المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(فصل) في بيان دقائق هذا السند ولطائفه - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌ كِتَابُ الإِيمَانِ

- ‌1 - بَابُ بَيَان الإِيمَان وَالإِسْلامِ وَالإِحْسَان، وَوُجُوبِ الإِيمَان بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالى، وَبَيَان الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ التَّبَرِّي مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ، وَإِغْلاظِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ

- ‌(فصل) في بيان دقائق هذا السند ولطائفه

- ‌ترجمة عمر بن الخطاب وولده عبد الله رضي الله عنهما

- ‌2 - بَابُ عَدَمِ وُجُوبِ مَا عَدَا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ وَمَا عَدَا صِيَامَ رَمَضَانَ، وَمَا عَدَا الزَّكَوَاتِ المَفْرُوضَةَ

- ‌3 - بَابُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَا عِنْدَهُ عَلَى المُحَدِّثِ؛ ليسْتَثْبِتَ فِيهِ، وَاكْتِفَاءِ الحَاضِرِينَ بِسُؤالِ البَادِي الوَافِدِ الإِمَامَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إِذَا هَابُوهُ

- ‌4 - بَابُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيهِ، وانْتَهَى عَمَّا حُرِّمَ عَلَيهِ .. دَخَلَ الجَنَّةَ

- ‌5 - بَابُ مَنْ حَرَّمَ الحَرَامَ، وَأَحَلَّ الحَلَالَ، وَفَعَلَ مَا تَمَكَّنَ مِنَ الوَاجِبَاتِ .. دَخَلَ الجَنَّةَ

- ‌6 - بَابُ بَيَانِ مَبَانِي الإِسْلَامِ

- ‌7 - بَابُ وُفُودِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمْرِهِمْ بِمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ مُنْكَرَاتِهِ، وَأَمْرِهِمْ بِحِفْظِهَا وَتَبْلِيغِهَا إِلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَجَوازِ مَدْحِ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ

- ‌ فائدة في المختلِطين

- ‌8 - بَابُ بَيَانِ أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الإِسْلامِ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَأَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ

- ‌(فصل في جمع ما يستفاد من هذا الحديث)

- ‌9 - بَابُ الأَمْرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالى، وَيُقِرُّوا بِرِسَالةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. . فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالهُ إِلَّا بِحَقِّهِمَا

- ‌10 - بَابُ صِحَّةِ إيمَانِ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ مِنَ الْكُفَّارِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَالنَّهْي عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَكَوْنِ الْهِدَايَةِ بِيَدِ اللهِ تَعَالى لَا بِيَدِ أَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَو نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ مَلَكًا مُقَرَّبًا

- ‌11 - بَابُ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالى عَالِمًا بِهِ غَيرَ شَاكٍّ فِيهِ .. دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَوَّلًا: إِنْ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الكَبَائِرِ، أَوْ عَمِلَهَا وَتَابَ عَنْهَا، أَوْ أَدْرَكَهُ الْعَفْوُ، أَوْ بَعْدَ عُقُوبَتِهِ عَلَيهَا إِنْ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْعَفْوُ مِنَ اللهِ تَعَالى وَحَرَّمَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى النَّارِ

- ‌12 - بَابُ بَيَان حَقِّ اللهِ سبحانه وتعالى عَلَى الْعِبَادِ، وَحَقِّهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالى، وَتَبْشير مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالى بالتَّوحِيدِ بِالْجَنَّةِ، وَتَرْكِهِ خَوْفًا مِنِ اتِّكالِهِمْ عَلَى مُجَرَّدِ التَّوحِيدِ

- ‌13 - بَابُ الدَّليلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتينِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتيقَان الْقَلْبِ

- ‌14 - بَابُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ فِي إِسْلَامِ الشَّخْصِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَمَالِ إيمَانِهِ، وَصِحَّةِ إِسْلَامِهِ

- ‌15 - بَابُ بَيَانِ صِفَةِ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَان وَحَلاوَتَهُ

- ‌16 - بَابُ بَيَان عَدَدِ شُعَبِ الإِيمَان، وَأَفْضَلِهَا، وَأَدْنَاهَا، وَأنَّ الحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنْهَا وبيان فضيلته

- ‌17 - بَابُ فِي مَدْحِ الْحَيَاءِ، وَامْتِنَاعِ مُقَاوَمَةِ النَّصِّ بِكَلامِ الحُكَمَاءِ

- ‌18 - بَابُ الأَمْرِ بِالإِيمَانِ ثُمَّ بِالاسْتِقَامَةِ

- ‌19 - بَابٌ أَيُّ خِصَالِ الإِسْلامِ خَيرٌ؟ وَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ

- ‌20 - بَابُ بَيَان الخِصَالِ الَّتِي يَجِدُ بِهِنَّ المَرْءُ حَلاوَةَ الإِيمَانِ

- ‌21 - بَابُ عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُحِبَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَحَبَّةً أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

- ‌22 - بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ لَا يَكْمُلُ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ، أَوْ جَارِهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيرِ

- ‌23 - بَابُ عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ يَخَافُ جَارُهُ ضَرَرَهُ

- ‌24 - بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الصَّمْتَ إِلَّا عَنِ الْخَيرِ، وَإِكْرَامَ الْجَارِ وَالضَّيفِ .. مِنَ الإِيمَانِ

