المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ترجمة عمر بن الخطاب وولده عبد الله رضي الله عنهما - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌ كِتَابُ الإِيمَانِ

- ‌1 - بَابُ بَيَان الإِيمَان وَالإِسْلامِ وَالإِحْسَان، وَوُجُوبِ الإِيمَان بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالى، وَبَيَان الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ التَّبَرِّي مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ، وَإِغْلاظِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ

- ‌(فصل) في بيان دقائق هذا السند ولطائفه

- ‌ترجمة عمر بن الخطاب وولده عبد الله رضي الله عنهما

- ‌2 - بَابُ عَدَمِ وُجُوبِ مَا عَدَا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ وَمَا عَدَا صِيَامَ رَمَضَانَ، وَمَا عَدَا الزَّكَوَاتِ المَفْرُوضَةَ

- ‌3 - بَابُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَا عِنْدَهُ عَلَى المُحَدِّثِ؛ ليسْتَثْبِتَ فِيهِ، وَاكْتِفَاءِ الحَاضِرِينَ بِسُؤالِ البَادِي الوَافِدِ الإِمَامَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إِذَا هَابُوهُ

- ‌4 - بَابُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيهِ، وانْتَهَى عَمَّا حُرِّمَ عَلَيهِ .. دَخَلَ الجَنَّةَ

- ‌5 - بَابُ مَنْ حَرَّمَ الحَرَامَ، وَأَحَلَّ الحَلَالَ، وَفَعَلَ مَا تَمَكَّنَ مِنَ الوَاجِبَاتِ .. دَخَلَ الجَنَّةَ

- ‌6 - بَابُ بَيَانِ مَبَانِي الإِسْلَامِ

- ‌7 - بَابُ وُفُودِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمْرِهِمْ بِمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ مُنْكَرَاتِهِ، وَأَمْرِهِمْ بِحِفْظِهَا وَتَبْلِيغِهَا إِلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَجَوازِ مَدْحِ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ

- ‌ فائدة في المختلِطين

- ‌8 - بَابُ بَيَانِ أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الإِسْلامِ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَأَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ

- ‌(فصل في جمع ما يستفاد من هذا الحديث)

- ‌9 - بَابُ الأَمْرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالى، وَيُقِرُّوا بِرِسَالةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. . فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالهُ إِلَّا بِحَقِّهِمَا

- ‌10 - بَابُ صِحَّةِ إيمَانِ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ مِنَ الْكُفَّارِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَالنَّهْي عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَكَوْنِ الْهِدَايَةِ بِيَدِ اللهِ تَعَالى لَا بِيَدِ أَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَو نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ مَلَكًا مُقَرَّبًا

- ‌11 - بَابُ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالى عَالِمًا بِهِ غَيرَ شَاكٍّ فِيهِ .. دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَوَّلًا: إِنْ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الكَبَائِرِ، أَوْ عَمِلَهَا وَتَابَ عَنْهَا، أَوْ أَدْرَكَهُ الْعَفْوُ، أَوْ بَعْدَ عُقُوبَتِهِ عَلَيهَا إِنْ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا وَلَمْ يُدْرِكْهُ الْعَفْوُ مِنَ اللهِ تَعَالى وَحَرَّمَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى النَّارِ

- ‌12 - بَابُ بَيَان حَقِّ اللهِ سبحانه وتعالى عَلَى الْعِبَادِ، وَحَقِّهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالى، وَتَبْشير مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالى بالتَّوحِيدِ بِالْجَنَّةِ، وَتَرْكِهِ خَوْفًا مِنِ اتِّكالِهِمْ عَلَى مُجَرَّدِ التَّوحِيدِ

- ‌13 - بَابُ الدَّليلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتينِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتيقَان الْقَلْبِ

- ‌14 - بَابُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ فِي إِسْلَامِ الشَّخْصِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَمَالِ إيمَانِهِ، وَصِحَّةِ إِسْلَامِهِ

- ‌15 - بَابُ بَيَانِ صِفَةِ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَان وَحَلاوَتَهُ

- ‌16 - بَابُ بَيَان عَدَدِ شُعَبِ الإِيمَان، وَأَفْضَلِهَا، وَأَدْنَاهَا، وَأنَّ الحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنْهَا وبيان فضيلته

- ‌17 - بَابُ فِي مَدْحِ الْحَيَاءِ، وَامْتِنَاعِ مُقَاوَمَةِ النَّصِّ بِكَلامِ الحُكَمَاءِ

- ‌18 - بَابُ الأَمْرِ بِالإِيمَانِ ثُمَّ بِالاسْتِقَامَةِ

- ‌19 - بَابٌ أَيُّ خِصَالِ الإِسْلامِ خَيرٌ؟ وَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ

- ‌20 - بَابُ بَيَان الخِصَالِ الَّتِي يَجِدُ بِهِنَّ المَرْءُ حَلاوَةَ الإِيمَانِ

- ‌21 - بَابُ عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُحِبَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَحَبَّةً أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

- ‌22 - بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ لَا يَكْمُلُ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ، أَوْ جَارِهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيرِ

- ‌23 - بَابُ عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ يَخَافُ جَارُهُ ضَرَرَهُ

- ‌24 - بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الصَّمْتَ إِلَّا عَنِ الْخَيرِ، وَإِكْرَامَ الْجَارِ وَالضَّيفِ .. مِنَ الإِيمَانِ

- ‌25 - بَابُ وُجُوب إِزالةِ الْمُنْكَرِ بِالْقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ وَأنَّ إِزَالتَهُ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌26 - بَابُ مُجَاهَدَةِ خُلُوفِ السَّوءِ، وَكَوْنِ مُجَاهَدَتِهِمْ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌27 - بَابُ نِسْبَةِ الإِيمانِ وَالْحِكْمَةِ إِلَى الْيَمَنِ وَجَعْلِ الْقَسْوَةِ وَغِلَظِ الْقُلُوبِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ

- ‌28 - بَابُ كَوْنِ التَّحابِّ فِي اللَّهِ تَعَالى مِنَ الإيمَانِ، وَبَيَانِ سَبَبِهِ

- ‌29 - بَابُ النُّصحِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌30 - بَابُ مُبَايَعَةِ الإِمَامِ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَكَونهَا مِنَ الإِيمَانِ

- ‌31 - بَابُ بَيَانِ نُقْصَانِ الإِيمَان بِارْتْكَابِ الْمَعَاصِي، وَنَفْيِهِ عَنْ مُرْتَكِبِهَا حَال تَلَبُّسِهِ بِهَا عَلَى مَعْنَي نَفْيِ كَمَالِهِ

- ‌32 - بَابُ بَيَانِ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ عَلامَاتِ الإِيمَانِ

- ‌33 - بَابُ بَيَان حُكْمِ إِيمَانِ مَنْ قَال لأخِيهِ الْمُسْلِمِ: يَا كَافِرُ

- ‌34 - بَابُ حُكْمِ إِيمَانِ مَنِ انْتَسَبَ لِغَيرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَإِيمَانِ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ مَا لَيسَ لَهُ

- ‌35 - بَابُ حُكْمِ سِبَابِ الْمُسْلِمِ وَقِتَالِهِ

- ‌36 - بَابُ الأمْرِ بِلزومِ الإيمَانِ وَالتَّمَسُّكِ بِشَرَائِع الإِسْلامِ، والنَّهْيِ عَنِ الارْتدَادِ عَنِ الإِسْلامِ، وَالتَّشَبُّهِ بِالْكفَّارِ

- ‌34 (*) - بَابُ حُكْمِ إيمَانٍ مَنْ طَعَنَ في النَّسَبِ وَنَاحَ عَلَى الْمَيِّتِ

- ‌37 - بَابُ حُكْمِ إيمَانِ الْعَبْدِ الآبِقِ

- ‌38 - بَابُ حُكْمِ إيمانِ مَنْ قَال مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا

- ‌39 - بَابُ بَيَانِ أَنَّ عَلامَةَ الإِيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وَأَنَّ عَلامَةَ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ

- ‌40 - بَابٌ في بَيَانِ أَنَّ حُبَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ آيَةُ الإِيمَانِ، وَبُغْضَهُ آيَةُ النِّفَاقِ

- ‌39 (*) - بَابُ مَا فِي النِّسَاءِ مِنْ نُقْصَانِ الإِيمَانِ وَالْعَقْلِ بِنَقْصِ الطَّاعَاتِ، وإِطْلاقِ لَفْظِ الْكفْرِ عَلَى غَيرِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالى، وَسُؤَالِ الْعَالِمِ عَمَّا أَشْكَلَ مِنْ فَتْوَاهُ

- ‌فصل في الأحكام التي تستفاد من هذا الحديث

- ‌40 - بَابُ كَوْنِ الطَّاعَةِ لِأَمْرِ اللهِ وَالْخُضُوع لَهُ مِنَ الإِيمَانِ الَّذِي يُوجِبُ الْجَنَّةَ، وَكَوْنِ الْعِصْيَانِ لِأَمْرِهِ وَالتَّكَبُّرِ عَنِ السُّجُودِ لَهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ

- ‌41 - بَابُ إِيمَانِ مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ جَحْدًا أَوْ تهَاوُنًا

الفصل: ‌ترجمة عمر بن الخطاب وولده عبد الله رضي الله عنهما

لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ .. مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، ثُمَّ قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

ــ

يُحلف به وإنما ترك ذكره تعظيمًا لاسم الله تعالى لئلا يتخذ غرضًا وسُلمًا للحلف به في كل شيء والله أعلم.

وذكر المُقسم عليه بقوله (لو أن لأحدهم) أي أقسصت بالإله الذي يُحلف به على أنه لو كان لأحد هؤلاء المبتدعة الذين ينفون القدر (مثل) جبل (أحد) جبل معروف بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصه بالذكر لشرفه على غيره بكونه في الجنة (ذهبًا) تمييز لمثل قال نفطويه سمي الذهب ذهبًا لأنه يذهب ولا يبقى (فأنفقه) أي فأنفق ذلك الذهب المماثل لأُحد في سبيل الله وطاعته (ما قبل الله) سبحانه وتعالى (منه) أي من ذلك الأحد المنفق نفقاته (حتى يؤمن) أي إلى أن يؤمن ويصدّق ويعتقد (بالقدر) أي بثبوت القدر لله تعالى، أي علمه بالكائنات أزلًا، لأن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، فإذا لم يؤمن بالقدر فهو كافر، ونفقات الكافر غير مقبولة، لأن الإيمان شرط في قبول الحسنات، لأنه أساس الأعمال الصالحة، وهذا موضع الجزء الأخير من الترجمة الذي هو إغلاظ القول في حق من لم يؤمن بالقدر.

قال القرطبي: وهذا صريح في أنه كفَّرهم بذلك القول المحكي عنهم بما حكم الله سبحانه به على الكفار في {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} وقد قلنا إنَّ تكفير هذه الطائفة مقطوع به لأنهم أنكروا معلومًا ضروريًّا من الشرع انتهى. وقال الأبي: ونفي الخلاف عن كفر القائلين بذلك خلاف قول الإمام، وقول الإمام إنَّ كفر هؤلاء هو أحد القولين، فأثبت الخلاف فيه وأيضًا فإن الآمدي وغيره عمم الخلاف في كل ذي هوىً من أهل القبلة. اهـ

(ثم قال) ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مستدلًا على وجوب الإيمان بالقدر (حدثني أبي) ووالدي (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه.

‌ترجمة عمر بن الخطاب وولده عبد الله رضي الله عنهما

وهو السيد الجليل عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي العدوي وأمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت العاص بن هشام بن المغيرة

ص: 29

قَال: بَينَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ؛

ــ

أبو حفص المدني أحد فقهاء الصحابة وثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأول من سمي بأمير المؤمنين جم المناقب استخلف في رجب سنة ثلاث عشرة بعد أبي بكر رضي الله عنهما ثم استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة مصدر الحاج يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة فكانت خلافته عشر سنين ونصفًا.

له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثًا (539) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه، ويروي عنه (ع) وأبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن وقاص وغيرهم.

وروى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان والوضوء والصلاة في خمسة مواضع والجنائز في ثلاثة مواضع والزكاة في موضعين والصوم في موضعين والحج والبيوع والنكاح والباس والجهاد في موضعين وفي باب الفضائل فجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها اثنا عشر بابا تقريبًا.

وأما عبد الله بن عمر فهو أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المكي ولد قبل المبعث بسنة، وهاجر مع أبيه، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وشهد الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان يوم أحد سنة ثلاث، وشهد بيعة الرضوان، واعتزل في الفتن عن الناس، ومات سنة ثلاث وسبعين (73) بمكة وهو ابن سبع وثمانين (87)، ودفن فيها بفخ، وهو أحد المكثرين من الصحابة، ومن العبادلة، وكان من أشد الناس اتباعًا للسنة، له ألف حديث وستمائة وثلاثون حديثًا (1630).

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيه وأخته حفصة وعائشة وغيرهم، ويروي عنه بنوه سالم وحمزة وعبيد الله، ومولاه نافع وابن المسيب ويحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن وخلق، وروى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان والوضوء والصلاة والجنائز والزكاة والصوم والحج والبيوع واللعان والأشربة والفتن والعتق فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها اثنا عشر بابا تقريبًا.

(قال) عمر بن الخطاب رضي الله عنه (بينما نحن) أي وقتما نحن جالسون (عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم) أي يوم من الأيام، قال الأبي (بينا) بالألف و (بينما) بالميم والألف ظرفا زمان يضافان إلى الجمل الاسمية والفعلية، وخفض المفرد

ص: 30

إِذْ طَلَعَ عَلَينَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ،

ــ

بهما قليل، وهما في الأصل بين التي هي ظرف مكان أشبعت الحركة فصارت بينا، وزيدت عليها الميم فصارت بينما، ولما فيهما من معنى الشرط يفتقران إلى جواب يتم به المعنى، والأكثر في جوابهما عند الأصمعي أن يصحبه إذ أو إذا الفجائيتان والأفصح عند غيره أن يتجرد عنهما، ومنه قولهم (فبينا نحن نرقبه أتانا) فمعنى الحديث وقت جلوسنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجأنا الرجل، ولفظة ذات في قوله (ذات يوم) زائدة للتوكيد ترفع احتمال أن يراد باليوم مطلق الزمان، فهي مع اليوم بمنزلة قولهم (رأيت عين زيد) وهو ظرف زمان، والعامل فيه معنى الاستقرار الذي في الخبر اهـ.

وقوله (إذ طلع) وظهر (علينا رجل) جواب بينما، وإذ حرف فجأة، أي فاجأنا وبغتنا طلوع رجل عجيب وظهوره علينا.

(فائدة) في إعراب بينما: بين: ظرف زمان في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الفتح لشبهها بالحرف شبهًا افتقاريًّا، لافتقارها إلى الجملة التي تضاف إليها أو لشبهها بالحرف شبهًا معنويًّا لتضمنها معنى حرف الشرط، ما: زائدة زيدت لتأكيد معنى بين، والظرف متعلق بالجواب الآتي، أعني طلع رجل.

نحن: مبتدأ، عند رسول الله ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لبينما على كونها شرطًا لها، ذات يوم: ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر إذ حرف فجأة رابطة لجواب بينما بشرطها طلع رجل فعل وفاعل والجملة جواب بينما لا محل لها من الإعراب وجملة بينما في محل النصب مقول قال، والمعنى وقت جلوسنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام فاجأنا طلوع شخص على صورة ذكر بالغ من بني آدم، قال الأبي: ولم يقل إذ دخل علينا رجل إشعارًا بعظم الرجل وجلالته، لأنه مستعار من طلعت الشمس وفي ضمن كلامه أنهم تعجبوا من صورة إتيانه الموهمة أنه جني أو ملك لأنه لو كان بشرًا لكان إما من المدينة أو من قربها والأول منتف إذ لم يعرفه منهم أحد والثاني كذلك إذ ليس عليه أثر سفر من غبار ونحوه.

