذلك بأن يغفر له السيء بسبب هذه الأقوال أو يربي ثوابها على ذلك
(1) في نسخة: (أبواب الجنَّة الثمانية).
50 -
(00) حَدَّثَنَا قُتَيبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيث عَنِ ابنِ عَجْلانَ،
ــ
العمل السيء، وكل ذلك يحصل إن شاء الله تعالى لمن مات على تلك الأقوال، إما مع السلامة المطلقة وأمَّا بعد المؤاخذة بالكبائر على ما قررناه سابقًا اهـ.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث عبادة بن الصَّامت رضي الله تعالى عنه فقال:
(50)
- متا (00)(حدَّثنا قتيبة بن سعيد) بن جميل بفتح الجيم بن طريف الثَّقفيّ مولاهم أبو رجاء البغلاني بفتح الباء وسكون المعجمة نسبة إلى بغلان بلدة بنواحي بلخ، ثقة ثبت من العاشرة، مات سنة (240) أربعين ومائتين عن (90) تسعين سنة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في سبعة أبواب تقريبًا، قال قتيبة (حدَّثنا ليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولى بني فهم من قيس عيلان، أبو الحارث المصري، عالم مصر وفقيهها ثقة ثبت فقيه عالم مشهور من السابعة، ولد يوم الخميس في شعبان سنة (94) أربع وتسعين، ومات في النصف من شعبان سنة (175) خمس وسبعين ومائة، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في خمسة عشر بابًا تقريبًا (عن) محمَّد (بن عجلان) بفتح العين وسكون الجيم القرشي مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة، أبو عبد الله المدني، روى عن محمَّد بن يَحْيَى بن حبان وبكير بن عبد الله بن الأشج وإبراهيم بن عبد الله بن حنين وعامر بن عبد الله بن الزُّبير وعبادة بن الوليد بن عبادة بن الصَّامت وغيرهم، ويروي عنه (م عم) والليث بن سعد ويحيى القطان وابن عيينة وأبو خالد الأحمر وحاتم بن إسماعيل وخالد بن الحارث وروح بن القاسم ومالك ومنصور وشعبة والسفيانان وغيرهم، وروى عنه (م) متابعة وكذا (خ) تعليقًا، وذكره من الضعفاء، ووثقه أحمد وابن معين، وقال في التقريب: "صدوق من الخامسة، إلَّا إنه اختلط عليه أحاديث أبي هريرة، وقال الحاكم أخرج له (م) ثلاثة عشر حديثًا كلها في الشواهد، مات سنة (138) ثمان وثلاثين ومائة، وفي التقريب سنة (148) ثمان وأربعين ومائة.
قال ابن منجويه: روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة والزكاة والحج والبيوع في موضعين والأحكام والجهاد في موضعين والفضائل وفي ذكر الجان، وجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها تسعة أبواب.
قال النواوي: كان عابدًا فقيهًا، وكان له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُفتي، وهو تابعي أدرك أنسًا وأبا الطفيل قاله أبو نعيم، روى عن أنس
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يحيى بن حَبَّانَ، عَنِ ابنِ مُحَيرِيزٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ،
ــ
والتابعين، ومن طرف أخباره أنَّه حملت به أمه أكثر من ثلاث سنين، وقد قال الحاكم: أبو أحمد في كتاب الكُنى محمَّد بن عجلان يعد في التّابعين، ليس هو بالحافظ عنده، ووثقه غيره، وقد ذكره مسلم هنا متابعةً، قيل: إنه لم يذكر له في الأصول شيئًا والله أعلم اهـ.
(عن محمَّد بن يَحْيَى بن حبان) بفتح المهملة وتشديد الموحدة بن منقذ بن عمرو بن مالك بن خنساء بن مبذول الأنصاري المازني أحد بني مازن النجاري أبي عبد الله المدني الفقيه كانت له حلقة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم تابعي سمع أنس بن مالك، روى عن عبد الله بن محيريز وعمه واسع وأبيه وأنس بن مالك والأعرج وعمرو بن سليم وغيرهم، ويروي عنه (ع) وابن عجلان ويحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمرو وعمرو بن يَحْيَى الأنصاري ومالك وإسماعيل بن أميَّة وغيرهم، وقال في التقريب: ثقة فقيه من الرابعة، مات سنة (121) إحدى وعشرين ومائة، روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والبيوع والقدر والجهاد والنكاح، فجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها ثمانية أبواب.
(عن) عبد الله (بن محيريز) بمهملة وراء آخره زاي مصغرًا بن جنادة بن وهب القرشي الجمحي بضم الجيم وفتح الميم بعدها مهملة، من أنفسهم أبي عبد الله المكيِّ كان يتيمًا في بيت أبي محذورة بمكة ثم نزل بيت المقدس، التَّابعي الجليل، سمع جماعة من الصّحابة منهم عبادة بن الصَّامت وأبو محذورة وأبو سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
روى عن الصنابحي في الإيمان، وأبي محذورة في الصَّلاة وأبي سعيد الخدري في النكاح، فجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها ثلاثة فقط، ويروي عنه (ع) ومحمد بن يَحْيَى بن حبان ومكحول والزهري، وثقه العجلي، وقال في التقريب: ثقة عابد من الثالثة مات سنة (99) تسع وتسعين، قال الأوزاعي: من كان مقتديًا فليقتد بمثل ابن محيريز، فإن الله تعالى لم يكن ليضل أمة فيها مثل ابن محيريز، وقال رجاء بن حيوة بعد موت ابن محيريز: والله إن كنت لأعد بقاء ابن محيريز أمانًا لأهل الأرض.