- ‌25 - بَابُ وُجُوب إِزالةِ الْمُنْكَرِ بِالْقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ وَأنَّ إِزَالتَهُ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌26 - بَابُ مُجَاهَدَةِ خُلُوفِ السَّوءِ، وَكَوْنِ مُجَاهَدَتِهِمْ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌27 - بَابُ نِسْبَةِ الإِيمانِ وَالْحِكْمَةِ إِلَى الْيَمَنِ وَجَعْلِ الْقَسْوَةِ وَغِلَظِ الْقُلُوبِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ

- ‌28 - بَابُ كَوْنِ التَّحابِّ فِي اللَّهِ تَعَالى مِنَ الإيمَانِ، وَبَيَانِ سَبَبِهِ

- ‌29 - بَابُ النُّصحِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌30 - بَابُ مُبَايَعَةِ الإِمَامِ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَكَونهَا مِنَ الإِيمَانِ

- ‌31 - بَابُ بَيَانِ نُقْصَانِ الإِيمَان بِارْتْكَابِ الْمَعَاصِي، وَنَفْيِهِ عَنْ مُرْتَكِبِهَا حَال تَلَبُّسِهِ بِهَا عَلَى مَعْنَي نَفْيِ كَمَالِهِ

- ‌32 - بَابُ بَيَانِ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ عَلامَاتِ الإِيمَانِ

- ‌33 - بَابُ بَيَان حُكْمِ إِيمَانِ مَنْ قَال لأخِيهِ الْمُسْلِمِ: يَا كَافِرُ

- ‌34 - بَابُ حُكْمِ إِيمَانِ مَنِ انْتَسَبَ لِغَيرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَإِيمَانِ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ مَا لَيسَ لَهُ

- ‌35 - بَابُ حُكْمِ سِبَابِ الْمُسْلِمِ وَقِتَالِهِ

- ‌36 - بَابُ الأمْرِ بِلزومِ الإيمَانِ وَالتَّمَسُّكِ بِشَرَائِع الإِسْلامِ، والنَّهْيِ عَنِ الارْتدَادِ عَنِ الإِسْلامِ، وَالتَّشَبُّهِ بِالْكفَّارِ

- ‌34 (*) - بَابُ حُكْمِ إيمَانٍ مَنْ طَعَنَ في النَّسَبِ وَنَاحَ عَلَى الْمَيِّتِ

- ‌37 - بَابُ حُكْمِ إيمَانِ الْعَبْدِ الآبِقِ

- ‌38 - بَابُ حُكْمِ إيمانِ مَنْ قَال مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا

- ‌39 - بَابُ بَيَانِ أَنَّ عَلامَةَ الإِيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وَأَنَّ عَلامَةَ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ

- ‌40 - بَابٌ في بَيَانِ أَنَّ حُبَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ آيَةُ الإِيمَانِ، وَبُغْضَهُ آيَةُ النِّفَاقِ

- ‌39 (*) - بَابُ مَا فِي النِّسَاءِ مِنْ نُقْصَانِ الإِيمَانِ وَالْعَقْلِ بِنَقْصِ الطَّاعَاتِ، وإِطْلاقِ لَفْظِ الْكفْرِ عَلَى غَيرِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالى، وَسُؤَالِ الْعَالِمِ عَمَّا أَشْكَلَ مِنْ فَتْوَاهُ

- ‌فصل في الأحكام التي تستفاد من هذا الحديث

- ‌40 - بَابُ كَوْنِ الطَّاعَةِ لِأَمْرِ اللهِ وَالْخُضُوع لَهُ مِنَ الإِيمَانِ الَّذِي يُوجِبُ الْجَنَّةَ، وَكَوْنِ الْعِصْيَانِ لِأَمْرِهِ وَالتَّكَبُّرِ عَنِ السُّجُودِ لَهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ

- ‌41 - بَابُ إِيمَانِ مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ جَحْدًا أَوْ تهَاوُنًا

الفصل: ‌(فصل) في بيان دقائق هذا السند ولطائفه

حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنِ ابْنِ بُرَيدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ

ــ

عشرة ومائة في آخرها، وهو أسن من يحيى بن سعيد بشهرين، وقال ابن منجويه: روى عنه الإمام مسلم في (1) كتاب الإيمان وفي (2) كتاب الصلاة في موضعين وفي (3) الجنائز و (4) الزكاة و (5) البيوع و (6) الحدود و (7) الديات و (8) الضحايا و (9) الدعاء و (10) الرحمة فجملة الأبواب التي روى فيها الإمام مسلم عن معاذ بن معاذ عشرة تقريبًا، ومن لطائف هذا السند أن فيه رواية بصري عن بصري وولد عن والد، وغرضه بهذا التحويل بيان متابعة معاذ بن معاذ لوكيع في رواية هذا الحديث عن كهمس وفائدة هذا التحويل مجرد بيان كثرة طرقه لأن كلًّا من المُتابع والمتابَع ثقة، قال معاذ بن معاذ (حدثنا كهمس) بن الحسن (عن) عبد الله (بن بريدة) أتى بهذا الراوي لبيان لفظ رواية عبيد الله فإنه لم يصرح لفظ عبد الله وتحرزًا من الكذب عليه وإلا فلا حاجة إلى ذكر ما بعد شيخ المتابع كما هو القاعدة عندهم وقوله في السند الأول (عن يحيى بن يعمر) حشو لا حاجة إلى ذكره كما سيأتي جميع ذلك في الفصل الآتي.