وقوله (شديد بياض الثياب) صفة أولى لرجل وهو من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها أصله شديد بياض ثيابه وقوله (شديد سواد الشعر) صفة ثانية له وهو من إضافة الصفة إلى مرفوعها أيضًا، أي شديد سواد شعره.

ص: 31

لَا يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ (1)، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيهِ إِلَى رُكْبَتَيهِ، وَوَضَعَ كَفَّيهِ عَلَى فَخِذَيهِ،

ــ

وقوله (لا يرى عليه أثر السفر) أي أماراته من غبار وعرق صفة ثالثة لرجل، قال النووي: ضبطناه هنا وفي الجمع بين الصحيحين، وغيره بضم الياء التحتانية على صيغة المجهول وضبطه الحافظ أبو حازم العبدوي (2) هنا (نرى عليه أثر السفر) بالنون المفتوحة على صيغة المعلوم، وكذا هو في مسند أبي يعلى الموصلي وكلاهما صحيح.

ويستفاد من طلوعه على تلك الحالة الحسنة استحباب تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك فإن جبريل عليه السلام أتى معلمًا للناس بحاله ومقاله واستحباب التجمل لحضور مجالس العلم ولذلك كان الإمام مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتطيب وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم غاية لمحذوف تقديره دنا حتى جلس الخ، قال الأبي: وقال إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل بين يديه لأن له سمة الشيخ إذ لم يأت متعلمًا وإنما أتى معلمًا أي فدنا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأسند) أي ضم ذلك الرجل الداخل (ركبتيه) أي ركبتي نفسه (إلى ركبتيه) صلى الله عليه وسلم (ووضع) ذلك الرجل الداخل (كفيه) أي كفي نفسه (على فخذيه) أي على فخذي نفسه، قال النووي: معناه إنَّ الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه وجلس على هيئة المتعلم والله أعلم. اهـ وقال غيره: الضمير في فخذيه يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الأبي: وفيما سيأتي للبزار ما يرفع الخلاف الواقع في ضمير فخذيه هل يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى جبريل عليه السلام وإن كان عوده إلى جبريل أقرب إلى التوقير، قال القرطبي: وقد روى النسائي هذا الحديث من حديث أبي هريرة وأبي ذر وزاد فيه زيادة حسنة فقالا: كان

(1) في نسخة زيادة: (ولا يعرفه منا أحد).

(2)

العبدوي: نسبة إلى عَبْدَويه أحد أجداده، وهو الإِمام الحافظ الثقة المكثر أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه الهذلي. انظر "لب اللباب" للسيوطي، وقد تصحف إلى العدوي في بعض نسخ شروح مسلم، وله ترجمة في "سير أعلام النبلاء"(17/ 333).

ص: 32

وَقَال: يَا مُحَمَّدُ؛

ــ

رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يسأل فطلبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكانًا من طين -دكة مرتفعة يقعد عليها- فجلس عليه وإنا لجلوس عنده صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحًا كان ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم من طرف السماط - الصف من الناس - فقال السلام عليكم يا محمد فرد عليه السلام، قال أأدنوا يا محمد؟ قال ادنه، فما زال يقول أأدنو - مرارًا - ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ادنه حتى وضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر بقية الحديث بنحو ما ذكر مسلم رحمه الله تعالى.

ففي هذا الحديث مع الزيادة المذكورة من الفقه، ابتداء الداخل بالسلام على جميع من دخل عليه وإقباله بالسلام على رأس القوم فإنه قال السلام عليكم فعم ثم قال: يا محمد فخص، وفيه أيضًا الاستئذان في القرب من الإمام مرارًا وإن كان الإمام في موضع مأذون في دخوله، وفيه أيضًا ترك الاكتفاء بالاستئذان مرة أو مرتين على جهة التعظيم والاحترام، وفيه جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع من المسجد إذا دعت إلى ذلك ضرورة تعليم أو غيره وقد بين فيه أن جبريل وضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفع الاحتمال الذي في لفظ رواية مسلم فإنه قال فيه (فوضع كفيه على فخذيه) وهو محتمل.

وإنما فعل جبريل ذلك والله أعلم تنبيهًا على ما ينبغي للسائل من قوة النفس عند السؤال وعدم المبالاة بما يقطع عليه خاطره وإن كان المسؤول ممن يُحترم ويُهاب، وعلى ما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عن السائل، وإن تعدى على ما ينبغي من الاحترام والأدب انتهى.

وأخذ بعضهم من الحديث أن تكون جلسة المتعلم كذلك لأن الجلوس على الركبتين أقرب إلى التواضع وإسناد الركبتين إلى الركبتين أبلغ في الاستماع وألزم للجواب فإن جلوس السائل كذلك يدل على حرصه والمسؤول إذا علم حرص السائل ألزم نفسه الجواب، وقيل إنما جلس جبريل كذلك لأن له دالة الشيخ، ولهذا قال: صدقت، وإنما يقوله من طابق قول المسؤول ما عنده اهـ سنوسي.

(وقال) ذلك الرجل (يا محمد) قال القرطبي ناداه باسمه كما تناديه الأعراب

ص: 33

أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،

ــ

تعمية لحاله، قال الأبي: وقد تقدم أنه لدالة المعلم، قال السنوسي: قلت: إنما تصح الدالة لو كان خاليًا معه، أما مع حضور الناس فلا يصح أن يخاطبه إلَّا بما يسوغ لهم أن يخاطبوه به لا سيما وقد جاء في هذه القصة (ليعلمهم دينهم) فكيف يصح أن يصدر منه ما ينافي ذلك فالأصح في الاعتذار ما سبق أعني التعمية، أو يقال كان هذا قبل منع ندائه صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك قبل نزول قوله تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَينَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية.

(أخبرني عن) حقيقة (الإسلام) وماهيته شرعًا، وأما لغة فالإسلام هو الاستسلام والانقياد ومنه قوله تعالى {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي انقدنا، وشرعًا هو الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس عنه:"الإسلام علانية والإيمان في القلب" رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام) أي حقيقة الإسلام وأجزاؤه وأركانه خمسة، فإن (قلت) جَعْلُ الإسلام اسمًا للخمسة يوجب أن لا يكون مسلمًا إلَّا من فعل الجميع، وليس الأمر كذلك لحديث:"من قال لا إله إلَّا الله دخل الجنة" فجعل النطق بالشهادتين وحده كافيًا لأن لا إله إلَّا الله كناية عنهما، وعند الشافعية من قال: لا إله إلَّا الله فهو مسلم، ويطالب بالأخرى، فإن أبي منها قُتل، ولهم قول آخر أنه لا يُقتل، وعند المالكية من صلى ثم أبي الإسلام قال الأكثر: يُقتل.

(قلت) فرق بين النظر في الشيء من حيث بيان حقيقته وبين النظر فيه من حيث معرفة ما يجزئ منه فما يجزئ منه حُكمٌ من أحكامه، والأحكام جعلية فيجوز أن يعرّف الشارع حقيقة ويجعل بعض أجزائها بمنزلتها في الحكم كما هنا عرف الإسلام بأنه فعل الأركان ثم جعل أحدها كافيًا في دخول الجنة اهـ أبي.

الأول منها (أن تشهد) أي أن تقر بلسانك وتعتقد بقلبك (أن لا إله) أي أنه لا معبود بحق في الوجود (إلا الله) أي إلَّا الذات الواجب الوجود لذاته المستجمع لجميع الكمالات المنزه عن جميع النقائص (و) أن تشهد (أن محمدًا) ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم (رسول الله) صلى الله عليه وسلم؛ أي مرسل من الله سبحانه

ص: 34

وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ،

ــ

وتعالى إلى كافة المكلفين من الثقلين بتكاليف شرعها الله تعالى لهم على لسانه، قال الأبي: والنبي من خص من البشر بالوحي إليه والرسول من أمر بتبليغ ما أوحي إليه فيشتركان في الوحي إليهما ويفترقان في الأمر بالتبليغ، وقال الزمخشري: يشتركان في أن لكل منهما معجزة ويفترقان في أن الرسول من أنزل عليه كتاب والنبي من لا وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة غيره.

وقال السنوسي: واختلف في النبي مع الرسول هل بينهما عموم وخصوص مطلق أو وجهي لصدق اسم الرسول دون النبي على الملك وعكسه فيمن أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ أو أمر إلَّا أنه لم ينزل عليه كتاب على الخلاف ويجتمعان فيمن وجد فيه كلا الأمرين من البشر.

والشهادة لغة: مطلق الإخبار وشرعًا: الإخبار بحق للغير على الغير بشرائط مذكورة في كتب الفروع وليس مرادًا هنا، بل المراد هنا الإقرار باللسان مع التصديق بالقلب.

(و) الثاني أن (تقيم الصلاة) المفروضة وتؤديها بشرائطها وأركانها وآدابها والمراد بإقامتها إدامة فعلها مستوفاة جميع ذلك.

وخصت الصلاة بلفظ تقيم دون أخواتها لكثرة ما تتوقف عليه من الشرائط والفرائض والسنن والآداب، والصلاة لغة: الدعاء ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيهِمْ} أي ادع لهم، وشرعًا: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة غالبًا والدعاء جزء منها.

(و) الثالث أن (تُؤتي الزكاة) المفروضة وتؤديها في مصارفها المبينة في القرآن الكريم، والزكاة لغة: النماء والزيادة، يقال زكا الزرع والمال، وسُمي أخذ جزء من مال المسلم الحرِّ زكاة لأنها إنما تؤخذ من الأموال النامية، أو لأنها قد نمت وبلغت النصاب، أو لأنها تُنمي الأموال بالبركة وحسنات مؤديها بالتكثير، وشرعًا اسم لمال مخصوص يجب على شخص مخصوص في مال مخصوص يصرف لشخص مخصوص على وجه مخصوص.

(و) الرابع أن (تصوم) شهر (رمضان) الذي أنزل فيه القرآن، والصوم لغة: الإمساك مطلقًا، ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي إمساكًا عن

ص: 35

وَتَحُجَّ الْبَيتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيهِ سَبِيلًا"، قَال: صدَقْتَ، قَال: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ

ــ

الكلام، وشرعًا: الإمساك في جميع النهار عن أشياء مخصوصة كما سيأتي في محله.

(و) الخامس أن (تحج البيت) أي أن تقصد زيارة الكعبة ومشاعر مخصوصة بأعمال مخصوصة (إن استطعت إليه سبيلًا) أي إنَّ أطقت وقدرت وصولًا إليه بأن وجدت زادًا وراحلة تصلح لك ذهابًا وإيابًا، فالسين والتاء فيه زائدتان، أو للمبالغة في معنى الرباعي لا للطلب.

والحج لغة: هو القصد، وهو بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وقُرئ بهما قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ} وشرعًا: قصد بيت الله المعظم لفعل عبادة مخصوصة والاستطاعة هي القدرة على الشيء، والتمكن منه، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} وسيأتي اختلاف العلماء في الاستطاعة في محله، وقال الأبي: والبيت اسم جنس وغلب على الكعبة حتى صار عليها كالعلم ويعني بالاستطاعة الزاد والراحلة لا مطلق القدرة على الوصول لأنها شرط في التكليف.

(قال) الرجل الداخل السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (صدقت) أي نطقت يا محمد كلامًا صادقًا صحيحًا فيما أجبت (قال) عمر بن الخطاب رضي الله عنه (فعجبنا) أي تعجبنا نحن معاشر الحاضرين (له) أي لذلك الرجل السائل المصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجب انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر خفي سببه، ولذلك قيل إذا ظهر السبب بطل العجب، أي تعجبنا من حال ذلك السائل حالة كونه (يسأله) أي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه لا يعلم ما سأل عنه (و) حالة كونه (يصدقه) أي يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبره له كأنه يعلمه، قال القرطبي: إنما تعجبوا لأن تصديقه يقتضي أن له بهذه الأشياء علمًا، وهي لا تعلم إلَّا من قبله صلى الله عليه وسلم وليس هو بمعروف السماع منه صلى الله عليه وسلم.

وعبارة النووي (قوله تعجبنا) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، إنما هذا كلام خبير بالمسؤول عنه، ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

(تتمة) قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تشهد أن لا إله إلَّا الله إلخ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته إلخ قال: هذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يُشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله، ثم إنَّ اسم الإيمان يتناول ما فُسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، ومقويات وحافظات ومتممات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة لأن اسم الشيء مطلقًا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرًا إلَّا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم "ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" واسم الإسلام يتناول أيضًا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام، قال فتحصل مما ذكرناه وحققناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا، هذا آخر كلام ابن الصلاح.

واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يُحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلَّا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلًا إلَّا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنًا. أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام إلَّا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى العرب فإنه لا يحكم بإسلامه إلَّا بأن يتبرأ، ومن أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى من شرط أن يتبرأ مطلقًا وليس بشيء، أما إذا اقتصر على قوله لا إله إلَّا الله ولم يقل محمدٌ رسول الله فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلمًا ومن أصحابنا من قال يكون مسلمًا ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جُعل مرتدًّا، ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم

" وهذا محمول

ص: 37

قَال: فَأَخبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَال: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ،

ــ

عند الجماهير على قول الشهادتين واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما والله أعلم.

أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها فهل يجعل بذلك مسلمًا؟ فيه وجهان لأصحابنا فمن جعله مسلمًا قال: كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلمًا، أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل بذلك مسلمًا؟ فيه وجهان لأصحابنا الصحيح منهما أنه يصير مسلمًا لوجود الإقرار، وهذا الوجه هو الحق، ولا يظهر للآخر وجه، وقد بينت ذلك مُستقصى في شرح المهذب والله أعلم.

(واعلم) أن مذهب أهل الحق أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يُكفَّر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلَّا أن يكون قريبَ عَهْدِ بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة أو نحوه ممن يخفى عليه فيُعرف ذلك فإن استمر حُكم بكفره، وكذا حُكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة والله أعلم انتهى نووي.

(قال) الرجل السائل (فأخبرني) يا محمد (عن) حقيقة (الإيمان قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا له حقيقة الإيمان وأركانه ستة الأول (أن تؤمن) وتصدق (بـ) ـوجود (الله) سبحانه وتعالى وأنه لا يجوز عليه العدم وأنه تعالى موصوف بصفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر والحياة وغيرها وأنه تعالى منزه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات وعن صفات الأجسام والمتحيزات وأنه واحد صمد فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيها بما يشاء من التصرفات يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه ما يشاء.

(واعلم) أن سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام بلفظ (ما) كما في حديث أبي هريرة الآتي يدل على أنه إنما سأل عن حقيقتهما عنده لا عن شرح لفظهما في اللغة، ولا عن حكمهما لأن ما في أصلها إنما يسأل بها عن الحقائق والماهيات، ولذلك أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تؤمن بالله وبكذا وكذا فلو كان سائلًا عن شرح لفظهما في اللغة لما كان هذا جوابًا له، لأن المذكور في الجواب هو المذكور في السؤال، ولمّا كان الإيمان في اللغة معلومًا عندهما أعاد في الجواب لفظه، وبين له

ص: 38

وَمَلائِكَتِهِ،

ــ

متعلقاته وأنه قصره على تصديق بأمور مخصوصة اهـ قرطبي.