(عن) عبد الرحمن بن عُسيلة بضم العين وفتح السِّين المهملتين الشامي المُرادي أبي عبد الله (الصنابحي) بضم الصاد المهملة نسبة إلى صنابح بطن من مراد، التَّابعي الجليل، رحل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقبض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو في
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أنَّهُ قَال: دَخَلتُ عَلَيهِ وَهُوَ فِي الْمَوتِ فَبَكَيتُ،
ــ
الطَّريق وهو بالجحفة قبل أن يصل بخمس ليال أو ست، فدخل المدينة وقد استخلف أبو بكر فأقام بها مدة فسمع أبا بكر الصِّديق وخلائق من الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم انتقل إلى الشام فسكنها، وقد يشتبه على غير المشتغل بالحديث الصنابحي هذا بالصنابح بن الأعسر الصحابي رضي الله عنه، قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة، وكان كثير المناقب، وقال في التقريب: ثقة من كبار التّابعين، مات في خلافة عبد الملك.
روى عن عبادة بن الصَّامت في الإيمان والحدود، ويروي عنه (ع) وعبد الله بن محيريز وأبو الخير مرثد بن عبد الله (عن عبادة بن الصَّامت) الأنصاري الخزرجي أبي الوليد الدّمشقيُّ، وهذا السند من سباعياته، ورجاله اثنان منهم مدنيان واثنان شاميان وواحد مكي وواحد مصري وواحد بغلاني، ومن لطائفه أنَّه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان وابن حبان وابن محيريز والصنابحي، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة الصنابحي لجنادة بن أميَّة في رواية هذا الحديث عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه، وفائدة هذه المتابعة بيان أكثرة طرقه (أنَّه) أي أن الصنابحي (قال دخلت) يومًا (عليه) أي على عبادة بن الصَّامت (وهو) أي والحال أن عبادة بن الصَّامت (في) مقدمات (الموت) وسكراته، قال الصنابحي (فبكيت) أنا لمَّا رأيت لما نزل به تأسفًا على فراقه لنا بالموت وجملة القول في قوله:(قال دخلت) صفة لمحذوف متعلق بخبر أن المحذوف تقديره أنَّه حدث بحديث قال فيه: دخلت على عبادة بن الصَّامت في حال سكراته فبكيت لما رأيته في تلك الحالة
…
إلخ، قال النواوي: وأمثال هذا التركبب كثير في كلامه، وفيه حذف تقديره عن الصنابحي أنَّه حدث عن عبادة بن الصَّامت بحديث قال فيه: دخلت عليه
…
إلخ، ومثله ما سيأتي قريبًا في كتاب الإيمان في حديث:"ثلاثة يؤتون أجرهم" قال مسلم رحمه الله تعالى حدَّثنا يَحْيَى بن يَحْيَى قال أنا هشيم عن صالح بن صالح عن الشعبي قال: رأيت رجلًا سأل الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن من قبلنا من أهل خراسان ناسًا يقولون كذا وكذا فقال الشعبي حدثني أبو بردة عن أبيه فهذا الحديث من النوع الذي نحن فيه، فتقديره قال قال هشيم حدثني صالح عن الشعبي بحديث قال فيه صالح رأيت رجلًا سأل الشعبي، ونظائر هذا كثير في كلامه سننبه على كثير منها في مواضعها إن شاء الله تعالى والله أعلم.
فَقَال: مَهْلًا لِمَ تَبْكِي؟ ! فَوَاللهِ؛ لَئِنِ اسْتُشهِدتُ .. لأَشْهَدَنَّ لَكَ، وَلَئِنْ شُفِّعتُ .. لأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنِ استَطَعْتُ .. لأَنْفَعَنَّكَ، ثُمَّ قَال: وَاللهِ؛ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَكُم فِيهِ خَيرٌ .. إلا حَدَّثتُكُمُوهُ، إلا حَدِيثًا وَاحِدًا
ــ
(فقال) عبادة لما رأى بكائي (مهلًا) بسكون الهاء أي أمهلني مهلًا يا صنابحي وأنظرني إنظارًا لأسألك عن سبب بكائك على فقال (لم تبكي) بكسر اللام وفتح الميم، وتبكي مضارع مرفوع بضمة مقدرة للثقل؛ أي لأي شيء تبكي، ولأي سبب تبكي، فاللام حرف جرٍّ و (مَ) استفهامية حذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، فرقًا بينها وبين ما الموصولة.