(فصل) في بيان دقائق هذا السند ولطائفه

(واعلم) أن مسلمًا رحمه الله تعالى سلك في هذا الجامع طريقة في نهاية الحسن في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز البديع دالة على غزارة علمه ودقة نظره وحذقه وذلك يظهر في الإسناد تارة، وفي المتن تارة وفيهما تارة، فينبغي للناظر في كتابه أن يتفطن لما ذكرته، فإنه يرى عجائب من النفائس وغرائب من الدقائق، وبدائع من اللطائف تقر بآحاد أفرادها عينه وينشرح لها صدره وتنشطه للاشتغال بهذا العلم.

(واعلم) أيضًا أنه لا يعرف أحد شارك مسلمًا في هذه النفائس التي يشير إليها من دقائق علم الإسناد، وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني فكتاب مسلم قد اختص بلطائف من علم الإسناد وزوائد يمتاز بها تجده يتحراها فمنها: أنه قال أولًا: حدثني أبو خيثمة ثم قال في الطريق الآخر وحدثنا عبيد الله بن معاذ ففرق لورعه واحتياطه بين حدثني وحدثنا لأن الأول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ، والثاني فيما سمعه منه مع غيره وفي ذلك تنبيه على القاعدة المعروفة عند أهل هذه الصنعة التي ذكرناها سابقًا وهي أنه يقول فيما سمعه من لفظ الشيخ وحده حدثني، وفيما سمعه منه

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مع غيره حدثنا، وفيما قرأه وحده على الشيخ أخبرني، وفيما قُرئ بحضرته في جماعة على الشيخ أخبرنا، وهذا اصطلاح معروف عندهم وهو مستحب عندهم، ولو تركه وأبدل حرفًا من ذلك بآخر صح السماع، ولكن ترك الأولى.

ومنها: أنه قال في الطريق الأول: حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر، ثم في الطريق الثاني أعاد الرواية عن كهمس عن ابن بريدة عن يحيى فقد يقال هذا تطويل لا يليق بإتقان مسلم واختصاره، فكان ينبغي أن يقف في الطريق الأول على وكيع ويجمع معاذًا ووكيعًا في الرواية عن كهمس عن ابن بريدة والجواب عنه أن مسلمًا رحمه الله تعالى لدقة نظره وعظيم إتقانه وشدة احتياطه وخوفه من الله تعالى رأى أن الاختصار هنا يحصل به خلل، وذلك أن وكيعًا في هذا السند قال عن كهمس ومعاذًا قال حدثنا كهمس وقد عُلم مما قدمناه في باب المعنعن أن العلماء قد اختلفوا في الاحتجاج بالمعنعن، ولم يختلفوا في المتصل بحدثنا، فاتى مسلم رحمه الله تعالى بالروايتين كما سمعنا ليُعرف المتفق عليه من المختلف فيه وليكون راويًا باللفظ الذي سمعه ولهذا في كتابه نظائر.

قلت: وهذا من أظهر دليل على شدة ورعه رحمه الله تعالى، فإن مذهبه على ما سبق أن المعنعن والمتصل بلفظ حدثنا واحد، بل قدَّم الإجماع على ذلك فيما سبق ومع هذا لم يتركه الورع أن يبدل لفظ الراوي بما هو بمعناه عنده فلله دره ما أزكاه من ورع والله أعلم.

ومنها أنه في رواية وكيع قال عن عبد الله بن بريدة، وفي رواية معاذ قال عن ابن بريدة ولم يسمه فلو أتى بأحد اللفظين عنهما معًا حصل الخلل فإنه إنَّ قال ابن بريدة لم يُدْرَ اسمُه، وهل هو عبد الله أو أخوه سليمان بن بريدة، وإن قال عبد الله بن بريدة كان كاذبًا على معاذ فإنه ليس في روايته عبد الله.

وأما قوله في الراوية الأولى عن يحيى بن يعمر فلا يظهر لذكره أولًا فائدة، وعادة مسلم وغيره في مثل هذا أن لا يذكروا يحيى بن يعمر في الطريق الأول لأن الطريقين اجتمعا في ابن بريدة ولفظهما عنه بصيغة واحدة وهي العنعنة.

قال النووي: إلَّا أني رأيت في بعض النسخ في الطريق الأولى عن يحيى فحسب

ص: 18

قَال: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ،

ــ

وليس فيها ذكر ابن يعمر، فإن صح هذا فهو مزيل للاعتراض الذي ذكرناه، فإنه يكون فيه فائدة كما قررناه في ابن بريدة والله أعلم.

ومنها قوله (وحدثنا عبيد الله بن معاذ وهذا حديثه) فهذه عادة لمسلم رحمه الله تعالى، وقد أكثر منها وقد استعملها غيره قليلًا، وهي دالة على تحقيقه وشديد ورعه واحتياطه ومقصوده بيان أن الروايتين اتفقتا في المعنى، واختلفتا في بعض الألفاظ، وهذا لفظ فلان، والآخر بمعناه والله أعلم.

وأما قوله (ح) بعد يحيى بن يعمر في الرواية الأولى فهي حاء التحويل من إسناد إلى إسناد آخر، وقد قدمنا ما قيل فيها مع ردنا عليه، هذا ما يتعلق بالإسناد.