وقال القاضي عياض: فرَّق في هذا الحديث بين الإيمان والإسلام فجعل الإيمان عمل قلب، والإسلام عمل جوارح، ومثله في حديث ضمام، وفسَّر في حديث الوفد الإيمان بما فسر به الإسلام هنا وبالجملة الإيمان لغة: هو التصديق بأي شيء كان وهو في الشرع التصديق والنطق معًا فأحدهما ليس بإيمان، أما التصديق فلأنه لا ينجي وحده من النار، وأما النطق فهو وحده نفاق، وتفسيره في هذا الحديث الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل إنما فسر به إيمان القلب، والإسلام في الظاهر، لا الإيمان الشرعي والإسلام الشرعي، فإنَّ الشرعي من كل منهما ما أنجى من الخلود، وليس المُنجي منه إلَّا التصديق والنطق معًا، ثم كمال كل واحدٍ من الإيمان الشرعي والإسلام الشرعي إنما هو بالأعمال المذكورة في الحديث، فإذا كمل أحدهما بذلك أنجى من النار رأسًا، ثم بإضافة العمل إلى الإيمان يقبل الزيادة والنقص عند الأشاعرة انتهى منه.

(و) الثاني أن تؤمن بـ (ـملائكته) أي أن تصدق بوجودهم على ما وصفوا به في كتاب الله سبحانه وتعالى من أنهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27] ومن أنهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ومن أنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]، ومن أنهم سفراء الله بينه وبين رسله، والمتصرفون كما أذن لهم في خلقه.

والملائكة جمع ملك، وقد اختلف في اشتقاقه ووزنه، فقال ابن شميل: لا اشتقاق له، وقال ابن كيسان فعل من المُلك، وقال أبو عبيدة: هو مفعل من لأك أي أرسل، وقال غيره: إنه مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة، فكأنها تؤلك في الفم قال لبيد:

وغلام أرسلته أمه

بألوكٍ فبذلنا ما سأل

فأصله على هذا مالك فالهمزة فاء الفعل لكنهم قلبوها إلى عينه فقالوا ملأك ثم سهلوه فقالوا ملاك، وقد جاء على أصله في الشعر، قال أبو وجزة يمدح عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:

فلستَ لإنسيّ ولكن لملأك

تنزل من جو السماء يصوب

وقيل هو ملكٌ من مَلَك.

ص: 39

وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ"،

ــ

(و) الثالث أن تؤمن بـ (ـكتبه) أي أن تصدق بأنها كلامه الحق سواء نزلت مكتوبة كالتوراة أو وحيًا كالقرآن جملة كهي، أو نجومًا كهو.

(و) الرابع أن تؤمن بـ (ـرسله) أي أن تصدق بأن لله سبحانه رُسلًا صادقين فيما أخبروا به عن الله تعالى مؤيدين من الله تعالى بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلّغوا عن الله رسالاته، وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله ببيانه لهم، وأنه يجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.

(و) الخامس أن تؤمن بـ (ـاليوم الأخر) أي أن تصدق بوجود اليوم الآخر وبمجيئه، وبجميع ما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دارا ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين، إلى غير ذلك مما صح نصه وثبت نقله، وسُمي آخرًا لأنه آخر أيام الدنيا، ولأنه آخر الأزمنة المحدودة، وقيامةً لقيام الناس على أقدامهم.

(و) السادس أن (تومن بالقدر) قال الأبي: قيل أعاد معه لفظة تؤمن لعلمه أن الأمة تختلف فيه، أي وأن تصدق بالقدر أي بتقدير الله سبحانه الكائنات في الأزل على هيئة وجودها فيما لا يزال أي علمه بمقاديرها وهيئاتها وأزمنتها وأمكنتها قبل وجودها وقوله (خيره وشره) بدل من القدر، بدل تفصيل من مجمل، أي وأن تصدق بخير ذلك المقدر ونفعه للعباد كالإيمان والطاعات، وبشره وضره للعباد كالكفر والمعاصي من الله تعالى، وهو ما دل عليه قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49] وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ويدل عليه إجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" رواه مسلم ومالك في الموطأ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

قال السنوسي: فكأنه أعاد العامل فيه اعتناء بشأنه وتنبيهًا على أن المصيبة تجيء الأمة منه، ويدل أيضًا على اعتنائه بهذا النوع إعادته له مع دخوله في الإيمان بالله تعالى إذ من الإيمان بالله تعالى الإيمان بقدم جميع صفاته، وأنه يستحيل على ذاته الحوادث، ويدخل في صفاته علمه وإرادته المعبر عن قدمهما بالقدر اهـ منه.

(تنبيه) مذهب السلف وأئمة الفتوى من الخلف أن من صدق بهذه الأمور الستة

ص: 40

قَال: صَدَقْتَ.

قَال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَال:

ــ

تصديقًا جازمًا لا ريب فيه ولا تردد ولا توقف كان مؤمنًا حقيقة، وسواء كان ذلك عن براهين ناصعة أو عن اعتقادات جازمة، على هذا انقرضت الأعصار الكريمة وبهذا صرحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة حتى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة فقالوا: إنه لا يصح الإيمان الشرعي إلَّا بعد الإحاطة بالبراهين العقلية والسمعية وحصول العلم بنتائجها ومطالبها، ومن لم يحصل إيمانه كذلك فليس بمؤمن، ولا يجزئ إيمانه بغير ذلك، وتبعهم على ذلك جماعة من متكلمي أصحابنا كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفرايني وأبي المعالي في أول قوليه، والأول هو الصحيح، إذ المطلوب من المكلفين ما يطلق عليه إيمان كقوله تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] وقوله: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الفتح: 13].

والإيمان هو التصديق لغة وشرعًا فمن صدق بذلك كله ولم يجوِّز نقيض شيء من ذلك فقد عمل بمقتضى ما أمره الله به على نحو ما أمره الله تعالى ومن كان كذلك فقد تَقَصَّى عن عهدة الخطاب، إذ قد عمل بمقتضى السنة والكتاب، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده حكموا بصحة إيمان كل من آمن وصدق بما ذكرناه ولم يفرقوا بين من آمن عن برهان أو عن غيره، ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر ولا سألوهم عن أدلة تصديقهم ولا أرجئوا إيمانهم حتى ينظروا وتحاشوا عن إطلاق الكفر على أحد منهم بل سموهم المؤمنين والمسلمين، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام، ولأن البراهين التي حررها المتكلمون ورتبها الجدليون إنما أحدثها المتأخرون، ولم يَخُض في شيء من تلك الأساليب السلف الماضون فمن المحال والهذيان أن يُشترط في صحة الإيمان ما لم يكن معروفًا ولا معمولًا به لأهل ذلك الزمان وهم من هم فهمًا عن الله تعالى وأخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغًا لشريعته، وبيانًا لسنته وطريقته اهـ من القرطبي.

(قال) الرجل السائل (صدقت) يا محمد، أي نطقت كلامًا صادقًا فيما أخبرت به من الإيمان ثم (قال) الرجل (فأخبرني) يا محمد (عن) حقيقة (الإحسان) قال القاضي عياض: يعني بالإحسان الإخلاص لأنه فسره بما معناه ذلك، قال الأبي: وقيل يعني به إجادة العمل من أحسن في كذا إذا أجاد فعله، وهو بهذا التفسير أخص من الأول، ثم هو سؤالٌ عن الحقيقة ليعلمها الحاضرون كالذي قبله (قال) رسول الله صلى الله عليه

ص: 41

"أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ .. فَإِنَّهُ يَرَاكَ"

ــ

وسلم مجيبًا له: الإحسان هو (أن تعبد الله) سبحانه وتعالى (كأنك تراه) سبحانه وتعالى، أي حال كونك مستحضرًا خشية من يراه سبحانه، آتيًا بعبادتك مستوفاة الشرائط والأركان، فهذا إشارة إلى مقام المشاهدة، وهو أن تعبد الله سبحانه كأنك تراه (فإن لم تكن) أنت (تراه) سبحانه وتعالى (فإنه) سبحانه (يراك) أيها العابد، أي فإن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية فاعبده وأنت بحيث إنه يراك، أي فصور نفسك كأنك أعمى يفعل شيئًا عند بصير يخاف منه، وهذا يُسمى عندهم مقام المراقبة، وبهذا تعلم أن للعبد في عبادته ثلاثة مقامات: الأول: أن يفعلها على الوجه الذي يسقط معه التكليف أي مستوفاة الشرائط والأركان، الثاني: أن يفعلها وقد استغرق في بحار المشاهدة حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه صلى الله عليه وسلم كما قال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة" والثالث: أن يفعلها كذلك وقد غلب عليه أن الله يراه ويراقبه وهذا أنزل مما قبله، وكل من المقامات الثلاث إحسان، إلَّا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول لأن الإحسان بالأخيرين من صفة الخواص ويتعذر من كثير.

(فإن قلت) لِمَ آخر السؤال عن الإحسان مع أنه مطلوب في كل من الإسلام والإيمان؟

(قلت) آخره عنهما لأنه صفة الفعل، أو شرط في صحته، والصفة بعد الموصوف، وبيان الشرط متأخر عن المشروط اهـ من الأبي.

قال القاضي عياض: واشتمل الحديث على جميع وظائف العبادة الظاهرة والباطنة حتى إنَّ علوم الشريعة كلها ترجع إليه، ومنه تشعبت، قال الأبي: في جعل الإحسان قسمًا ثالثًا نظر لأنه فسره بالإخلاص، والإخلاص شرط العمل أو صفته، وشرط الشيء وصفته ليسا بقسيم له، ولاشتمال الأقسام الثلاثة على ما ذكر قصر السؤال عليها.

قال النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) إلخ هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لأنا لو قدّرنا أن أحدًا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن الصمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلَّا أتى به فقال صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان" فإن

ص: 42

قَال: فَأَخبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَال:"مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"،

ــ

التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه فلا يَقْدَم العبد على تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعًا من تلبسه بشيء من النقائص احترامًا لهم واستحياءً منه فكيف بمن لا يزال مُطلعًا عليه في سره وعلانيته اهـ منه.

(قال) الرجل (فأخبرني) يا محمد (عن الساعة) أي عن القيامة، أي عن وقت مجيئها، قال الزمخشري: وسميت ساعة لسرعة قيامها أو تفاؤلًا لما هي عليه من الطول، كما سُمِّي المهمه مفازة، أو لأنها عند الله تعالى كساعة، وليس السؤال عن وقت مجيئها ليعلم الحاضرون كالمسؤول عنه في الأسئلة السابقة بل لينزجروا عن السؤال عنها، فإنهم أكثروا السؤال عنها كما قال تعالى:{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} .

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا له (ما المسؤول عنها) أي عن الساعة يريد نفسه (بأعلم من السائل) يريد جبريل عليه السلام أو المراد التعميم لكل سائل ومسؤول عنها، فلما أجيبوا بأنه لا يعلمها إلَّا الله سبحانه كفوا عن السؤال عنها، لأن معنى ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، لا علم لي ولا لك ولا لأحد بها، وكان الأصل أن يقال هكذا ولكن عدل عنه إلى المذكور ليعم كل سائل ومسؤول، ويحتمل أن تكون الفائدة في العدول إلى المذكور التنبيه على أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يصرح بعدم علمه من غير توقف بأن يقول: لا أعلم، لأن ذلك لا يُنقصه بل يدل على ورعه وتقواه ووفور عقله، ويكون المراد علة هذا بالمسؤول نفسه صلى الله عليه وسلم وفيه على هذا مبالغة في التواضع حيث يقول ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.

(فإن قلت) إذا كان المعنى نفي العلم عن الجميع فالتركيب لا يقتضيه بل يقتضي العكس لأن نفي الأفضلية في شيء يقتضي التساوي في مطلق ثبوته، فإذا قلت: ما زيد بأعلم من عمرو فالمعنى إنهما شريكان في العلم وإن زيدًا لا يزيد (قلت) لا يقتضي التساوي في أصل الثبوت بل هو أعم من التساوي في الثبوت أو النفي، وحُمل الحديث على التساوي في النفي، وإن كان الأعمّ لا إشعار له بالأخص المعيَّن لأن عدم إشعاره بذلك إنما هو باعتبار ذات الأعم وإلا فقد تصحب الأعم قرينة لفظ أو سياق يكون

ص: 43

قَال: فَأَخْبِرْنِي عَن أَمَارَتِهَا، قَال: "أَنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَهَا،

ــ

بحسبها يشعر بأحد أخصائه على التعيين، وهو هنا كذلك، والقرينة اللفظية هي قوله:"في عداد خمس" أي في عداد الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والسياقة هي أن الأصل في السائل عدم العلم، وجبريل عليه السلام هنا سائل، فالمعنى: أنت لا تعلم، وأنا لست بأعلم منك، فكلانا لا يعلم، وقيل في الجواب إنه إنما ينفي الأعلمية بوقتها على التعيين، ولهما علم بأن لها مجيئًا في وقت ما وهو العلم المشترك اهـ من الأبي.

قال القرطبي: (والساعة) في أصل الوضع مقدارٌ ما من الزمان غير معين ولا محدود لقوله تعالى: {مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وفي عرف أهل الشرع عبارة عن يوم القيامة، وفي عرف الميقاتيين جزء من أربعة وعشرين جزءًا من أوقات الليل والنهار.

(قال) الرجل السائل إن لم تخبرني يا محمد عن وقت مجيئها (فأخبرني عن أمارتها) وعلاماتها، أي عن القرائن الدالة على قربها، والأمارات جمع أمارة بفتح الهمزة وبالهاء، والأمارُ بحذفها هي العلامة، قال القرطبي: وهي تنقسم إلى معتاد كالمذكورين في الحديث، وكرفع العلم، وظهور الجهل وكثرة الزنا وشرب الخمر وإلى غير معتاد كالدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج والدابة وطلوع الشمس من مغربها، قال ابن رُشد: واتفقوا على أنه لا بد من ظهور هذه الخمسة، واختلفوا في خمسة أُخر خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب والدخان ونار تخرج من قعر عدن تروح معهم حيث راحوا وتقيل معهم حيث قالوا، وزاد بعضهم وفتح القسطنطينية وظهور المهدي، ويأتي الكلام على المهدي إن شاء الله تعالى.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمارات التي تدل على قرب الساعة كثيرة منها (أن تلد) وتضع (الأمة) أي الرقيقة المستفرشة (ربتها) أي مالكها هكذا جاء في رواية بالتأنيث، وفي أخرى ربها بالتذكير، وفي الأخرى بعلها وهو السيد، والرب المالك، وأُنث بالرواية الأولى على معنى النسمة ليشمل الذكر والأنثى، وقيل كراهية أن يقول ربها تعظيمًا للفظ الرب ولذا ورد:"لا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي ومولاي".

قال القرطبي واختلف في معنى قوله: "أن تلد الأمة ربتها" على ثلاثة أقوال: أحدها أن المراد بها أن يستولي المسلمون على بلاد الكفار فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه بأبيه، وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة

ص: 44

وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالةَ

ــ

استيلاء المسلمين على المشركين، وكثرة الفتوح والتسري، وثانيها: أن يبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك فتتداول الأمهات المستولدة فربما يشتريها ولدها أو ابنتها ولا يشعر بذلك، فيصير ولدها ربها، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد والاستهانة بالأحكام الشرعية، وهذا على قول من يرى تحريم بيع أمهات الأولاد وهم الجمهور، ويصح أن يحمل على بيعهن في حال حملهن وهو محرم بالإجماع.

