الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 - بَابُ الدَّليلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتينِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتيقَان الْقَلْبِ
55 -
(30) حَدَّثَنِي زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ،
ــ
13 -
بَابُ الدَّليلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتينِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتيقَان الْقَلْبِ
أي هذا باب معقود في ذكر الحديث الذي يدل على أن الشأن والحال لا يكفي في الإيمان الذي يدخل به الجنَّة مجرد تلفظ الشهادتين بلا استيقان لمعناهما بل لا بد ولا غنى في حصوله من اعتقاد معناهما اعتقادًا جازمًا لا تردد معه كما يدل عليه منطوق حديث أبي هريرة الذي استدل به على الترجمة ومنطوق حديث أنس الذي استشهد به بالنظر إلى ما زاده البُخاريّ في روايته كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ولم يترجم لهذا الحديث النواوي وكذا السنوسي وأكثر نسخ المتن ولا القاضي عياض وترجم له الأبي بقوله (باب حديث أبي هريرة) وترجم له القرطبي بعين ما ترجمنا به له رحمهم الله تعالى أجمعين.
قال القرطبي: وهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين إن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان وأحاديث هذا الباب تدل على فساده بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق والحكم للمنافق بالإيمان الصَّحيح وهو باطل قطعًا.
ثم استدل المؤلف لهذه الترجمة بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقال:
(55)
- س (00)(حدثني زهير بن حرب) بن شداد الحرشي بفتح المهملتين مولاهم أبو خيثمة النَّسائيّ ثقة ثبت من العاشرة مات سنة (234) أربع وثلاثين ومائتين وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ثمانية عشر بابًا تقريبًا قال زهير (حدَّثنا عمر بن يونس) بن القاسم (الحنفي) أي المنسوب إلى بني حنيفة أبو حفص اليمامي، روى عن عكرمة بن عمار وعن أبيه يونس، ويروي عنه (ع) وزهير بن حرب ومحمد بن بشار وأبو ثور وخلق وثقه ابن معين والنَّسائيُّ وقال في "التقريب" ثقة من التاسعة مات سنة (206) ست ومائتين، روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والطلاق والجهاد وخلق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والفضائل والتوبة فجملة
حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّار، قَال: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، قَال: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيرَةَ قَال: كُنا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
ــ
الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها تسعة أبواب تقريبًا.
قال عمر بن يونس (حدَّثنا عكرمة بن عمار) العجلي الحنفي أبو عمار اليمامي أصله من البصرة، روى عن أبي كثير يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة وأبي زميل سماك الحنفي وإياس بن سلمة بن الأكوع ويحيى بن كثير وشداد بن عبد الله وسالم بن عبد الله ويروي عنه (م عم) وعمر بن يونس والنضر بن محمَّد بن مصعب بن المقدام وهاشم بن القاسم وابن المبارك وابن مهدي وخلق وثقه ابن معين والعجلي، وقال في التقريب: صدوق من الخامسة يغلط وكان مجاب الدعوة مات سنة (159) تسع وخمسين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء والصلاة في موضعين والزكاة في موضعين والصوم والبيوع والفتن والأشربة والفضائل وجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها تسعة أبواب.
(قال) عكرمة (حدثني أبو كثير) يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة الغبري السحيمي بمهملتين مصغرًا اليمامي الضَّرير، روى عن أبي هريرة في الإيمان والأشربة والفضائل ويروي عنه (م عم) ويحيى بن أبي كثير وعكرمة بن عمار والأوزاعي وعقبة بن التوأم وثقه أبو حاتم وأبو داود والنَّسائيُّ، وقال في التقريب: ثقة من الثالثة وجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها ثلاثة فقط كما ذكرنا آنفًا (قال) أبو كثير (حدثني أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني الصحابي الجليل المكثر وهذا السند من خماسياته ورجاله ثلاثة منهم يماميون وواحد نسائي وواحد مدني (قال) أبو هريرة (كنا) معاشر الصّحابة (قعودًا) أي جلوسًا في المسجد (حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جانبه، قال أهل اللغة يقال قعدنا حوله وحوليه وحواليه وحواله بفتح الحاء واللام في جميعها أي على جوانبه قالوا ولا يقال حواليه بكسر اللام اهـ نووي. والحال أنه (معنا أبو بكر وعمر) وهذا من فصيح الكلام وحسن الأخبار فإنهم إذا أرادوا الإخبار عن جماعة فاستكثروا أن يذكروا جميعهم بأسمائهم ذكروا أشرافهم أو بعض أشرافهم ثم قالوا: وغيرهم، وأمَّا قوله (معنا) بفتح العين فهذه اللغة المشهورة ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب المحكم والجوهري وغيرهما.