(قال) يحيى (كان أول من قال) وخاض (في) نفي (القدر بالبصرة معبد الجهني) وقوله (أول) بالنصب خبر كان مقدم على اسمها، وقال بمعنى خاض وقوله (في القدر) على حذف مضاف تقديره في نفي القدر وإنكاره، والمعنى كان معبد الجهني أول من قال بنفي القدر، وخاض فيه فابتدع وخالف الصواب الذي عليه أهل الحق، قال الأبي: قيل إنَّ معبدًا هو أول من قال بالقدر، وهو ظاهر ما للآمدي، وقيل بل قيل قبله بمكة وهو ظاهر ما للثعالبي فإنه قال احترقت الكعبة وابن الزبير محصور بمكة من قبل يزيد بن معاوية، وهو أول يوم قيل فيه بالقدر، فقال أناس: احترقت بقدر الله تعالى، وقال أناس: لم تحترق بقدره، وكان سبب احتراقها أن أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون النار حول الكعبة فطارت شرارة فأحرقت الأستار فاحترقت، وقيل إنَّ بعض أصحابه رفع نارًا على رمح فطارت الشرارة فاحترقت، وقال الأبي: فقوله بالبصرة على الأول في موضع الحال من معبد، أي كان معبد أول من قال بنفي القدر حالة كونه بالبصرة، وعلى الثاني متعلق بقال، والباء بمعنى في الظرفية، والتقدير أول من قال في البصرة بنفي القدر معبد.

وقوله (بالقدر) القدر مصدر قَدَرْتُ الشيء بتخفيف الدال أقدره بكسرها وأقدره بضمها من بابي ضرب ونصر قدرًا بفتح أوله وسكون ثانيه وقدرًا بضمه وسكونه إذا أحطت بمقداره، ويقال فيه قدّرت أقدّر تقديرًا مشدد الدال للتضعيف، فإذا قلنا إنَّ الله تعالى قدر الأشياء فمعناه أنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه فلا مُحْدَث في العالم العلوي والسفلي إلَّا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من دين

ص: 19

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

السلف الماضين، والذي دلت عليه البراهين، وقد حكى أرباب المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ سبحانه عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد وقوعها، وقالوا: لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها وهو عبثٌ، وهو على الله سبحانه وتعالى محال.

قال الشيخ رحمه الله تعالى: وقد روي عن مالك أنه فسر مذهب القدرية بنحو ذلك، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة وهو الذي أنكره ابن عمر، ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك فإنه جحد معلومًا من الشرع ضرورة ولذلك تبرأ ابن عمر منهم، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم، وأنهم كما قال تعالى فيهم:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 45] وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تسمى السُّكَيتية، وقد تُرك اليوم فلا يعرف من ينسب إليه من المتأخرين من أهل البدع المشهورين.

والقدرية اليوم مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، ومعنى القدر عند القائلين به اليوم أن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم بقدرتهم ومشيئتهم على جهة الاستقلال وأنها ليست مقدورة لله تعالى، ولا مخلوقة له، وهو مذهب مبتدع باطل بالأدلة العقلية والسمعية المذكورة في كتب أئمتنا المتكلمين اهـ قرطبي.

(والبصرة) بفتح الباء وضمها وكسرها ثلاث لغات حكاها الأزهري والمشهور الفتح، ويقال لها البُصيرة بالتصغير، قال صاحب المطالع: ويقال تدمر، ويقال لها المؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أوائل الدهر، والنسبة إليها بصري، بفتح الباء وكسرها وجهان مشهوران، قال السمعاني: يقال البصرة قبة الإسلام وخزانة العرب بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناها سنة سبع عشرة (17) من الهجرة وسكنها الناس سنة ثماني عشرة، ولم يُعبد الصنم قط على أرضها هكذا كان يقول لي أبو الفضل عبد الوهاب بن أحمد بن معاوية الواعظ بالبصرة، قال أصحابنا: والبصرة داخلة في أرض سواد العراق، وليس لها حكمه والله أعلم اهـ نووي.

(معبد) معبد هذا هو معبد بن عبد الله بن محمد، وقيل معبد بن خالد والصحيح أن لا يُنسب، وهو بصري كان من جلساء الحسن، قتله الحجاج بن يوسف صبرًا، قال الأبي: إنما قتل وصلب بسبب هذه البدعة اهـ، روى عن عمر مرسلًا، وعن عمران،