وثالثها: أن يكثر العقوق في الأولاد فيُعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب، ويشهد لهذا قوله في حديث أبي هريرة:"المرأة" مكان الأمة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظًا" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جماعة لم يعرف حالهم.

وفي السنوسي: قال الأكثرون هو كناية عن كثرة أولاد السراري وأمهاتهم، فإن ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، ولا شك أنها مال لأبيه، وقد يتصرف الولد في مال أبيه قبل الموت تصرف المالكين، إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما بما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال.

وقيل إن الإماء يلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي اهـ، وأما بعلها في الرواية الأخرى فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه فيه قال أهل اللغة بعل الشيء ربه ومالكه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} أي ربًا وقيل المراد بالبعل في الحديث الزوج ومعناه نحو ما تقدم أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري وهذا أيضًا معنى صحيح إلا أن الأول أظهر لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى والله أعلم اهـ نووي.

(و) منها (أن ترى) أنت يا محمد (الحفاة) جمع حاف وهو الذي لا يليس في رجله شيئًا (العراة) جمع عار وهو الذي لا يلبس على جسده ثوبًا (العالة) مخفف اللام جمع عائل وهو الفقير، والعيلة الفقر يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، وأما أعال

ص: 45

رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في الْبُنْيَانِ"

ــ

الرجل يُعيل إذا كثر عياله فليس مرادًا هنا (رعاء الشاء) والرعاء بكسر الراء وبالمد جمع راع وأصل الرعي الحفظ قال النووي: ويجمع أيضًا على رعاة كغزاة (والشاء) جمع شاة وهو من الجمع الذي يفرق بينه وبين واحده بالهاء، وهو كثير فيما كان خلقةً لله تعالى كشجرة وشجر وثمرة وثمر، وإنما خص أهل الشاء بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية، وجملة قوله (يتطاولون) أي يتفاخرون (في البنيان) أي في طولها، في محل النصب حال من مفعول ترى لأن الرؤية هنا بصرية.

وهذه الأوصاف هي الغالبة على أهل البادية، ومقصود هذا الحديث الإخبار عن تبدل الحال وتغيره بأن يستولي أهل البادية الذين هم هذه صفاتهم على أهل الحاضرة ويتملكوا بالقهر والغلبة فتكثر أموالهم وتتسع في حطام الدنيا آمالهم، فتنصرف هممهم إلى تشييد المباني وهدم الدين وشريف المعاني، وأن ذلك إذا وجد كان من أشراط الساعة ويؤيد هذا ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس لكع بن لكع" رواه أحمد (5/ 389) والترمذي (2210) واللكع اللئيم، وقد شوهد هذا كله الآن عيانًا، فكان ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى قرب الساعة حجة وبرهانًا.

وفيه دليل على كراهية ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما يضعه في هذا التراب" رواه البخاري (5672) بلفظ: "إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب" ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنة، أي لم يشيد بناءً ولا طوله ولا تأنق فيه اهـ من المفهم.

(فإن قلت) الساعة كما ذكر الله تعالى شيء عظيم فأشراطها ينبغي أن تكون كذلك فالدجال وإِخوانه من ذلك القبيل فما وجه العظم في أن تلد الأمة ربتها وتطاول الرعاء في البنيان (قلت) هو إما باعتبار ما يشعر أن به من تبدل الحال وتغيرها بانقلاب الأعزة أذلة كما في جعلها كناية عن كثرة أولاد السراري، فإن الأمهات بعد عزة التربية والحاجة إليهن في ذلك صرن ذليلات بالسلاطة عليهن، وإما باعتبار ما يشعر أن به من تناهي الحال المنذرة بالانحطاط وقرب الساعة، وإما باعتبار ما يشعر أن به من تغيير أحكام الله

ص: 46

قَال: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَال لِي:"يَا عُمَرُ؛ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَال: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ

ــ

تعالى كما في جعلها كناية عن بيع أمهات الأولاد انتهى من الأبي.

(قال) عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (ثم) بعد هذه الأسئلة والأجوبة (انطلق) وذهب الرجل السائل للنبي صلى الله عليه وسلم (فلبث) أي أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انطلاقه وانصرافه، قال النووي هكذا ضبطناه (لبث) آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير من الأصول المحققة (لبثت) بزيادة تاء المتكلم المضمومة فيكون عمر هو الذي أخبر بذلك عن نفسه، وكلاهما صحيح، والمعنى عليه أي قال عمر ثم انطلق الرجل (فلبثث) أنا (مليًّا) بتشديد الياء أي زمانًا طويلًا وهو من الملاوة وهي القطعة من الدهر وفي ميمها الحركات الثلاثة وقد يُفسر الطول هنا بما في رواية أبي داود والترمذي: "ثم قال لي بعد ثلاث يا عمر

" إلخ وفي شرح السنة للبغوي: "بعد ثالثة" وظاهر هذا أنه قال له بعد ثلاث ليال.

وظاهر هذا الحديث معارض لقوله في حديث أبي هريرة الآتي بعد هذا: "ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا جبريل" الحديث، فيجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس لحاجة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث، إذ لم يكن حاضرًا وقت إخبار الباقين والله أعلم اهـ نووي بتصرف.

(ثم قال لي) رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا عمر أتدري) أي هل تعلم جواب استفهام (من السائل) لي في الأمس عن الإسلام والإيمان والإحسان، أي هل تعلم جنسه واسمه ولم جاء، وقوله من السائل مبتدأ وخبر والجملة الاستفهامية سادة مسد مفعولي درى، قال عمر (قلت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم (الله ورسوله أعلم) بذلك السائل جنسه واسمه وحكمة مجيئه، قال الأبي: إن أعلم على بابه من المفاضلة، لأن تعجبهم من صورة إتيانه الموهمة أنه جن أو ملك كاف في الشركة، أي الله ورسوله أعلم به منا، وإن ظننا أنه جن أو ملك، (قال) رسول اللْه صلى الله عليه وسلم (فإنه جبريل) والفاء في قوله (فإنه جبريل) للإفصاح لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا فوضتم علم جنسه

ص: 47

أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ

ــ

واسمه وسبب مجيئه إلى الله ورسوله وأردتم بيان ذلك لكم فأقول لكم إن جنس ذلك السائل هو الملك، وإن اسمه جبريل، وحكمة مجيئه أنه (أتاكم يعلمكم دينكم) أي أتاكم حالة كونه معلمًا إياكم قواعد دينكم وأساسه وأصوله أي حالة كونه مريدًا التسبب في تعلمكم دينكم بسؤاله إياي، وجملة يُعلم في محل النصب حال من فاعل أتاكم، كما قدرنا، قال السهيلي: جبريل عليه السلام ملك متوسط بين الله تعالى ورسله عليهم السلام ولفظه سرياني، ومعناه عبد الرحمن أو عبد العزيز فيما ذُكر عن ابن عباس مرفوعًا، والأصح فيه الوقف، والأكثر على أن آخر الاسم هو الله تعالى، وقال ابن دريد وغيره: إن الإضافة في لسان العجم عكس ما هي عند العرب، فيقولون في غلام زيد مثلًا: زيد غلام، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن عبد وأول الاسم هو الله تعالى.

وعبارة المفهم قوله: "إنه جبريل" دليل على أن الله تعالى مكن الملائكة من أن يتمثلوا فيما يشاؤوا من صور بني آدم، كما قد نص على ذلك في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَويًّا} [مريم: 17] وقد كان جبريل يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وقد كان لجبريل صورة خاصة خلق عليها لم يره النبي صلى الله عليه وسلم عليها غير مرتين كما صح الحديث بذلك، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف جبريل لكن في آخر الأمر، فأما قبل ذلك فقد جاء في كتاب البخاري التصريح بأنه لم يعرف جبريل إلا في آخر الأمر انتهى.

وقال القاضي عياض: ما تقدم من قوله: ما المسؤول عنها، وما يأتي من قوله صلى الله عليه وسلم رُدوا علي الرجل يدلان على أنه لم يعرفه في الحال، ويحتمل أن يكون عرفه في الحال وأخفى ذلك عن الحاضرين لحكمة الله تعالى في ذلك، ويكون قوله: ما المسؤول عنها بيانًا لأنها لا تخفى على جبريل، وقال لهم: ردوا علي الرجل ليبين لهم بلا شبهة أنه ليس آدميًّا، وتأويل أنه لم يعرفه المصرح به في صحيح البخاري أصح وهو قوله:"أتاكم يعلمكم دينكم وما أتى في صورة إلا عرفته بها إلا في هذه".

قال الأبي: (فإن قلت) قد صح أن عِظمه سد ما بين السماء والأرض فكيف انحصر في قدر الإنسان (قلت) اختلف في الجواب عنه، فقيل يُذهب الله تعالى عنه القدر الزائد ثم يعيده سبحانه إليه، وقيل التمثيل إنما هو في عين الرائي لا في جسد جبريل عليه السلام وقيل لجبريل حقيقة ملكية لا تختلف، وإنما تختلف الصور، والصور قوالب

ص: 48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أقدره الله تعالى على التشكل بضروبها، فقد رآه مرة في صورة دحية الكلبي ورآه أخرى في صورة فحل من الإبل فاتحًا فاه يريد أن يثب على أبي جهل حين أراد أن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا كالروح بالنسبة إلى البدن والروح لا تختلف وإنما يختلف البدن ألا ترى أنه في الجنة ينقلب البدن إلى عالم الأجسام اللطيفة النورانية الملكية، بعد أن كان كثيفًا ثخينًا، والروح لم تختلف فحقيقة جبريل عليه السلام كلها معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم في أي قالب كانت هكذا قالوا والله أعلم وليس فيه نص صريح. اهـ من الأبي.

وقوله (يعلمكم دينكم) أي قواعد دينكم أو كليات دينكم، قال النووي: فيه أن الدين اسم للثلاثة الإسلام والإيمان والإحسان اهـ.

قال القاضي عياض: وهذا الحديث قد اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه.

قال القرطبي: فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه إنه أم السنة لما تضمنه من جمل علم السنة كما سُميت الفاتحة أم القرآن، لما تضمنته من جمل معاني القرآن، كما بسطنا الكلام فيها في تفسيرنا حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن فراجعه.

قال النووي (واعلم) أن هذا الحديث يجمع أنواعًا من العلوم والمعارف والآداب واللطائف بل هو أصل الإسلام كما حكيناه عن القاضي عياض، وقد تقدم في ضمن الكلام السابق، بيان جمل من فوائده، ومما لم نذكره من فوائده أنه يدل على أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع، وعلى أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله والله أعلم انتهى.

(واعلم) أن حكم سند هذا الحديث الصحة ودرجته أنه صحيح، وغرض المؤلف بذكره الاستدلال به على الترجمة، لأنه دل على الجزئين الأولين من الترجمة، وهو بيان معاني الإسلام والإيمان والإحسان الشرعية، وبيان وجوب الإيمان بالقدر وهو من

ص: 49

2 -

(000) وَحَدَّثَنِي (1) مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيدٍ الغُبَرِيُّ وَأبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِي وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ

ــ

الأصول لا من الشواهد والتوابع، وشارك المؤلف رحمه الله تعالى في رواية هذا الحديث أبو داود (4695) والترمذي (2613) والنسائي (9718) وابن ماجه (63) وأحمد (1/ 51) ثم استتبع المؤلف رحمه الله تعالى لحديث كهمس فقال:

(2)

- متا 1 (00)(وحدثني محمد بن عبيد) مصغرًا بن حساب بكسر الحاء وتخفيف السين المهملة آخره موحدة (الغبري) بضم الغين المعجمة وتخفيف الموحدة المفتوحة، أبو عبد الله البصري روى عن أبي عوانة وحماد بن زيد وإسماعيل بن علية وجماعة ويروي عنه (م د س) وأبو زرعة وأبو حاتم وخلق، وقال في التقريب ثقة من العاشرة مات سنة (238) ثمان وثلاثين ومائتين، وقال ابن منجويه روى عنه المؤلف عن حماد بن زيد في كتاب الإيمان، وفي باب الجنائز وفي غيرهما، وعنه عن أبي عوانة في كتاب الأدب، وعنه عن جعفر بن سليمان في باب (المرء مع من أحب) وجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيهما خمسةٌ تقريبًا (و) حدثني أيضًا (أبو كلامل) فضيل بن حسين بن طلحة (الجحدري) بفتح الجيم وبعدها حاء ساكنة البصري، روى عن الحمادين وأبي عوانة وسُليم بن أخضر ويروي عنه (م د س) وزكريا الساجي والبغوي وجمع، وقال في التقريب: ثقة حافظ من العاشرة مات سنة (237) سبع وثلاثين ومائتين.

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان والصلاة والصوم والحج والجهاد، وباب حق الجار وغيرها، وجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ستة تقريبًا.

(و) حدثني أيضًا (أحمد بن عبدة) بن موسى الضبي أبو عبد الله البصري، روى عن حماد بن زيد وأبي عوانة وعبد الواحد بن زياد وفضيل بن عياض وخلق، ويروي عنه (م عم) وعبد الله بن محمد البغوي وابن خزيمة وخلق، وثقه أبو حاتم والنسائي، وقال في التقريب ثقة من العاشرة مات سنة (245) خمس وأربعين ومائتين، روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان والصلاة والزكاة وغيرها.

وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه، لأن كلًّا من الثلاثة ثقة، ومن لطائفه أن كلًّا

(1) في نسخة: (حدثني).

ص: 50

قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ بُرَيدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَال: لَمَّا تَكَلَّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ في شَأنِ القَدَرِ .. أَنْكَرْنَا ذَلِكَ، قَال: فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَجَّةً

ــ

منهم بصريون من العاشرة، ثلاثتهم (قالوا حدثنا حماد بن زيد) بن درهم الأزدي أبو إسماعيل البصري أحد الأئمة الأعلام، روى عن أنس بن سيرين وعاصم بن بهدلة وثابت وأيوب ومطر الوراق، وخلق ويروي عنه (ع) والثوري وابن مهدي وابن المديني وخلق، وقال في التقريب ثقة فقيه من كبار الثامنة مات سنة (179) تسع وسبعين ومائة وله (81) سنة وكان ضريرًا يحفظ حديثه كله، وكان جده درهم من سبي سجستان، روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان والبيوع والفتن والوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج والنكاح واللباس والأيمان والجهاد والأطعمة والأدب وجملة الأبواب التي روى عنه فيها أربعة عشر تقريبًا.

(عن مطر) بفتحتين بن طهمان بفتح فسكون أبي رجاء (الوراق) كان يكتب المصاحف فقيل له الوراق السلمي مولاهم الخراساني ثم البصري، روى عن أنس مرسلًا وعكرمة وعبد الله بن بريدة وغيرهم، ويروي عنه (م عم) وابن أبي عروبة والحمّادان وغيرهم قال أحمد هو في عطاء ضعيف وقال في التقريب صدوق كثير الخطأ من السادسة مات سنة (125) خمس وعشرين ومائة.

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الوضوء والصلاة والحج وكتاب البيوع وفي بيع المدبر وفي صفة أهل الجنة وأهل النار فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها سبعة تقريبًا.

وغرض المؤلف رحمه الله تعالى بسوق هذا السند بيان متابعة مطر الوراق لكهمس بن الحسن في رواية هذا الحديث عن عبد الله بن بريدة متابعة تامة وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن مطرًا المتابع ضعيف أو صدوق فلا يقوى المتابع ومن لطائف هذا السند أن رواته كلهم بصريون (عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال) يحيى (لما تكلم معبد) الجهني (بما تكلم به في شأن القدر) وحكمه وهو نفسه (أنكرنا) نحن أهل السنة (ذلك) الكلام الذي تكلم به في شأن القدر عليه (قال) يحيى بن يعمر (فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة) هو بكسر الحاء المهملة وفتحها

ص: 51

وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِهِ، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ.