وفي نسخ شرح الأبي (لا تبكِ) بجزم الفعل بلا الناهية، قال الأبي: يحتمل بكاؤه لما رأى به من كرب الموت، أو لأنَّه لفقد الانتفاع به، والأظهر أنَّه لذكره القدوم على الله تعالى لأنَّه المناسب لتسليته بما ذكر (فإن قلت) إنه لو بكى لشيء مما ذكر لم ينهه لأنَّ البكاء لشيء منها واجب أو مندوب (قلت) ليست لا للنهي؛ لأنَّه لم يبك بصوتٍ حتَّى ينهاه وإنَّما هي لبيان العاقبة كما هي في قوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ثم قال (فـ) ـأقسمت لك (و) حلفت بـ (ـالله) الذي لا إله غيره (لئن استُشْهِدتُ) أي لئن طُلب مني الشهادة لك عند الله سبحانه بالإيمان والعمل الصالح (لأشهدن لك) عند الله سبحانه يوم القيامة (ولئن شُفعت) أي ولئن أُذن لي في الشفاعة لك عند الله يوم القيامة، أو قبلت شفاعتي فيك (لأشفعن) أي لأطلبن (لكّ) الخير والنجاة عند الله تعالى، والشفاعة طلب الخير للغير من الغير (ولئن استطعت) وقدرت على النفع لك، بأي شيء من المنافع في الدُّنيا والآخرة، فالسين والتاء فيه زائدتان، أي ولئن أطقت على النفع لك (لأنفعنك) أي لأجتهدن في تحصيل النفع لك في الدين والدنيا والآخرة، ولئن حييت فأنا مستعد لمنافعك وإن مُتُّ فأنا فرط لك فلا تبكين يا أخي (ثم قال) عبادة (والله) أي أقسمت لك بالله الذي نفسي بيده إما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما شيء من الأحاديث التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (لكم) أيها الحاضرون عندي (فيه) أي في ذلك الحديث (خيرٌ) أي نفع إما في الدين أو في الدُّنيا (إلَّا حدثتكموه) وأخبرتكموه (إلَّا حديثًا واحدًا) لم أحدثكموه خوفًا من اتكالكم عليه، وكلمة
وَسَوفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ اليَومَ وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفسِي، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ شَهِدَ: أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ .. حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ النَّارَ"
ــ
سوف في قوله (وسوف أحدثكموه اليوم) بمعنى السِّين التي للاستقبال القريب؛ أي وسأحدثكموه اليوم أي في هذا الزمن الحاضر (و) لا أمهله عنكم لأنَّه (قد أحيط بنفسي) وروحي؛ أي قد أحاطت بجسدي مقدمات الموت واشتملت عليه وأحاطت بروحي ملائكة الموت لقبضها، فأنا قرُبتُ من الموت ويئست من الحياة والمعافاة فسأخبركموه الآن تأثمًا من كتمان العلم.
وكلمة قولهم (وقد أحيط به) في الأصل تقال في الرجل يجتمع عليه أعداؤه فيقصدونه فيأخذون عليه من كل الجوانب بحيث لا يبقى له في الخلاص مطمع فيقال أحاطوا به أي أطافوا به من جوانبه ومقصوده هنا قرب موتي.
وقوله (ما من حديث) إلى آخره، قال الأبي نفي الخير عن الأحاديث الذي دل عليه المفهوم إنَّما هو بالنسبة إليهم كما ذكر وإلا ففي كل حديث خير لا محالة قال القاضي عياض فيه دليل على أنَّه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل أحد وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه حد من حدود الشريعة، قال ومثل هذا عن الصّحابة رضي الله عنهم كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل ولا تدعوا إليه ضرورة أولًا تحمله عقول العامة أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والأمراء وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم والله أعلم، ثم قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة كونه (يقول من شهد) وأقر بلسانه واعتقد بقلبه (أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله) أدخله الله الجنَّة و (حرم الله) سبحانه (عليه النَّار) أي حرمه الله تعالى على النَّار فلا يدخلها ولا تحرقه.
ففي العبارة قلب أو حذف مضاف تقديره حرم الله عليه دخول النَّار، فهذه الرِّواية وإن ساقها للمتابعة تدل بمنطوقها على الجزء الأخير من الترجمة كما تدل عليه الرِّواية الأولى بمفهومها، ويستفاد من هذه الرِّواية وجوب رواية حديث فيه منفعة ومصلحة للناس، إما في الدين أو في الدُّنيا، وكتمان حديث ليس لهم فيه خير أو لا تفهمه عقولهم لئلا يفتتنوا به فيضلوا أوفيه مضرة كما مر آنفًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب من الأحاديث ثلاثة:
الأوَّل حديث عثمان بن عفَّان، وغرضه يذكره الاستدلال به على الترجمة، وذكر فيه متابعة. واحدة.
والثاني حديث أبي هريرة، وغرضه يذكره الاستشهاد لحديث عثمان، وذكر فيه متابعة واحدة.
والثالث حديث عبادة بن الصَّامت، وغرضه يذكره الاستشهاد ثانيًا لحديث عثمان، وذكر فيه متابعتين كما أشرنا إلى ذلك كله فيما سبق.
* * *