ص: 20

فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّينِ أَوْ مُعْتَمِرَينِ،

ــ

ويروي عنه قتادة ومالك بن دينار وعوف الأعرابي، قال أبو حاتم: وكان صدوقًا في الحديث ورأسًا في القدر، قدم المدينة فأفسد فيها ما شاء الله تعالى، وقال يحيى بن معين هو ثقة اهـ قرطبي (الجهني) بضم الجيم أي المنسوب إلى جهينة ولكن لم يكن جُهنيا، وإنما نزل بجهينة فنسب إليها، وجهينة اسم قبيلة من قضاعة لأنه جهينة بن سود بضم السين بن أسلم بضم اللام بن الحاف بن قضاعة نزلت الكوفة، وبها محلة تنسب إليهم وبقيتهم نزلت البصرة، قال السمعاني: وممن نزل جهينة فنسب إليهم معبد الجهني ثم اختلفوا في قضاعة فقال الأكثر: إنه ابن معد بن عدنان، وعدنان من ذرية إسماعيل عليه السلام، وقيل هو ابن مالك بن حمير، وحمير يمن، واليمن ليست من ذرية إسماعيل لأن يمنًا هو يعرب بن قحطان بن عبد الله بن هود عليه السلام وإنما سُمي يمنًا لقول هود عليه السلام له أنت أيمَنُ وَلَدَي نَقِيبَةَ، ونقيبة: اسم زوجة هود، لها منه ولدان، فالعرب عربان: يمينية وإسماعيلية، ومن يجعل العرب كلها من إسماعيل يقول في يمن إنه ابن قيدر بن إسماعيل، والصحيح أنه ابن قحطان، واحتج من قال إنه ابن معد بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قضاعة فقال: "هو ابن معد" وكان بكره، وبقول زهيرٍ:

قضاعية أو أختها مضرية

فجعل قضاعة ومضر أخوين، ومضر هو ابن نزار بن معد، واحتج من قال إنَّه ابن مالك بحديث عقبة بن عامر الجهني قال: قلت ممن نحن يا رسول الله؟ قال: "من مالك بن حمير" وبقول أبي مريم الصحابي:

نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر

قضاعة بن مالك بن حمير

وقد تعارض القولان في قضاعة، وذكر ابن الكلبي ما يُوفق بينهما فقال: فارق مالك بن حمير زوجته عُكرة وهي حامل منه فتزوجها معد وقد ولدت قضاعة، وقيل ولدته على فراشه فنسب إليه اهـ الأبي.

قال يحيى بن يعمر (فانطلقت) أي ذهبت (أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري) أي المنسوب إلى حمير أبي قبيلة باليمن، أي خرجنا من البصرة إلى مكة حالة كوننا (حاجين) أي قاصدين الحج (أو) قال (معتمرين) أي قاصدين العمرة، وأكد ضمير

ص: 21

فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ فِي الْقَدَرِ،

ــ

الفاعل في انطلقت بقوله: أنا ليصح عطف ما بعده عليه كما قال ابن مالك في الخلاصة:

وإن على ضمير رفع متصل

عطفت فافصل بالضمير المنفصل

أي لأن المتصل المرفوع كالجزء مما اتصل به، فلو عطف عليه كان كالعطف على جزء الكلمة فإذا أكد بالمنفصل دل إفراده مما اتصل به بالتأكيد على انفصاله في الحقيقة فحصل له نوع استقلال، ولم يجعل العطف على هذا التوكيد لأن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فكان يلزم كون المعطوف تأكيدًا للضمير المتصل وهو باطل اهـ صبان.

وأما حميد بن عبد الرحمن فهو الحميري بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم وفتح الياء منسوب إلى حمير بن سبأ بن يشجب البصري، روى عن أبي بكرة وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم وثلاثة من ولد سعد وغيرهم، ويروي عنه (ع) وابنه عبيد الله ومحمد بن المنتشر وعبد الله بن بريدة ومحمد بن سبرين وأبو بشر وأبو التياح، وداود بن أبي هند وغيرهم قال العجلي: بصري ثقة، وقال في التقريب: ثقة فقيه من الثالثة، روى عنه المؤلف بواسطة في كتاب الإيمان وفي الصوم والوصايا واللباس قوله (حاجين أو معتمرين) هكذا في الرواية الصحيحة بـ (ـأو) التي للشك فكأنه عرض ليحيى شك في حالهما، هل كانا حاجين أو كانا معتمرين، وبأنه وقع في بعض النسخ حاجين ومعتمرين بالواو الجامعة على أنهما كانا قارنين وفيه بُعدٌ والصحيح الأول والله أعلم اهـ من المفهم، قال يحيى بن يعمر (فقلنا) أي فقلت أنا وحميد بن عبد الرحمن أي قال أحدنا للآخر (لو لقينا) أي ليت لقاءنا ورؤيتنا (أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود لنا وقوله (فسألناه) أي سألنا ذلك الأحد (عما يقول هولاء) أي عن حكم ما يقول هؤلاء المبتدعة الظاهرة في البصرة (في) شأن (القدر) من نفيه وإنكاره، هل هو مذهب صحيح أم لا، والمعنى نتمنى لقاءنا واحدًا ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسؤالنا إياه عن حكم ما يقولون في القدر من نفيه هل له أصل صحيح أم لا؟

فلو هنا للتمني، ويصح كونها شرطية جوابها قوله فسألناه، والفاء زائدة في جوابها

ص: 22

فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ (1) دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلامَ إِليَّ،

ــ

(فوفق) بضم الواو وكسر الفاء المشددة (لنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، قال صاحب التحرير معناه: جُعل عبد الله بن عمر وفقًا لنا أي موافقًا مصادفًا لنا وهو من الموافقة التي هي كالالتحام، يقال: أتانا لتيفاق الهلال وميفاقه أي حين أهلَّ لا قبله ولا بعده، وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام وفي مسند أبي يعلى الموصلي فوافق لنا بزيادة ألف والموافقة المصادفة اهـ نووي بتصرف.