3 -

(00) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ،

ــ

لغتان فالكسر هو المسموع من العرب والفتح هو القياس كالضربة وشبهها وذكر المؤلف هنا ما ذكر من المتن لما فيه من المخالفة لما في الرواية الأولى فلا اعتراض عليه.

وقوله (وساقوا الحديث) بواو الجماعة تحريف من النساخ لأن المتابع هنا واحد وهو مطر الوراق والصواب (وساق الحديث) أي وذكر مطر الوراق الحديث (بمعنى حديث كهمس) السابق لا بلفظه (و) بـ (ـإسناده) أي وبإسناد كهمس يعني عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وقوله بإسناده حشو لا حاجة إليه لأنه ذكر هنا تمام السند (وفيه) أي وفي ذلك المعنى الذي رواه مطر الوراق (بعض زيادة) من الألفاظ التي عبر بها عن ذلك المعنى على ما رواه كهمس (ونقصان أحرف) وألفاظ مما رواه كهمس والمعنى وفي ذلك المعنى الذي رواه مطر شيء من الزيادة على ما رواه كهمس وشيء من النقصان مما رواه كهمس، ولو قال أولًا بنحو معنى حديث كهمس لاستغنى عن هذه الجملة الركيكة.

وقد مر لك في أوائل المقدمة أن قوله بنحو معناه عبارة عن الحديث اللاحق الموافق للحديث السابق في بعض معناه دون لفظه.

ثم استتبع المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث كهمس فقال:

(3)

- متا 2 (00)(وحدثني محمد بن حاتم) بن ميمون أبو عبد الله المؤدب السمين المروزي ثم البغدادي روى عن يحيى بن سعيد القطان ووكيع وابن علية وابن عيينة وغيرهم، ويروي عنه (م د) وأحمد بن الحسن الصوفي وجماعة وثقه الدارقطني وابن عدي وأفرط ابن معين فكذبه، وقال في التقريب صدوق ربما وهم وكان فاضلًا من العاشرة مات سنة (235) خمس وثلاثين ومائتين.

وروى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الوضوء وفي الصلاة وفي الصوم وفي الحج في ثلاثة مواضع وفي الديات وفي الأحكام وفي الجهاد وفي اللباس وفي الأمثال وفي الفتن في موضعين، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها أحد عشر بابا تقريبًا.

قال محمد بن حاتم: (حدثنا يحيى بن سعيد) بن فروخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم خاء معجمة (القطان) التميمي أبو سعيد البصري كان من

ص: 52

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وَحُمَيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالا: (لَقِينَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ

) فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ كَنَحْو حَدِيثِهِمْ

ــ

سادات أهل زمانه حفظًا وورعًا وفهمًا وفضلًا ودينًا وعلمًا وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن النقل وترك الضعفاء أحد أئمة الجرح والتعديل، روى عن عثمان بن غياث وسليمان التيمي وحميد الطويل ويحيى بن سعيد الأنصاري وخلق، ويروي عنه (ع) وشعبة وابن مهدي وأحمد وإسحاق وابن المديني وخلائق، وقال في التقريب: ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار التاسعة مات سنة (198) ثمان وتسعين ومائة وله ثمان وسبعون (78) سنة.

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان في مواضع وفي الوضوء وفي الصلاة في موضعين وفي الجنائز وفي الزكاة في ثلاثة مواضع وفي الصوم وفي الحج وفي كفارة المرض وفي النكاح وفي البيوع وفي الديات وصفة الحشر وعذاب القبر فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ثلاثة عشر بابا تقريبًا.

قال يحيى (حدثنا عثمان بن غياث) بغين معجمة وثاء مثلثة الراسبي أو الزهراني البصري روى عن عبد الله بن بريدة وأبي عثمان النهدي وعكرمة، ويروي عنه (خ م د س) وشعبة ويحيى القطان وغيرهم، قال ابن المديني: له نحو عشرة أحاديث، وقال أحمد: ثقة يرى الإرجاء، وقال في التقريب: ثقة من السادسة، روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في ثلاثة أبواب فقط في كتاب الإيمان وفي فضل عثمان بن عفان رضي الله عنه وفي باب الدعاء.

قال عثمان بن غياث (حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا) أي قال يحيى وحميد (لقينا عبد الله بن عمر) أي رأيناه في المسجد الحرام (فذكرنا) نحن له شأن (القدر) أي ما نقول ونعتقد فيه من وجوبه لله تعالى ووجوب الإيمان به (و) ذكرنا له (ما يقولون فيه) أي ما يقول مبتدعة البصرة، معبد وأصحابه فيه من نفيه وعدم وجوب الإيمان به (فاقتص) عثمان بن غياث (الحديث) السابق عن عمر وذكره، وقوله (كنحو حديثهم) بضمير الجمع من تحريف النساخ والصواب (كنحو حديثهما) بضمير التثنية، لأن المتابع بصيغة اسم المفعول اثنان كهمس ومطر والكاف في قوله كنحو حديثهما زائدة لأن الكاف بمعنى المثل والمثل

ص: 53

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ شَيء مِنْ زِيَادَةٍ وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيئًا.

4 -

(00) وَحَدَّثَنِي حَجاجُ بْنُ الشاعِرِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ،

ــ

والنحو ضدان فلا يجتمعان، والمعنى واقتص عثمان بن غياث الحديث (عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديثهما أي نحو حديث كهمس ومطر الوراق والضمير في قوله (وفيه) عائد إلى النحو الذي رواه عثمان بن غياث أي وفي ذلك النحو الذي رواه عثمان بن غياث (شيء من زيادة) على حديث كهمس ومطر (وقد نقص) عثمان بن غياث (منه) أي من الحديث المروي عن عمر (شيئًا) قليلًا من النقص وهذه الجملة حشو لا حاجة إليها لأن مضمونها مفهوم من قوله كنحو حديثهما وغرض المؤلف رحمه الله تعالى بسوق هذا السند بيان متابعة عثمان بن غياث لكهمس بن الحسن ومطر الوراق عن عبد الله بن بريدة وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن المتابع والمتابع كليهما ثقتان.

ثم استتبع المؤلف رحمه الله تعالى ثالثًا لحديث عبد الله بن بريدة فقال:

(4)

- متا 3 (00)(وحدثني حجاج) بن يوسف بن حجاج الثقفي المعروف بـ (ابن الشاعر) البغدادي الحافظ روى عن يونس بن محمد المؤدب وروح بن عبادة وعبيد الله بن موسى وحجاج بن محمد وعفان بن مسلم وخلق ويروي عنه (م د) والمحاملي وابن أبي حاتم وغيرهم وقال في التقريب ثقة حافظ من الحادية عشرة مات سنة (259) تسع وخمسين ومائتين.

روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان وفي الصلاة في أربعة مواضع وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحج في موضعين وفي النكاح وفي البيوع في أربعة مواضع وفي الجهاد وفي الفضائل في ثلاثة مواضع وفي باب الصيد وفي الذبائح وفي باب الضحايا وفي الطب وفي الدعاء وفي باب صفة الجنة فجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها أربعة عشر بابا تقريبًا.

قال الحجاج: (حدثنا يونس بن محمد) بن مسلم البغدادي أبو محمد المؤدب الحافظ روى عن حرب بن ميمون وفليح ونافع بن عمر والحمادين وجماعة ويروي عنه (ع) وابنه إبراهيم وأحمد وعلي بن المديني وابنا أبي شيبة وحجاج بن الشاعر وجماعة، وثقه

ص: 54

حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْو حَدِيثِهِمْ

ــ

ابن معين ويعقوب بن شيبة وقال في التقريب ثقة ثبت من صغار التاسعة مات سنة (207).

روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان وفي الصلاة وفي النكاح في موضعين وفي باب الأطعمة وفي الفتن فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها خمسة أبواب قال يونس بن محمد (حدثنا المعتمر) بن سليمان بن طرخان التيمي أبو محمد البصري أحد الأئمة الأعلام نزل في تيم وكان يلقب بالطفيل، روى عن أبيه سليمان وحميد الطويل ومنصور وكهمس وأيوب ويروي عنه (ع) وابن المبارك وابن مهدي وعفان والثوري، وثقه أبو حاتم وابن معين وابن سعد، وقال في التقريب: ثقة من كبار التاسعة مات سنة (187) وليس معتمر عندهم إلا هذا الثقة.

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الصلاة في ثلاثة مواضع، وفي الوضوء (الماء من الماء) وفي اللِّعان والجهاد، وفي الصوم وفي الحج وفي النكاح وفي الأدب وفي الشعر فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها عشرة تقريبًا.

(عن أبيه) سليمان بن طرخان أبي المعتمر البصري التيمي نزل في التيم فنسب إليهم، أحد سادة التابعين علمًا وعملًا، وكان أبوه طرخان مكاتبًا لبني قرة، وكانت امرأته مكاتبة لبني سليم، فأعتقت قبل طرخان فولدت سليمان وهي حرة، قال المعتمر بن سليمان: قال لي أبي: اكتب القيسي فإن أمي مولاة لقيس وأبي عبد لقيس أحدهما قيس بن ثعلبة والآخر قيس عيلان.

روى عن أنس وأبي عثمان النهدي وطاوس ويحيى بن يعمر، ويروي عنه (ع) وابنه المعتمر وشعبة وابن المبارك وخلق، وقال في التقريب: ثقة عابد من الرابعة مات سنة (143) ثلاث وأربعين ومائة عن (99) تسع وتسعين سنة وقيل (97) سبع وتسعين.

روى عنه المؤلف في الإيمان في ثلاثة مواضع وفي الوضوء وفي الصلاة في ثلاثة مواضع وفي الصوم وفي النكاح وفي الجهاد والزكاة في موضعين وفي الحج وفي الأشربة في ثلاثة مواضع وفي ذكر موسى والقدر وفي الفضائل وفي الجامع وفي الفتن فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ثلاثة عشر بابا تقريبًا.

(عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر) رضي الله عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله (بنحو حديثهم) تحريف من النساخ ولعل الصواب (بنحو حديثه) لأن

ص: 55

5 -

(9) حَدَّثَنَا (1) أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ وَزُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا

ــ

المتابع واحد وهو سليمان بن طرخان، والمعنى روى أبو المعتمر سليمان بن طرخان بنحو حديث عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر فغرض المؤلف بسوق هذا السند بيان متابعة أبي المعتمر لعبد الله بن بريدة في رواية هذا الحديث عن يحيى بن يعمر.

وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن المتابع والمتابَع ثقتان ورجال هذا السند اثنان منهم بغداديان، وثلاثة بصريون، ومن لطائفه أن فيه رواية ولد عن والده في موضعين، ورواية صحابي عن صحابي والله أعلم.

فجملة ما ذكره المؤلف رحمه الله سبحانه وتعالى في حديث عمر بن الخطاب من المتابعة ثلاثةٌ، متابعة مطر الوراق لكهمس، ومتابعة عثمان بن غياث لكهمس ومطر، ومتابعة سليمان بن طرخان لعبد الله بن بريدة، ثم استشهد المؤلف لحديث عمر بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما بعد ما استدل على الترجمة بحديث عمر تقوية له فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة

إلخ وفي بعض النسخ هنا ترجمة وهي (باب الإيمان ما هو وبيان خصاله).

(5)

- ش (9)(حدثنا أبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي بموحدة مولاهم الكوفي الحافظ أحد الأئمة الأعلام ممن كتب وصنف وجمع، روى عن إسماعيل بن عُلية وشريك وهشيم وابن المبارك وجرير بن الحميد وابن عيينة وخلق، ويروي عنه (خ م د س ق) وأبو زرعة وأحمد بن علي المروزي وخلق.

روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان في موضعين وفي الوضوء وفي الصلاة في ثلاثة مواضع وفي الجنائز والزكاة والصوم في ثلاثة مواضع وفي الحج في موضعين وفي النكاح في ثلاثة مواضع وفي الفضائل في موضعين وفي الجهاد وفي اللباس وفي الأطعمة في موضعين وفي الطب وفي الدعاء وفي صفة الحشر، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها خمسة عشر تقريبًا.

(و) كذلك حدثنا (زهير بن حرب) بن شداد الحرشي بمهملتين ثم شين معجمة أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد من العاشرة مات سنة (234) أربع وثلاثين ومائتين، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه لأن المتقارنين ثقتان وقوله (جميعًا) حال من الفاعل أتى به

(1) في نسخة: (وحدثنا).

ص: 56

عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَال زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حَيانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ ابْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ،

ــ

للتأكيد، أي حالة كونهما مجتمعين في الرواية (عن) إسماعيل بن إبراهيم بن سهم بن مقسم القرشي الأسدي مولاهم مولى بني أسد بن خزيمة الحافظ البصري المعروف بـ (ـا بن عُلية) بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء اسم أمه وهي أيضًا مولاة لبني أسد بن خزيمة، روى عن أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي وأيوب وعطاء بن السائب وروح بن القاسم وخلق ويروي عنه (ع) وابن أبي شيبة وزهير بن حرب وعلي بن حجر وأحمد وابن راهويه وخلق، وقال في التقريب: ثقة حافظ من الثامنة ولد سنة عشر ومائة (110) ومات سنة (193) ثلاث وتسعين ومائة في ذي القعدة.

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الجهاد في موضعين وفي الفضائل في موضعين وفي التفسير وفي الصلاة وفي الزكاة والنكاح وفي الصوم في ثلاثة مواضع وفي الحج في خمسة مواضع وفي الوصايا والفتن في موضعين وفي الأشربة في موضعين وفي الأطعمة وفي القدر، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها أربعة عشر بابا تقريبًا.

(قال زهير) بن حرب في صيغة روايته عنه (حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) بصريح صيغة السماع وبذكر اسمه واسم أبيه، وأما أبو بكر بن أبي شيبة فروى عنه بالعنعنة، وبنسبته إلى أمه لكونه معروفًا بها، وفصل بين صيغتي شيخيه تورعًا من الكذب على أحدهما لو اقتصر على إحدى الصيغتين.

أي روى كل منهما عن ابن عُلية حالة كون ابن علية راويًا (عن أبي حيان) يحيى بن سعيد بن حبَّان بمهملة وتحتانية التيمي تيم الرباب بفتح الراء إخوة بني عدي الكوفي المدني العابد، روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير وأبيه وعمه يزيد بن حيان والشعبي وخلق، ويروي عنه (ع) وإسماعيل بن علية وأيوب وشعبة وابن المبارك والثوري وجماعة، قال العجلي: ثقة صالح صاحب سنة، وقال في التقريب: ثقة عابد من السادسة مات سنة (145) خمس وأربعين ومائة، روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الجهاد وفي الفضائل في موضعين وفي الهبة والفتن والتفسير، فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ستة تقريبًا (عن أبي زرعة) هَرِم (بن عمرو بن جرير) بن عبد الله البجلي الكوفي، وقيل اسمه عمرو وقيل عبد الله وقيل عبد الرحمن وقيل جرير مشهور

ص: 57

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا بَارِزًا لِلناسِ، فَأتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِيمَانُ؟ قَال: "أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ"

ــ

بكنيته، روى عن أبي هريرة وجده جرير بن عبد الله ومعاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، ويروي عنه (ع) وأبو حيان التيمي وعلي بن مُدرك وعمه إبراهيم بن جرير وإبراهيم النخعي وغيرهم، ثقة من الثالثة.