وفي شروح الألفية أن (مع) من الأسماء الملازمة للإضافة غالبًا وتكون اسمًا
فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَينِ أَظْهُرِنَا، فَأَبْطَأ عَلَينَا، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا وقُمْنَا،
ــ
لموضع الاجتماع نحو زيد معك ولزمان الاجتماع نحو جئتك مع العصر وقد تكون أطلق الاجتماع من غير اعتبار مكان ولا زمان نحو قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وقد تجرد عن الإضافة فيلزم نصبها على الحال نحو جاء الزيدان معًا أي جميعًا وقد حكى جرها بمن نحو ذهبت من معه أي من عنده وفيها لغتان فتح العين وسكونها ولغة السكون قليلة كما قال في الخلاصة:
ومع مع فيها قليل ونقل
…
فتح وكسر لسكون يتصل
يعني نقل في لغة السكون إذا التقت العين الساكنة مع ساكن بعدها وجب تحريكها لالتقاء الساكنين فمن حركها بالفتح فللتخفيف ومن حركها بالكسر فعلى أصل التقاء الساكنين وقد بسطنا الكلام فيها في شرحنا نزهة الألباب على ملحة الإعراب فراجعه وإنما أطلنا الكلام فيها هنا مع أن المقام ليس من مقام البحث عنها دفعًا لأوهام أطال بها الكلام هنا بعض الشراح سهوًا أو غفلة لئلا يغتر بها الطلاب والله أعلم، وقوله (في نفر) حال من أبي بكر وعمر أي حالة كونهما مع نفر وجماعة آخرين وفي القاموس النفر محركًا النَّاس كلهم ومادون العشرة من الرجال كالنفير يجمع على أنفار اهـ. (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج (من بين أظهرنا) أي من مكان بين أظهرنا ووسطنا هكذا هو هنا وفيما سيأتي (كنت بين أظهرنا) بلا نون أي بيننا ورواه الفارسي بين ظهرينا، وقال الأصمعي: والعرب تقول بين أظهركم وظهرَيكم وظهرانَيكُم بصيغة الاثنين قال الخليل أي بينكم (فأبطأ) أي آخر الرجوع (علينا وخشينا) أي خفنا (أن يقتطع) ويؤخذ (دوننا) أي قبل الوصول إلينا والرجوع علينا أي خفنا أن يصاب بمكروه من عدو إما بأسر أو بقتل لأنَّ أعداءه اليهود والمنافقين كثير في المدينة وقتئذ وعبارة القرطبي هنا (أن يقتطع دوننا) أي يحال بيننا وبينه بأخذ أو هلاك اهـ. قال الأبي (قوله فخشينا) قلت خشْيَتُهم إن كانت قبل نزول {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فواضح وإلا فذاك لفرط كلفهم به كما يقال المحب مولع بسوء الظن اهـ. (وفزعنا) أي بادرنا إلى طلبه وفي بعض النسخ (ففزعنا) بفاء التعقيب (وقمنا) من مكاننا لطلبه وفي بعض النسخ (فقمنا) بفاء التعقيب أيضًا وعبارة القرطبي هنا قوله (ففزعنا وقمنا) أي تركنا ما كُنَّا فيه وأقبلنا على
فَكنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزعَ، فَخَرَجْتُ أَبْتغِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتيتُ حَائِطًا لِلأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ، فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أجِدُ لَهُ بَابًا؟ فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعْ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خارِجَةٍ -وَالرَّبِيعُ: الْجَدْوَلُ-
ــ
طلبه من قولهم فزعت إلى كذا إذا أقبلت عليه وتفرغت له ومنه قوله الشاعر:
فزعت إليكم من بلايا تنوبني
…
فألفيتكم منها كريمًا ممجدًا
وقد دل على ذلك قوله فكنت أولى من فزع أي أولى من أخذ في طلبه وليس هو من الفزع الذي هو الذعر والخوف لأنَّه قد قال قبل هذا فخشينا أن يقتطع دوننا ثم رتب فزعنا عليه بفاء التعقيب المشعرة بالتسبب، والفزع لفظ مشترك يطلق على ذينك المعنيين وعلى الإغاثة اهـ. قال القاضي عياض: الفزع يكون بمعنى الخوف وبمعنى الهيوب للشيء والاهتمام به وبمعنى الإغاثة والمعاني الثلاثة صالحة للإرادة هنا أي ذعرنا لاحتباس النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنا، والأظهر أنَّه الهيوب وقول القرطبي: لا يصح إرادة الخوف لقوله (فخشينا) ثم رتب عليه بفاء السبب (ففزعنا) تعقبه الأبي بأن كونه بمعنى الخوف لا يمنع من عطفه ويكون من عطف الشيء على نفسه إرادة الاستمرار نحو {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} أي فكذبوا تكذيبًا بعد تكذيب اهـ.