قدر لنا موافقة عبد الله بن عمر ومصادفته والاجتماع معه بغتة حالة كون عبد الله (داخلًا المسجد) الحرام (فـ) ـلما رأيناه (اكتنفته أنا) أي جئت أنا عبد الله بن عمر من إحدى كنفيه وناحيتيه وجهتيه (و) اكتنفه (صاحبي) أي جاءه صاحبي من كنفه وجانبه الآخر وأكد الضمير المتصل بالمنفصل ليصح العطف عليه كما مر قريبًا يعني صرنا في ناحيتيه أي بجانبيه ثم فسر بقوله جاءه (أحدنا عن) جهة (يمينه و) جاءه (الآخر عن) جهة (شماله) وكنفا الطائر جناحاه وفي هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به احترامًا له وتأدبًا معه.

قال القرطبي: مشيا معه كذلك لأنها مشية المتأدب مع من يعظَّم لأنهما لو مشيا أمامه منعاه المشي ولو مشيا من جهة واحدة كلفاه النظر إليهما وكانت هذه الهيئة أحسن ما أمكنهما.

قال السنوسي: (قلت) إنما يتكلف النظر إليهما لو كانا يكلمانه معًا بل الظاهر أنهما اكتنفاه ولم يكونا من جهة واحدة لئلا يفوت المتطرف منهما سماع صوته لبعده. اهـ

قال يحيى بن يعمر (فظننت أن صاحبي) ورفيقي حميد بن عبد الرحمن (سيكل الكلام) أي يفوض شأن المكالمة مع عبد الله بن عمر وسؤاله عما يقول هؤلاء في القدر (إلي) أي إلى نفسي أي حسبت أن صاحبي يسكت ويفوض الكلام مع عبد الله بن عمر إلي ويتركه لي لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني فقد جاء عنه رواية لأني كنت أبسط لسانًا منه. اهـ نووي.

وهذا اعتذار منه عن توهم اعتراض ينسب إليه من عدم المبالاة بصاحبه واستئثار

(1) في النسخة التركية: (عبد الله بن عمر بن الخطاب).

ص: 23

فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1)؛ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ

ــ

نفسه عليه بالمسابقة إلى الكلام فبين وجه اعتذاره عن ذلك، وذلك أنه علم من صاحبه أنه يأكل الكلام إليه إما لكونه أسن منه أو لكونه أحسن منه سؤالًا وأبلغ بيانًا وأبسط لسانًا، وإما لحياءٍ يلحق صاحبه يمنعه من السؤال، وإما إيثارًا له والله أعلم. اهـ قرطبي مع زيادة.

قال يحيى بن يعمر (فقلت) أنا لعبد الله بن عمر مخاطبًا له بكنيته احترامًا له وتعظيمًا (يا أبا عبد الرحمن) كنية عبد الله بن عمر.

وفي اقتصاره على الكنية دليل على ما كان عليه السلف من الاقتصاد في كلماتهم وترك الإطراء والمدح وإن كان حقًّا، فقد كان ابن عمر من أعلم الناس وأفضلهم، وابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ومع ذلك فلم يمدحوه بشيء من ذلك مع جلالته، ولا أطروه محاسبة منهم لأنفسهم على ألفاظهم، واكتفاء بما يُعلم من فضائل الرجل عن القول والمدح الذي يخاف منه الفتنة على المادح والممدوح.

(إنه) أي إنَّ الشأن والحال (قد ظهر قبلنا) أي في ناحيتنا وجانبنا في البصرة (ناس) أي طائفة من المبتدعة أي فشا مذهبهم وانتشر في البصرة وهو من الظهور الذي يضاد الخفاء (يقرؤون القرآن) أحسن القراءة ويجودونه لاعتنائهم بالقرآن، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لناس على القاعدة المشهورة أن الجمل والظروف إذا وقعت بعد النكرات تكون صفة وإذا وقعت بعد المعارف تكون حالًا غالبًا وقوله (ويتقفّرون العلم) معطوف على يقرؤون، قال النووي: وهذه اللفظة بتقديم القاف وتأخير الفاء أي يتتبعون العلم ويطلبونه لشدة اهتمامهم بالعلم، يقال اقتفر أثره إذا تتبعه هذا هو المشهور، وقيل معناه يجمعون العلم، ورواه أبو العلاء بن ماهان (يتفقرون) بتقديم الفاء على القاف ومعناه يبحثون عن أسراره ويستخرجون غوامضه ومن طريق ابن الأعرابي (يتقفون) بتقديم القاف على الفاء مع الواو بدلًا من الراء من قفوته إذا تتبعته، ومنه سميت القافة لتتبعها الآثار، قال تعالى {وَقَفَّينَا عَلَى آثَارِهِمْ} وكل متقارب المعنى ولبعضهم (يتقعرون) بالعين أي يطلبون قعره أي غامضه ومنه تقعر في كلامه إذا أتى بالغريب منه وفي رواية أبي يعلى الموصلي (يتفقهون) بزيادة الهاء أي يتعلمون العلم.

(1) في نسخة: (فقلت: أبا عبد الرحمن).