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي باب الفتن وفي غيرهما.

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني رضي الله عنه تقدمت ترجمته في أوائل الكتاب (قال) أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) من الأيام (بارزًا للناس) أي ظاهرًا بالبَراز خارجًا إليه لأجلهم، وهو الفضاء ومنه قوله تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} وقوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} وقوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ} (فأتاه) أي جاءه صلى الله عليه وسلم (رجل) غير معروف لهم (فقال) ذلك الرجل (يا رسول الله ما الإيمان) أي ما حقيقته وماهيته وأركانه وأجزاؤه، لأن ما يسأل بها عن الحقيقة، وأما قوله في حديث أبي هريرة يا رسول الله بدل قوله في حديث عمر يا محمد فهو نقل بالمعنى، وحديث عمر نقل باللفظ والله أعلم.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا لسؤاله الإيمان أي حقيقته وأركانه (أن تؤمن) وتصدق (بالله) أي بوحدانيته تعالى (و) بوجود (ملائكته) أي وبوجود عباد له مكرمين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (و) بإنزال (كتابه) الذي أنزله على بعض رسله، والمراد بكتابه الجنس الصادق بجميع كتبه المنزلة على رسله وهي مائة وعشرة (و) بـ (ـلقائه) سبحانه وتعالى بالموت (و) بإرسال (رسله) بشريعته إلى جميع المكلفين ليأمروهم بها (وتؤمن بالبعث الآخر) بكسر الخاء واللقاء الموت والبعث الآخر القيام للحساب، قال القاضي عياض: وصف البعث بالآخر تأكيدًا أو لأن الخروج من الأرحام بعث أول اهـ.

وقال النووي: واختلف في المراد بالجمع بين الإيمان بلقاء الله تعالى والإيمان بالبعث، فقيل اللقاء يحصل بالانتقال إلى دار الجزاء والبعث بعده عند قيام الساعة،

ص: 58

قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِسْلامُ؟ قَال: "الإِسْلامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّه وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شيئًا،

ــ

وقيل اللقاء ما يكون بعد البعث عند الحساب ثم ليس المراد باللقاء رؤية الله تعالى فإن أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله تعالى لأن الرؤية مختصة بالمؤمنين ولا يدري الإنسان بماذا يختم له.

وأما وصف البعث بالآخر فقيل هو مبالغة في البيان والإيضاح وذلك لشدة الاهتمام به وقيل سببه أن خروج الإنسان إلى الدنيا بعث من الأرحام، وخروجه من القبر للحشر بعث من الأرض، فقيد البعث بالآخر ليتميز عن الأول والله أعلم.

وإنما أعاد العامل في قوله (وتؤمن بالبعث الآخر) وكذا الجار، ولم يكتف بالعطف على لفظ الجلالة اهتمامًا بشأنه لأن مشركي مكة وغيرهم من سائر المشركين ينكرونه.

(قال) الرجل السائل (يا رسول الله) هذا نقل بالمعنى كما عرفت (ما الإسلام) أي ما حقيقته وماهيته (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإسلام) أي حقيقته وماهيته (أن تعبد الله) سبحانه وتعالى وتوحده وقوله (ولا تشرك به) سبحانه وتعالى (شيئًا) من المخلوقات حيوانًا ولا جمادًا مَلَكًا أو إنسانًا أو جنًّا حيًّا أو ميتًا، تفسير له، وهذا نقل بالمعنى، وأما حديث عمر (أن تشهد أن لا إله إلا الله) نقل باللفظ، قال النووي: أما العبادة فهي الطاعة مع خضوع فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى والإقرار بوحدانيته فعلى هذا يكون عطف الصلاة والصوم والزكاة عليها لإدخالها في الإسلام لأنها لم تكن دخلت في العبادة، وعلى هذا إنما اقتصر على هذه الثلاثة لكونها من أركان الإسلام، وأظهر شعائره، والباقي ملحق بها ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وما بعدها عليها من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيهًا على شرفه ومزيته كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} ونظائره.

وأما قوله (ولا تشرك به شيئًا) فذكره بعد العبادة التي هي التوحيد مع دخول عدم الشرك فيها للتفسير، ولأن الكفار كانوا يعبدونه سبحانه وتعالى في الصورة، ويعبدون معه أوثانًا يزعمون أنها شركاء لله تعالى، فنفى به عملهم هذا اهـ. كما يقولون: (لبيك اللهم

ص: 59

وَتُقِيمَ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ"

ــ

لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه هو وما ملك) (و) أن (تقيم الصلاة المكتوبة) أي المفروضة، أي أن تؤديها بأركانها وشرائطها وآدابها أو تُديم إقامتها وتحافظ عليها (و) أن (تؤدي) أي تصرف (الزكاة المفروضة) أي الواجبة في مصارفها الثمانية المبينة في القرآن الكريم.

قال النووي إقامة الصلاة إدامتها، وقيل هو فعلها على ما ينبغي لها ويطلب فيها، قال: والأول أوجه، قال الأبي: بل المعنى الثاني أوجه لأنه يستلزم الأول، والكتب في الصلاة والفرض في الزكاة بمعنى واحد، وغاير بينهما كراهية تكرير اللفظ بعينه، فهو مذموم إلا أن يفيد معنى زائدًا، وهذا هو المسمى عند البديعيين بالتفنن وهو ذكر نوعين من الكلام لثقل تكرار أحدهما على اللسان، قال الأبي: ويظهر لي أنه إنما فعل ذلك أعني تخصيص الصلاة بالكتب والزكاة بالفرض لأنه عُرف الشرع فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقال صلى الله عليه وسلم: "وخمس صلوات كتبهن الله" وقال أيضًا: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وقال أيضًا: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل"، وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر إلى غير ذلك من آية وحديث.

وخص الزكاة بلفظ الفرض لأن الفرض التقدير، وفي الزكاة تقديرات، تقدير النصاب، وتقدير القدر المخرج وتخمين الثمر على الشجر إلى غير ذلك، وقال المارزي وقيدتا بالكتب والفرض لأن في كل منهما ما هو غير واجب كركعتي الفجر وسائر النوافل في الصلاة، وكالزكاة المعجلة قبل الحول فإنها تسمى زكاة وليست بفرض وتجزئ عند بعضهم، وكزكاة الفطر على القول بأنها سنة وكسائر صدقات التطوع.

قال القرطبي: وتقييده في فذا الحديث الصلاة بالمكتوبة والزكاة بالمفروضة دليل على أن النوافل لا تدخل في مسمى الإسلام الشرعي فيخرج الصلوات المسنونات وغيرها، وزكاة الفطر على قول من يرى أنها سنة، وصدقات التطوع وهذا كله يدور على القول بدليل الخطاب على ما أوضحناه في الأصول انتهى.

(و) أن (تصوم) شهر (رمضان) قال القرطبي: وهذا دليل على جواز أن يقال

ص: 60

قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِحْسَانُ؟ قَال: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ .. فَإِنهُ يَرَاكَ".

قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَال: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا

ــ

رمضان بلا إضافة شهر إليه خلافًا لمن يقول لا يقال رمضان بل يقال شهر رمضان متمسكًا في ذلك بحديث لا يصح، وهو أنه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى" أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث أبي معشر ولا يحتج به، ولو سلمنا صحته لكانت الأحاديث التي فيها ذكر رمضان من غير شهر هي الأولى بالصحة، لأنها أصح وأشهر ولأن مثبته منكر إذ لم يوجد في شيء من أسماء الله تعالى رمضان، ولأن المعنى الذي اشتق منه رمضان محال على الله تعالى، وحُكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني أنه قال: إنما يكره ذلك فيما يدخل في الكلام لبسًا مثل جاء رمضان ودخل رمضان، وأما صمنا رمضان فلا بأس به انتهى.

(قال) الرجل السائل (يا رسول الله ما) حقيقة (الإحسان) والإخلاص في العمل (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا له الإحسان (أن تعبد الله) أي أن تخلص عملك لله تعالى (كأنك تراه) وتشاهده، أي إن الإحسان عبادتك له مستحضرًا في عملك خشوعًا وخضوعًا مثل خضوعك له حين تراه وتشاهده لو رأيته (فإنك) أيها العابد لربه (أن لا تراه) أي إن لم ترَ ربك حين تعبده (فإنه) سبحانه وتعالى (يراك) أي يرى ذاتك وعملك، ويعلم أنك أخلصت فيه أم لا، والمعنى أخلص عملك له إخلاصًا كإخلاص من يراه ويشاهده ويقوم بين يديه ولا يلتفت إلى غيره.

(قال) الرجل (يا رسول الله متى) قيام (الساعة) وأي وقت مجيء القيامة، قال القرطبي: مقصود هذا السؤال امتناع السامعين من السؤال عنها إذ قد كانوا أكثروا السؤال عن تعيين وقتها كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} وهو كثير في الكتاب والسنة فلما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعلمها إلا الله يئس السائلون من معرفتها فانكفوا عن السؤال عنها، وهذا بخلاف الأسئلة الأُخر فإن مقصودها استخراج الأجوبة عنها ليستعملها السامعون ويعمل بها العاملون انتهى.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا له (ما المسؤول عنها) يريد نفسه

ص: 61

بِأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَن اشرَاطِهَا:

ــ

(بأعلم من السائل) يريد الرجل، أي أنا وأنت وغيرنا من المخلوقات سواءٌ في عدم علم وقت مجيء الساعة لأنها من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه فلا يعلم أحد وقت مجيئها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال الرجل السائل (ولكن) حدثني يا رسول الله عن أشراطها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سأحدثك عن أشراطها) أي في الزمن القريب أخبرك عن أشراط الساعة وأماراتها التي تدل على قربها، وإنما أوَّلنا هذا الحديث هكذا ليحصل الجمع بين هذا الحديث الوارد بطريق أبي هريرة، وبين الحديث الوارد بطريق عمر السابق قبل هذا، لأن بين الحديثين معارضة، لأن قوله في حديث عمر (فأخبرني عن أماراتها) يدل على أن المبتدئ بالسؤال جبريل عليه السلام والمجيب هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله هنا في حديث أبي هريرة (ولكن سأحدثك عن أشراطها) يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب وأخبر له بلا سبق سؤال منه، فيجمع بينهما بأن جبريل عليه السلام ابتدأ بالسؤال المقدر كما قدرناه فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(سأحدثك عن أشراطها) فذكر في حديث عمر السؤال والجواب، وذكر في حديث أبي هريرة الجواب وحذف السؤال، فبهذا يزول التعارض بين الحديثين والله أعلم.

وعبارة القرطبي هنا قوله (سأحدثك عن أشراطها) هكذا في حديث أبي هريرة وفي حديث عمر (قال فأخبرني عن أماراتها) ووجه الجمع بينهما أنه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم سأحدثك عن أشراطها حتى قال له جبريل فأخبرني عن أمارتها فذكر في إحدى الروايتين السؤال والجواب، وفي الأخرى الجواب فقط والله أعلم انتهى.

(فائدة) قال الأبي: إذا ورد حديثان في معنى بطريقين بينهما تنافٍ فلا بد من الجمع بين الطريقين، وطريق الجمع إن اتحد الموطن أن يُذكر وجهٌ يناسب، وإن تعدد الموطن فالجمع بان يذكر أيضًا وجهٌ يناسب، أو يقال إنه ذكر في موطن ما لم يذكر في موطن آخر، وهذا الحديث مع الأول من هذا القبيل، ففي الأول المبتدئ بالسؤال جبريل عليه السلام، وفي هذا النبي صلى الله عليه وسلم فيجمع بينهما بأن يكون جبريل عليه السلام ابتدأ بالسؤال فقال النبي صلى الله عليه وسلم سأحدثك، فذكر في الأول السؤال وفي الثاني الجواب انتهى.

وقوله (سأحدثك عن أشراطها) قال النووي: والأشراط بفتح الهمزة جمع شرط

ص: 62

إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا .. فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَتِ العُرَاةُ الْحُفَاةُ رُؤُوسَ النَّاسِ .. فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ في الْبُنْيَانِ .. فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا،

ــ

بفتح الشين والراء، والأشراط العلامات وقيل مقدماتها وقيل صغار أمورها قبل تمامها وكله متقارب انتهى.

قال القرطبي: ومنه سُمي الشُرَطُ لأنهم يجعلون لأنفسهم علامات يُعرفون بها، فقيل أشراط الساعة مقدماتها، وأشراط الشيء أوله، ومنه سُمي الشُرطان لتقدمه الربيع، وقيل الأشراط جمع شرط وهو الدون من الشيء، فأشراط الساعة صغار أمورها المتقدمة عليها ومنه سُمي الشُرَطُ انتهى.

قال الأبي: الشُرطان هي المنزلة المعروفة، وذكرها الزجاج في مقدمة شرح أدب الكتاب بالسين المهملة، وذكر بعض أهل اللغة أنهما سيان انتهى.

ثم ذكر الأشراط الموعودة فقال منها (إذا ولدت) أي وضعت (الأمة) أي الرقيقة وفي بعض الروايات "إذا ولدت المرأة" أي حرة كانت أو رقيقة (ربها) أي سيدها ومالكها (فذاك) أي ولادها ووضعها ربها (من) بعض (أشراطها) أي من بعض أشراط الساعة وأمارات قربها وتقدم ما فيه من التفاسير (و) منها (إذا كانت) الأعراب (العراة) جمع عار وهو الذي لا شيء عليه من اللباس (الحفاة) جمع حاف وهو الذي لا نعل له (رووس الناس) وسادتهم وساستهم، قال الأبي: ليس قوله رؤوس الناس بمناف لقوله الأول يتطاولون في البنيان لأن تطاولهم لتغلبهم على الناس اهـ (فذاك) أي كونهم سادة الناس (من أشراطها).

(و) منها (إذا تطاول رعاء البهم) أي تفاخروا بالطول (في البنيان) والعمائر (فذاك) التطاول والتباهي (من أشراطها) أي من أشراط قربها كما هو شأن أهل زماننا.

والرِعاء بكسر الراء جمع راعٍ، وقد مر لك أنه يجمع على رعاة كغازٍ وغُزاة يقال: تطاول في البنيان إذا تفاخر وتباهى على غيره بطول بنيانه علي بنيانه، ويقال تطاول إذا تسابق وتغالب في طول البنيان مع غيره فغلبه فيه، أي إذا تطاول رِعاء الشاء البهم، والبهم بفتح الباء وسكون الهاء هي صغار الغنم، أي الصغار من أولاد الغنم الضأن والمعز جميعًا، وقيل من الضأن خاصة، وقيل من المعز خاصة وأصله كل ما استبهم من

ص: 63

في خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُن إِلَّا اللهُ، ، ثُمَّ تَلا صلى الله عليه وسلم:

ــ

الكلام أي انغلق عليه واستعجم فلم يقدر عليه ومنه سُميت البهيمة لاستبهامها عن العقل، وقيل هو صغير الحيوان من غير الآدمي مطلقًا، والصغير ما ولد لشهرين، قال القاضي عياض: ووقع في البخاري (رعاء الإبل البُهم) بضم الباء أي السواد جمع بهيم، ثم رويناه بكسر الميم صفة للإبل لأن الإبل شرها السود، وبضمها صفة للرعاء لأن السواد غالب ألوانهم، وقيل معنى كون الرعاء بُهمًا أنهم عالة فقراء لا شيء لهم، من قوله صلى الله عليه وسلم:"يحشر الناس حفاة عراة بُهمًا" ولا يبعد أن يعني بالبهم العرب لأن غالب ألوانهم الأدمة، ويؤيده أن في بعض الروايات قال: يعني العرب تفسيرًا للبهم، وحديث: "بعثت إلى الأحمر والأسود قيل إنَّ الأسود السودان والعرب، والأحمر غيرهم من البيض، وقيل الأسود الشياطين، والأحمر الإنس وهو عند بعض رواة البخاري.