ص: 24

الْعِلْمَ -وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ-

ــ

قال الأبي: فاللغات خمس روي الحديث منها بالأوليين وإنما كانت رواية ابن ماهان أشبه بسياق الحديث لأن تفقر بتقديم الفاء هي بمعنى بحث وبحث أخص من طلب وهذه الطائفة كانت من الذكاء وصحة القريحة بمنزلة رفيعة لأن معنى (وذكر من شأنهم) عظم أمرهم وشأنهم في العلم بحيث يكترث بقولهم وإذا كانوا كذلك فالأشبه أن يُعَبَّر عنهم بما معناه يبحثون لا يطلبون انتهى.

(وذكر) يحيى بن يعمر (من شأنهم) أي من شأن هؤلاء المبتدعة وحالهم ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به، قال السنوسي: ففيه حذف المفعول تعظيمًا له بالإبهام أي ذكر من شأنهم في البحث عن العلم واستخراج غوامضه شيئًا عظيمًا أو بالتعميم لتذهب النفس فيه كل مذهب ممكن ويحتمل أن يكون الغرض في حذفه صون اللسان عن ذكره ويكون المعنى وذكر من شأنهم في نفي القدر والابتداع في العقائد ما يجب أن يصان اللسان عن ذكره، وقال النووي: وهذه الجملة من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر والظاهر أنه من كلام ابن بريدة الراوي عن يحيى مباشرة انتهى.

وقال القرطبي: وإنما ذكر له ما ذكر من أوصافهم تنبيهًا له على الاعتناء بمقالتهم والبحث عنها ليوضح أمرها فإن كلامهم قد وقع من القلوب بالموقع الذي لا يزيله إلَّا إيضاح بالغ وبرهان واضح ولما فهم ابن عمر ذلك أفتى بإبطال مذهبهم وفساده وحكم بكفرهم وتبرأ منهم واستدل على ذلك بالدليل القاطع عنده من الحديث المرفوع.

وعبارة السنوسي والغرض من وصفهم بالاجتهاد في العلم والتوسع فيه الموجب لهم القدوة وتقليد الغير المبالغة في استدعاء ابن عمر رضي الله عنهما لاستفراغ الوسع في النظر فيما يزعمون لأن أقوال الأغبياء قد لا يهتم العلماء بشأنها ويكتفون في ردها بأدنى نظر فجواب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بعد تلك الأوصاف من أثبت شيء وأحقه، وقد يكون الغرض في ذكر ما وصفهم به من العلم وكونهم مع ذلك يزعمون ما يزعمون إظهار التشكي والتلهف بما نال المسلمين من مصيبتهم، إلَّا أن هذا إنما يحسن إذا كان ابن عمر قد أحس ببدعتهم وسوء نظرهم، وإنما سأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ليحقق العلم من معدنه، ويرسخ ما كان في رويته، وهذا هو الظاهر إذ يبعد أن يخفى أمر أقوالهم على مثل يحيى بن يعمر، ويدل عليه قوله يزعمون على ما يأتي في

ص: 25

وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَن لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ،

ــ

معنى الزعم ومن هنا يصح أن يكون الغرض من ذكر أوصافهم مجموع الأمرين، والله تعالى أعلم انتهى.

ويستفاد من سؤال يحيى بن يعمر لابن عمر عن هذه البدعة مبادرة بيان ما كان عليه السلف من إنكار البدع، وفزعهم فيما يطرأ على الدين منها إلى ما عند الصحابة في ذلك من علم، إذ هم المأمور بالاقتداء بهم، وبيان جواز مذاكرة العلم في الطريق وكرهه بعضهم، والصحيح الجواز لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع للناس يسألونه.

وما رُوي أن قاضي المدينة سأل مالكًا عن حديث وهو ماش فأمر به إلى السجن، فقيل: إنه القاضي، فقال: القاضي أحق أن يُؤدب، لم يثبت عنه انتهى كلام القاضي عياض، قال السنوسي: قلت: وإن ثبت فلا ينافي مقتضى ما ذكرنا إذ لعله إنما أدبه لكون الطريق الذي سأله فيه لا يليق أن يذكر فيه الحديث لقذرٍ فيه ونحوه، أو لكونه قد أعد وقتًا ومجلسًا مخصوصين للحديث فسؤاله عن الحديث في غيرهما يدل على عدم الاهتبال بشأنه، وأما سؤال ابن عمر في هذه القضية وإن كان ماشيًا فلعله كان في المجلس أو في موضع طاهر يليق بذكر الحديث وغيره، مع أن السائلين إنما استفتياه في واقعة اضطرا إلى استعلام رأيه فيها، وأما وقوف النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال الناس فإنما كان بمنى، وهي موضع أعد لعبادة الله تعالى وذكره كالمسجد والصحراء التي أعدت لصلاة العيد ونحوها فليس لقراءة القرآن فيها جناح. اهـ

وجملة أن في قوله (وأنهم يزعمون) في تأويل مصدر معطوف على مفعول ذَكَرَ المحذوف والتقدير وذكر يحيى بن يعمر من شانهم وفضلهم في العلم وقراءة القرآن شيئًا عظيمًا، وذكر أنهم أي أن هؤلاء المبتدعة التي ظهرت في البصرة يزعمون أي يقولون قولًا باطلًا بلا دليل (أن لا قدر) ولا قضاء سابق في علم الله، وأن هنا مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملة لا النافية خبرها، وجملة أن المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم، أي وذكر زعمهم أن لا قدر أي عدم سابقية علم الله سبحانه بالأشياء أزلًا، وجملة قوله (وأن الأمر) والعلم أي وأن علم الله تعالى بالأشياء (أُنف) بضمتين أي مستأنف تابع لوجودها وواقع بعد وقوعها معطوفة على جملة أن