(البهم) بفتح الباء ولا وجه له مع ذكر الإبل، وقال الخطابي البهم المجهول الذي لا يُعرف من أبهم الأمر، ومن جر الميم جعله صفة للإبل أي السود لردائتها والله أعلم.

قال القرطبي: واقتصر في هذا الحديث على ذكر بعض الأشراط التي يكون وقوعها قريبًا من زمانه وإلا فالشروط كثيرة، وهي أكثر مما ذكر هنا كما دل عليه الكتاب والسنة، ثم إنها منقسمة إلى ما يكون من نوع المعتاد كهذه الأشراط المذكورة في هذا الحديث، وكرفع العلم وظهور الجهل وكثرة الزنا وشرب الخمر إلى غير ذلك، وأما التي ليست من النوع المعتاد فكخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها والدخان والنار التي تسوق الناس وتحشرهم على ما يأتي.

وقوله (في خمس) متعلق بمحذوف تقديره هي في عداد خمس (لا يعلمهن) أحد (إلا الله) تعالى أي انفرد الله سبحانه وتعالى بعلمهن فلا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيبِ لَا يَعْلَمُهَا إلا هُوَ} [الأنعام: 59] فلا طريق إلى علم شيء من ذلك إلا أن يُعلم الله تعالى بذلك أو بشيء منه أحدًا ممن شاء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا (26) إلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27](ثم تلا) وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان تلك الخمس قوله

ص: 64

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا

ــ

تعالى ({إِنَّ اللَّهَ}) سبحانه وتعالى ({عِنْدَهُ}) لا عند غيره ({عِلْمُ}) وقت قيام ({السَّاعَةِ}) أي القيامة، قال الفراء: إن معنى هذا الكلام النفي أي ما يعلمه أحد إلا الله عز وجل والساعة جزء من أجزاء الجديدين سميت بها القيامة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أي عنده تعالى علم وقت قيام الساعة وما يتبعه من الأحوال والأهوال فهو متفرد بعلمه فلا يعلمه أحد سواه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال تعالى {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلا هُوَ} فلا يدري أحد في أي سنة وفي أي شهر وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار تقوم الساعة اهـ من "حدائق الروح والريحان".

وجملة قوله {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} معطوفة على ما يقتضيه الظرف في قوله (عنده علم الساعة) من الفعل تقديره إن الله سبحانه يثبت عنده علم الساعة وينزل الغيث، بالتشديد والتخفيف قرائتان سبعيتان وهذا من حيث ظاهر التركيب وأما من حيث المعنى فهو معطوف على الساعة فيكون العلم مسلطًا عليه أي وعنده علم وقت نزول الغيث وسمي المطر غيثًا لأنه غياث الخلق به رزقهم وعليه بقاؤهم والغيث مخصوص بالمطر النافع والمعنى أي وينزل الغيث في زمانه الذي قدره من غير تقديم ولا تأخير إلى محله الذي عينه في علمه من غير خطأ ولا تبديل فهو منفرد بعلم زمانه ومكانه وعدد قطراته، روي مرفوعًا "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا السماء تمطر فيها يصرفه الله تعالى حيث يشاء" وفي الحديث "ما سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" فمن أراد استجلاب الرحمة فعليه بالتوبة والندامة والتضرع إلى قاضي الحاجات بأخلص المناجاة.

({وَيَعْلَمُ}) سبحانه وتعالى ({مَا فِي الْأَرْحَامِ}) أي ما في أرحام النساء من الجنين أي يعلم ذاته أذكر أم أنثى حي أم ميت وصفاته أتام الخلق أم ناقصه حسن أم قبيح أحمر أم أسود سعيد أم شقي.

أي يعلم أوصافه في حالة كونه نطفة قبل تمام خلقه وما يعرفه الناس الآن بالعلم الحديث فبعد تمام خلقه والأرحام جمع رحم بيت منبت الولد ووعاؤه ({وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}) من النفوس وما تعرف ({مَاذَا}) أي أي شيء ({تَكْسِبُ}) وتفعل ({غَدًا}) أي

ص: 65

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]

ــ

يومًا تاليًا ليومها الذي هي فيه أي لا يعرف أحد من الناس ماذا يفعل غدًا وماذا يحصل له فيه من خير أو شر ووفاق وشقاق وربما يعزم على خير فيفعل الشر وبالعكس، والمعنى أي وما تدري نفس من النفوس كائنة ما كانت من غير فرق بين الملائكة والأنبياء والجن ماذا تكسب غدًا من كسب دين أو كسب دنيا ({وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}) من النفوس وإن أعملت حيلها ({بِأَيِّ أَرْضٍ}) ومكان ({تَمُوتُ}) أي لا تدري أين مضجعها من الأرض أفي بحر أم في بر أفي سهل أم في جبل كما لا تدري في أي وقت تموت وإن كانت تدري أنها تموت في الأرض في وقت من الأوقات وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ثم تدفن في مكان لم يخطر لها ببال قط وأنشدوا:

إذا ما حِمامُ المَرْء كان ببلدة

دعته إليها حاجة فيطير

ومن ادعى أنه يعلم شيئًا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.

({إِنَّ اللَّهَ}) سبحانه وتعالى ({عَلِيمٌ}) يعلم الأشياء كلها هذه الخمسة وغيرها ({خَبِيرٌ}) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

(فإن قلت) لم عد هذه الخمسة المذكورة في الآية مع أن كل المغيبات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

(قلت) خصها لما أن السؤال عنها كثر كما ذكر في سبب النزول وكان أهل الجاهلية يسألون المنجمين عن هذه الخمسة زاعمين أنهم يعرفونها وتصديق الكاهن فيما يخبره من الغيب كفر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد" والكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار.

قال ابن العربي: فليس لأحد أن يدعي علم إحداها فمن قال ينزل المطر غدًا أو أكسب فيه كذا كفر، وإن استند في نزول المطر إلى أمارة فإن الله تعالى لم يجعل لواحدة منهن أمارة إلا ما جعل للساعة وكذلك إن ادعى علم ما في الرحم إلا أن يستند في ذلك إلى التجربة كقول الطبيب إن كان الثقل في الجانب الأيمن أو كانت حلمة ثديها الأيمن هي السوداء قالوا ولد ذكر وإن كان أحد الأمرين في الأيسر فالولد أنثى، وقال أيضًا وليس قوله تكسف غدًا من ذلك لأن الكسوف يعرف بالحساب لكن قال علماؤنا يؤدب لتطريقه الشك للعوام. انتهى

ص: 66

قَال: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ"، فَأَخَذُوا

ــ

ولابن رشد في جامع المقدمات اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه فيدعي علم شيء من المغيبات كقدوم زيد وحدوث الفتن والأهوال فقيل يقتل دون استتابة وقيل يستتاب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل.

ولمالك في كتاب السلطان: يزجر عن اعتقاد ذلك ويؤدب حتى يتوب قال وليس هذا باختلاف وإنما هو لاختلاف حال المنجم فإن اعتقد تأثير الكواكب في ذلك ويستمر بقوله ذلك قتل بدون استتابة لأنه زنديق وإن كان يظهر ذلك وينتصر له استتيب كالمرتد وإن كان لا يعتقد التأثير وإنما يرى القرانات والطوالع أدلة عادية في ذلك فهذا يزجر ويؤدب كما قال مالك لأنه أتى بدعة تسقط أمانته وشهادته ولا يحل تصديقه لقوله تعالى {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إلا اللَّهُ} وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية وينبغي أن يعتقد فيما يصيبون فيه أنه بمقتضى التجربة لأنه سبحانه استأثر بعلم ذلك اهـ الأبي.

قال القرطبي: فمن ادعى علم شيء من هذه الأمور كان في دعواه كاذبًا إلا أن يسند ذلك إلى رسول بطريق تفيد العلم القطعي ووجود ذلك متعذر بل ممتنع.

وأما ظن الغيب فلم يتعرض شيء من الشرع لنفيه ولا لإثباته فقد يجوز أن يظن المنجم أو صاحب خط الرمل أو نحو هذا شيئًا مما يقع في المستقبل فيقع على ما ظنه فيكون ذلك ظنًّا صادقًا إذا كان عن موجب عادي يقتضي ذلك الظن وليس بعلم فيفهم هذا منه؛ فإنه موضع غلط بسببه رجال وأكلت به أموال.

ثم اعلم أن أخذ الأجرة والجعل على ادعاء علم الغيب أو ظنه لا يجوز بالإجماع على ما حكاه أبو عمر ابن عبد البر وفي الحديث أبواب من الفقه وأبحاث يطول تتبعها والله أعلم اهـ.

(قال) أبو هريرة رضي الله عنه (ثم) بعد هذا السؤال المذكور (أدبر) وذهب (الرجل) السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدبرًا موليًا (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله ليظهر لهم أن الرجل السائل هو جبريل عليه السلام (ردوا علي) هذا (الرجل) السائل المدبر وأرجعوه إلي (فأخذوا) أي شرعوا في رده وذهبوا وراءه

ص: 67

لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيئًا، فَقَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:"هَذَا جِبْرِيلُ، جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ".

6 -

(00) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ،

ــ

(ليردوه) أي ليردوا الرجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (فلم يروا شيئًا) أي فلم يجدوا من الرجل شيئًا لا ذاتًا ولا أثرًا ولا حركة ولا صوتًا فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لم يجدوا شيئًا من آثار الرجل (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا) الرجل الذي سألني وذهب وأدبر هو (جبريل) الأمين عليه السلام (جاء) ونزل إلي (ليعلم الناس) أصول (دينهم) وأساسه أي جاء ليتسبب في تعلم الناس أصول دينهم بسؤاله إياي إذ لم تسألوني.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:

(6)

- متا (00)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) مصغرًا الهمداني بسكون الميم أبو عبد الرحمن الكوفي الحافظ أحد الأئمة الأعلام روى عن محمد بن بشر وأبي خالد الأحمر وسفيان بن عيينة ووكيع وخلق، ويروي عنه (ع) ومطين وأبو يعلى وخلق، عظمه أحمد وأجلّه وقال: أي فتى وقال النسائي: ثقة مأمون، وقال في التقريب: ثقة حافظ فاضل من العاشرة مات سنة (234) أربع وثلاثين ومائتين.

روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان في موضعين وفي الصلاة في موضعين وفي الدعاء وفي الوضوء وفي الحج وفي النكاح وفي الحدود وفي الجهاد في ثلاثة مواضع وفي باب المرء مع من أحب في موضعين وفي باب العاطس فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها عشرة أبواب تقريبًا.

قال ابن نمير (حدثنا محمد بن بشر) بن الفرافصة العبدي من عبد القيس أبو عبد الله الكوفي أحد العلماء الحفاظ روى عن أبي حيان وهشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وخلق، ويروي عنه (ع) ومحمد بن عبد لله بن نمير وابن المديني وأبو كريب وغيرهم، وثقه ابن معين، وقال في التقريب: ثقة حافظ من التاسعة مات سنة (203) ثلاث ومائتين.

روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان وفي الوضوء وفي الصلاة في

ص: 68

حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيمِيُّ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيرَ أَن في رِوَايَتِهِ:"إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ بَعْلَهَا"، يَعْنِي السَّرَارِيَّ.

ثلاثة مواضع والصوم والطلاق والهبة في موضعين والأشربة وفي الأحكام والفتن وفي الجهاد فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها عشرة تقريبًا.

قال محمد بن بشر (حدثنا أبو حيان) يحيى بن سعيد بن حيان (التيمي) تيم الرباب الكوفي المدني العابد ثقة من السادسة مات سنة (145) خمس وأربعين ومائة تقدم ما فيه من المباحث قريبًا فراجعه، والجار والمجرور في قوله (بهذا الإسناد) متعلق بقوله حدثنا محمد بن بشر وكذا قوله (مثله) مفعول ثان لقوله حدثنا محمد بن بشر لأن العامل في قوله بهذا الإسناد وفي قوله مثله أو نحوه أو معناه مثلًا هو العامل في المتابع بكسر الباء، واسم الإشارة في قوله بهذا الإسناد راجع إلى ما بعد شيخ المتابع بفتح الباء، والمتابع بفتح الباء هنا إسماعيل بن علية وشيخه أبو حيان وما بعد أبي حيان هو أبو زرعة وأبو هريرة والضمير في مثله عائد إلى المتابع بفتح الباء المذكور في السند السابق وهو إسماعيل بن علية والمعنى حدثنا محمد بن بشر بهذا الإسناد عن أبي حيان مثل ما روى إسماعيل بن علية عن أبي حيان والمثل عبارة عن الحديث اللاحق الموافق للسابق في جميع لفظه ومعناه إلا ما استثنى بقوله (غير أن في روايته) أي في رواية محمد بن بشر (إذا ولدت الأمة بعلها) أي سيدها بدل قول ابن علية (ربها) وهذا بيان لمحل المخالفة بين المتابع والمتابع والأمة هنا هي الجارية المستولدة وبعلها سيدها وربها كما سماه الله تعالى بعلًا في قوله {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} في الصافات، في قول ابن عباس وحكي عنه أنه قال: لم أدر ما البعل حتى قلت لأعرابي لمن هذه الناقة فقال أنا بعلها ويسمى الزوج بعلًا ويجمع على بعولة كما قال تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} في البقرة {وَهَذَا بَعْلِي شَيخًا} في هود.

وقوله (يعني) النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة (السراري) كلام مدرج من بعض الرواة والسراري بتشديد الياء ويجوز تخفيفها لغتان معروفتان الواحدة سرية بالتشديد لا غير، قال ابن السكيت: كل ما كان واحده مشددًا من هذا النوع جاز في جمعه التشديد والتخفيف والسرية الجارية المتخذة للوطء مأخوذة من السر وهو النكاح، قال الأزهري: السرية فعلية من السر وهو النكاح، قال: وكان أبو الهيثم يقول: السر السرور

ص: 69

7 -

(10) حَدَّثَنِي زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ -

ــ

فقيل لها سرية لأنها سرور مالكها، قال الأزهري وهذا القول أحسن والأول أكثر اهـ نووي.

وغرض المؤلف بسوق هذا السند بيان متابعة محمد بن بشر لإسماعيل ابن علية في رواية هذا الحديث عن أبي حيان التيمي وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع إعادة الحديث بتمامه لما بين الروايتين من المخالفة بالزيادة وبتغيير بعض الكلمات فقال:

(7)

- متا (10)(حدثني زهير بن حرب) بن شداد أبو خيثمة النسائي من العاشرة مات سنة (234) أربع وثلاثين ومائتين وقد مر قريبًا ما فيه من المباحث فراجعه، قال زهير (حدثنا جرير) بن عبد الحميد بن جرير بن قرط -بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة- بن هلال، بن قيس الضبي الكوفي ثم الرازي أبو عبد الله القاضي روى عن عمارة بن القعقاع وهشام بن عروة والأعمش ومنصور والمختار بن فلفل وغيرهم، ويروي عنه (ع) وزهير بن حرب وقتيبة وإسحاق ويحيى بن يحيى وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم، قال في التقريب: ثقة صحيح الكتاب قيل كان في آخر عمره يهم من حفظه مات سنة (188) ثمان وثمانين ومائة وله إحدى وسبعون سنة.

روى عنه المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان في موضعين وفي الوضوء وفي الصلاة في أربعة مواضع وفي الجنائز وفي الزكاة في موضعين وفي الصوم وفي الحج في ثلاثة مواضع وفي البيوع في ثلاثة مواضع وفي الهبة والأطعمة واللباس وفي الفتن وفي الجهاد وفي الأدب وفي القدر وفي باب من مات له ثلاث فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ستة عشر بابا.

(عن عمارة) بضم العين بن القعقاع بن شبرمة بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة الضبي بالمعجمة والموحدة الكوفي ابن أخي عبد الله بن شبرمة، روى عن أبي زرعة وعبد الرحمن بن أبي نعم وجماعة، ويروي عنه (ع) وجرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل وعبد الواحد والأعمش وغيرهم، وقال في التقريب: ثقة من السادسة أرسل عن ابن مسعود.

ص: 70

وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاع- عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلونِي"،

ــ

روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان وفي الصلاة وفي الزكاة في ثلاثة مواضع وفي الصوم واللباس فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها خمسة أبواب تقريبًا.

وأتى المؤلف بقوله (وهو ابن القعقاع) إشعارًا بأن هذه النسبة ليست مما سمعه من شيخه بل مما زاده من عند نفسه إيضاحًا للراوي بأنه ابن القعقاع لا عمارة بن رويبة الثقفي ولا عمارة بن عمير التيمي ولا عمارة بن غزية الأنصاري الصحابي، لأن جملة من اسمه عمارة في مسلم أربعة (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي ثقة من الثالثة وقد مر ما فيه من المباحث قريبًا (عن أبي هريرة) رضي الله عنه الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر (قال) أبو هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا (سلوني) أيها الناس عما بدا لكم من المشاكل في دينكم، قال النووي: أمرهم بسؤالهم إياه ليس بمخالف النهي عن سؤاله المذكور في الآية فإن هذا المأمور به هو فيما يحتاج إليه وهو موافق لقوله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} اهـ.

قال القرطبي: سبب قوله هذا أنهم لما أكثروا عليه الأسئلة استشعر أنه كان هناك من يسأل تعنتًا وتجهيلًا فغضب لذلك حتى احمر وجهه وجعل يقول سلوني سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم عنه ما دمت في مقامي هذا فدخل الناس من ذلك خوف ورعب فلم يزل كذلك حتى برك عمر بين يديه وجعل يقول رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا حتى سكن غضبه صلى الله عليه وسلم وسيأتي الحديث بكماله إن شاء الله تعالى وأنزل الله تعالى في ذلك الوقت قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فانكف الناس عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قالوا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فلما انكفوا عن ذلك امتثالًا لنهي الله سبحانه وتعالى وتعظيمًا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الله ذلك منهم فأرسل السائل البصير جبريل عليه السلام فأجابه العالم الخبير النبي صلى الله عليه وسلم فجعل العلم للسامعين الممتثلين من غير سؤال كما قد كفى الله المؤمنين القتال، وقد نبه على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا.

ص: 71

فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيهِ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِسْلامُ؟ قَال: "لَا تُشْرِكُ بِاللهِ شَيئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ"، قَال: صَدَقْتَ

ــ

وفي قوله (سلوني) أمر العالِم الناسَ أن يسألوه عما يحتاجون إليه وأنهم إن لم يحققوا السؤال ابتدءوا بالتعليم كما فعل جبريل عليه السلام (فـ) ـلما رأوا غضبه صلى الله عليه وسلم (هابوه) أي خافوا النبي صلى الله عليه وسلم وجملة أن المصدرية في قوله (أن يسألوه) مع ما في حيزها في تأويل مصدر منصوب على البدلية من ضمير النصب في هابوه بدل اشتمال أي هابوا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يحتاجون إليه في دينهم خوفًا من غضب الله تعالى لغضبه صلى الله عليه وسلم (فجاء) في ذلك الوقت (رجل) لا يعرفونه (فجلس) أي قعد الرجل واضعًا ركبتيه (عند ركبتيه) صلى الله عليه وسلم على صورة المتعلم المتأدب (فقال) ذلك الرجل (يا رسول الله) وهذا النداء لا يعارض نداءه في حديث عمر بقوله يا محمد لأن حديث عمر نقل باللفظ وهذا نقل بالمعنى وفي هذا تعليم لهم لأدب الجلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث جلس على ركبتيه وأدب النداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يا رسول الله (ما) حقيقة (الإسلام) وماهيته وأجزاؤه التي يتركب منها.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا لسؤاله: الإسلام هو (لا تشرك بالله) أي عدم إشراكك بالله سبحانه وتعالى (شيئًا) من المخلوقات فهو مفعول به لتشرك ويصح كونه مفعولًا مطلقًا أي لا تشرك بالله شيئًا من الإشراك أي شركًا جليًّا ولا خفيًّا والأول أولى لأن المقام مقام الانقياد الظاهري لا مقام الإحسان، وفي نسخة الأبي (قال أن لا تشرك بالله) بزيادة أن المصدرية (وتقيم الصلاة) أي وتؤدي الصلاة المكتوبة في أوقاتها المحدودة بأركانها وآدابها وشرائطها المخصوصة (وتؤتي الزكاة) أي: وتعطي الزكاة المفروضة وتصرفها في مصارفها المذكورة في الكتاب العزيز (وتصوم) نهار شهر (رمضان) وتمسك نفسك عن تناول المفطرات بنية مخصوصة مبيتة، وهذا صريح في الرد على من يقول لا يقال رمضان إلا بإضافة شهر إليه لأنه من أسمائه تعالى كما مر بسط الكلام فيه ولم يذكر الحج لأنه لم يفرض وقتئذ (قال) الرجل

السائل (صدقت) يا رسول الله فيما أخبرتني في بيان ماهية الإسلام.

ص: 72

قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِيمَانُ؟ قَال: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِه وَشَرِّه"(1)، قَال: صَدَقْتَ.

قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا الإِحْسَانُ؟ قَال: "أَنْ تَخشَى الله كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنكَ إِنْ لَا تَكُنْ تَرَاهُ .. فَإنَّهُ يَرَاكَ"، قَال: صَدَقْتَ

ــ

ثم (قال) الرجل السائل ثانيًا (يا رسول الله) صلى الله عليه وسلم (ما) حقيقة (الإيمان) وما ماهيته (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبًا له الإيمان (أن تؤمن) وتصدق (بـ) ـوحدانية (الله) سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته وأفعاله (و) بوجود (ملائكته) الكرام الذين لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى (و) بإنزال جنس (كتابه) على بعض رسله المرسلين إلى المكلفين بالتكاليف الشرعية والنظام الإلهية (و) بوجوب (لقائه) سبحانه وتعالى بالموت وعرضه عليه للمجازاة (و) بإرسال (رسله) الذين أرسلهم إلى المكلفين بالتكاليف الإلهية (وتؤمن) أي تصدق (بـ) ـوجوب (البعث) والإحياء والحشر من القبور إلى أرض المحشر للعرض على رب العالمين، وأعاد العامل والجار والمجرور هنا وفيما بعده للاهتمام بهما لكثرة من ينكرهما جهلًا أو تعنتًا (وتؤمن) أي تصدق (بـ) وجوب (القدر) والعلم الأزلي بمقادير الأشياء لله سبحانه وتعالى، وقوله (خيره) أي خير ذلك المقدر ونفعه للعباد كالإيمان والطاعات (وشره) أي شر ذلك المقدر وضرره على العباد كالكفر والمعاصي بدل من القدر بدل تفصيل من مجمل وفيه رد على من يقول الخير من الله تعالى والشر من العباد، وفي نسخة الأبي (وتؤمن بالقدر كله خيره وشره) بزيادة كله، وفي نسخة النووي (وتؤمن بالقدر كله) بحذف خيره وشره (قال) الرجل السائل (صدقت) يا رسول الله فيما أخبرتني في بيان حقيقة الإيمان.

ثم (قال) الرجل السائل ثالثًا (يا رسول الله ما) حقيقة (الإحسان) وماهيته (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان (أن تخشى الله) سبحانه وتعالى وتخافه (كأنك تراه) وتشاهده سبحانه وتعالى بعينيك وبصرك (فإنك إن لا تكن تراه) أي إن لم تكن تراه سبحانه وتعالى (فإنه) سبحانه (يراك) أي يرى ذاتك وعملك ويعلم ظواهرك وبواطنك فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء (قال) الرجل (صدقت) يا رسول الله في بيان معنى الإحسان.

(1) في نسخة: (وتؤمن بالقدر كلِّه).

ص: 73

قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ قَال: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا رَأَيتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا .. فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأيتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ .. فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ

ــ

(قال) الرجل السائل رابعًا (يا رسول الله متى تقوم الساعة) أي أيَّ وقت تقوم القيامة (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما المسؤول عنها) أي ليس الذي سُئل عن وقت قيامها يريد نفسه الشريفة (بأعلم) بها (من السائل) يريد جبريل عليه السلام أي أنا وأنت وغيرنا سواء في عدم علم وقت مجيئها لأنها من المغيبات التي استأثر الله بعلمها قال الرجل السائل (و) لكن حدثني عن أشراطها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (سأحدثك) أي أُحدثك وأخبرك في الزمن القريب (عن أشراطها) أي عن أشراط الساعة وأماراتها التي تدل على قربها وهي كثيرة فمنها أنك (إذا رأيت المرأة) حرة كانت أو أمة (تلد) وتضع (ربها) وسيدها (فذاك) أي وضعها وولادها ربها وسيدها (من أشراطها) أي من أشراط الساعة وأمارات قربها وهذا كناية عن كثرة السراري بالنسبة إلى الأمة وكثرة العقوق بالنظر إلى الحرة (و) منها أنك (إذا رأيت الحفاة) من النعال (العراة) من اللباس لعالتهم وفقرهم (الصم) جمع أصم وهو الذي لا يسمع بأذنه (البكم) جمع أبكم وهو الذي لا ينطق بلسانه وهو كناية عن قلة عقلهم وعدم فصاحتهم أي وإذا رأيت الفقراء الجهلة كانوا (ملوك) أهل (الأرض) ورؤساءهم وسادتهم وقادتهم (فداك) أي كون هؤلاء المذكورين سادة أهل الأرض ورؤساءهم (من أشراطها) أي من أشراط الساعة وأمارات قربها، قال القاضي عياض: أي وإذا صار الجهلة ملوكًا، وقيل المعنى وإذا صار الملوك صمًّا بكمًا عن الخير لشغلهم بالدنيا وما ذكرناه أولًا أولى إذ ليس في الحديث ما يدل على أن هذه صفتهم وهم ملوك وإنما يعني إذا صار ملكًا من هذه صفته اهـ.

قال الأبي: فشرط الساعة وأماراتها على الأول أن يملك من فقد منه شرط الإمامة وعلى الثاني فساد حال من ملك وجعلوا صمًّا بكمًا لأنهم لما لم ينتفعوا بتلك الجوارح فكأنهم لم تخلق لهم، وقال النووي: المراد بهم الجهلة السفلة الرعاء كما قال سبحانه {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي لما لم ينتفعوا بجوارحهم هذه فكأنهم عدموها هذا هو الصحيح في معنى الحديث اهـ

(و) منها أنك (إذا رأيت رعاء البهم) أي رعاة الغنم والبهم بفتح الباء وسكون الهاء هي صغار الغنم قيل من المعز والضأن جميعًا وقيل من الضأن خاصة وقيل من المعز

ص: 74

يَتَطَاوَلُونَ في الْبُنْيَانِ .. فَذَاكَ مِنْ أَشرَاطِهَا، في خَمْسٍ مِنَ الْغَيبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ، ثُم قَرَأَ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].

قَال: ثُم قَامَ الرَّجُلُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوهُ عَلَيَّ" فَالْتُمِسَ .. فَلَم يَجِدُوهُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا

ــ

خاصة وقيل هو صغار الحيوان من غير الآدمي على الإطلاق كما مر (يتطاولون) أي يتفاخرون ويتباهون (في) طول (البنيان) والعمائر والقصور (فذاك) أي تطاولهم في البنيان (من أشراطها) أي بعض أمارات قربها هي أي الساعة (في) عداد وحساب (خمس من) أمور (الغيب) أي من الأمور المغيبات عن علم الخلائق اللاتي إلا يعلمهن إلا الله) سبحانه وتعالى (ثم قرأ) رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان تلك الخمس قوله تعالى ({إِنَّ اللَّهَ}) سبحانه وتعالى ({عِنْدَهُ عِلْمُ}) وقت قيام ({السَّاعَةِ}) والقيامة {و} علم الوقت الذي ({يُنَزِّلُ}) فيه ({الْغَيثَ}) والمطر {وَ} إنه سبحانه وتعالى ({يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}) أي في أرحام النساء من الأجنة أذكر أم أنثى مثلًا {و} إنه ({مَا تَدْرِي}) ولا تعرف ({نَفْسٌ}) من النفوس ولو ملكًا مقربًا ونبيًّا مرسلًا ({مَاذَا تَكْسِبُ}) أي أيّ عمل وكسب تكسبه ({غَدًا}) أنه ({مَا تَدْرِي}) ولا تعلم ({نَفْسٌ}) من النفوس ({بِأَيِّ أَرْضٍ}) من أنحاء الأرض ({تَمُوتُ}) وتفنى وإنما استأثر الله سبحانه بعلم هذه الأمور الخمس وغيرها من المغيبات لـ ({إِنَّ اللَّهَ}) سبحانه وتعالى ({عَلِيمٌ}) بظواهر الأشياء كما أنه ({خَبِيرٌ}) ببواطنها.

(قال) أبو هريرة (ثم) بعد فراغه من السؤال (قام الرجل) السائل وأدبر (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله (ردوه) أي ردوا هذا الرجل السائل المدبر ليبين لهم بلا شبهة أنه ليس آدميًّا أي أدركوه وردوه (علي فالتمس) الرجل ليرد عليه صلى الله عليه وسلم (فلم يجدوه) أي لم يروه ولم يعرفوا أين ذهب هل صعد في السماء أم دخل في الأرض (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حين فقدوا الرجل (هذا) الرجل السائل المدبر هو (جبريل) عليه السلام (أراد) بسؤاله إياي (أن تعلموا) أي أن

ص: 75

إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا"

ــ

تتعلموا بحذف إحدى التاءين، قال النووي:(تعلموا) رويناه بفتح التاء والعين أي تتعلموا وبإسكان العين اهـ.

فجلى الأول مضارع تعلم الخماسي، وعلى الثاني مضارع علم الثلاثي أي أراد جبريل أن يتسبب في تعلم دينكم بسؤاله إياي (إذ لم تسألو) ني.

وغرض المؤلف بسوق هذا الحديث متنًا وسندًا أن غرضه من حيث السند بيان متابعة عمارة بن القعقاع لأبي حيان التيمي في رواية هذا الحديث عن أبي زرعة وفائدة هذه المتابعة بيان كثرة طرقه لأن كلا من المتاج والمتابَع ثقة وهذا السند من خماسياته ومن لطائفه أن رجاله ثلاثة منهم كوفيون وواحد نسائي وإنما كرر المتن لما في هذه الرواية من المخالفة للرواية الأولى في بعض الكلمات فلا اعتراض عليه في التكرار لأنه لغرض، وشارك المؤلف في رواية حديث أبي هريرة هذا البخاري (50) وأبو داود (4698) والنسائي (10118) وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب حديثان الأول حديث عمر بن الخطاب وغرضه بسوقه الاستدلال على الترجمة وذكر فيه ثلاث متابعات والثاني حديث أبي هريرة وغرضه بسوقه الاستشهاد لحديث عمر رضي الله عنه وذكر فيه متابعتين والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

ص: 76