ص: 26

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

المخففة عطفًا تفسيريًّا، أي وذكر زعمهم عدم سابقية تقدير الله سبحانه الأشياء أزلًا وكون علم الله تعالى بالأشياء مستأنفًا تابعًا لوجودها وقوله (يزعمون) قال الأبي: الزعم بالضم اسم مصدر وبالفتح مصدر زعم إذا قال قولًا حقًّا أو كذبا أو غير موثوق به، فمن الأول حديث زعم جبريل، ومن الثاني قوله تعالى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومن الثالث بيت الأعشى:

ونبئت قيسًا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح وما هو إلَّا الزعم، وأبي أن يثيبه، والحديث المذكور هنا من الثاني، وأما حديث الترمذي بئس مطية الرجل زعموا فجعله ابن عطية من الثاني، واختلف في قول سيبويه: زعم الخليل، فجعله النووي من الأول، وجعله ابن عطية من الثالث انتهى.

والمراد بالقدر المذموم نَفْيُهُ المذكورِ في الحديث عِلْمُ اللهِ سبحانه وتعالى الأشياء بمقاديرها وأحوالها وأزمانها أزلًا قبل إيجادها، وقد تُرك اليوم وهو الذي عليه معبد وأتباعه ويسمى القدر الأول.

والقدر الثاني هو عبارة عن تأثير قدرة العبد، والقائل به المعتزلة حيث قالوا: العبد يخلق أفعاله، والخير من الله، والشر من غيره، والمعتزلة تنقسم إلى عشرين فِرقة يكفر بعضها بعضًا، وجميع الفرق العشرين فرقةٌ واحدة من الفرق الثلاث والسبعين، وسموا معتزلة لاعتزال أصلهم واصل بن عطاء، كان يجلس إلى الحسن فلما قال بتخليد العاصي اعتزله الحسن، فسُمي هو وأصحابه معتزلة.

ويلقبون أيضًا بالقدرية لقولهم: إنَّ قدرة العبد مؤثرة ويسمون أنفسهم أصحاب العدل لقولهم إنَّ الله سبحانه لا يفعل إلَّا الخير، ويجب عليه رعاية الأصلح.

قوله (وأن الأمر) أي وأن علم الله تعالى بالأشياء (أُنُفٌ) بضم الهمزة والنون أي مستأنف تابع لإيجادها لم يسبق به سابقة علم الله تعالى ولا مشيئته، وإنما أفعال الإنسان موجودة بعلم الإنسان واختياره، مأخوذ من أَنف الشيء وأنْفُ كل شيء أوله، ومنه أنف الوجه لأنه أول الأعضاء في الشخوص، وأنف السيل أوله كقول امرئ القيس:

قد غدا يحملني في أنفه

لاحق الأيطل محبوك ممر

وروض أُنُفٌ لم يرع من قبل، وكذلك كأس أُنُفٌ لم يشرب بها قبل وإنما ابتدئ

ص: 27

فَقَال: إِذَا (1) لَقِيتَ أُولَئِكَ .. فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ (2) مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ؛

ــ

الشرب بها الآن، ومنه قوله تعالى {مَاذَا قَال آنِفًا} أي هذه الساعة المستأنفة، وأنزلت علي سورة آنفًا.

وعبارة النووي هنا (وأن الأمر) أي أمر الخلائق إيجادًا وإعدامًا (أنف) أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، وهذا القول قول غلاتهم وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضل وافترى عافانا الله وسائر المسلمين من ذلك آمين.

(فقال) عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ليحيى بن يعمر (إذا لقيت) ورأيت (أولئك) المبتدعة الذين ينفون القدر، أي تقدير الله سبحانه الكائنات في الأزل (فأخبرهم أني بريء منهم) أي أعلمهم أن عبد الله بن عمر بريء من دينهم الذي هو نفي القدر (وأنهم) أي وأن أولئك المبتدعة (براء مني) أي بريئون من ديني الذي هو إثبات القدر، أي لا علاقة بيني وبينهم لأن ديننا مختلف، وهذا محل الجزء الثالث من الترجمة، وهو وجوب التبري ممن لا يؤمن بالقدر، قال النووي: وهذا الذي قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ظاهر في تكفيره القدرية القائلين بنفي القدر لأن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وهذا في القدرية الأولى الذين ينفون تقدم علم الله تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة، وأما معبد وأصحابه فتبع لهم، وأمّا أصحاب القدر الثاني الذي هو عبارة عن تأثير قدرة العبد، والقائل به المعتزلة ففي كفره قولان والله أعلم، وقال غير القاضي ويجوز أنه لم يُرد بهذا الكلام التكفير المخرج عن الملة فيكون من قبيل كفران النعمة، إلَّا أن قوله (ما قبله الله منه) ظاهر في التكفير فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر.

ثم قال ابن عمر (والذي يحلف به عبد الله بن عمر) أي أقسمت بالإله الذي يحلف ويقسم به ابن عمر وغيره، قال القرطبي: هو كناية عن اسم الله تعالى لأنه الذي

(1) في نسخة: (قال: فإذا).

(2)

في نسخة: (برآء).

ص: 28