قال أبو هريرة (فكنت أول من فزع) وبادر في طلبه (فخرجت) من بين القوم حالة كوني (أبتغي) وأطلب (رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبعت أثره ومشيت وراءه (حتَّى أتيت) وجئت (حائطًا) أي بستانًا وسمي بذلك لأنَّه محوط بحائط لا سقف له (لـ) ـبعض (الأنصار) وقوله (لبني النجار) جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله للأنصار بدل بعض من كل وهم بطن معروف من الخزرج (فدرت به) أي فطفت وجلت حولى ذلك الحائط قائلًا في نفسي (هل أجد له) أي لذلك الحائط (بابا) ومدخلًا أدخل به لأطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الحائط (فلم أجد) له بابا ومدخلًا وإذا في قوله (فإذا ربيع) فجائية وربيع مبتدأ أو جملة (يدخل) صفة له والخبر محذوف أي فإذا ربيع يدخل في الحائط موجود والمعنى فدرت بالحائط فلم أجد له مدخلًا ففاجأني ربيع ونهر صغير يدخل (في جوف حائط) أي في وسط ذلك الحائط جارٍ ماؤه (من) ماء (بئر خارجة) عن ذلك الحائط.
وقوله (والربيع الجدول) -أي النهر الصَّغير والساقية كلام- مدرج من الراوي.
فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثعْلَبُ، فَدَخَلْتُ (1) عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَال:"أَبُو هُرَيرَةَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،
ــ
قال النواوي: أما الرَّبيع فبفتح الراء على وزن الرَّبيع الفصل المعروف من فصول السنة والجدول بفتح الجيم وهو النهر الصَّغير والساقية التي يجري فيها ماء سقي الأشجار وجمع الرَّبيع أربعاء، كنبي وأنبياء وقوله (بئر خارجة) هكذا ضبطناه بالتنوين في بئرٍ وفي خارجةٍ على أن خارجة صفة لبئر وذكر أبو موسى الأصبهاني وغيره أنَّه روي على ثلاثة أوجه أحدها هذا المذكور والثاني من بئرٍ خارجَهُ بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة وهي هاء ضمير الحائط أي من بئر في موضع خارج عن الحائط، والثالث من بئر خارجة بإضافة بئر إلى خارجة آخره تاء التأنيث وهو اسم رجل والوجه الأوَّل هو المشهور الظاهر والبئر مؤنثة مهموزة يجوز تخفيف همزتها وهي مشتقة من بئرت أي حفرت وجمعها في القلة أبؤر وأبئار بهمزة بعد الباء فيهما ومن العرب من يقلب الهمزة في أبئار وينقل فيقول آبار وجمعها في الكثرة بشار بكسر الباء بعدها همزة والله أعلم.
(فاحتفزت) أي تضاممت بجسمي وتصاغرت ليسعني الجدول (كما يحتفز) ويتضام ويتصاغر (الثعلب) الذي يريد الدخول في المضيق، قال القرطبي: رواه عامة الشيوخ في المواضع الثلاثة بالراء من الحفر، وروي عن الجلودي بالزاي وهو الصواب يعني به تضاممت ليسعني المدخل ويؤيده تشبيهه بفعل الثعلب وهو صفة الدخول في المضايق ومنه حديث علي رضي الله عنه "إذا صلت المرأة فلتحتفز" أي فلتتضام وتنزو (2) إذا سجدت ذكره أبو عبيد في غريبه (2/ 305) والزمخشري في الفائق (1/ 402) وابن الأثير في النهاية (1/ 407) واختار صاحب التحرير رواية الراء وليس مختاره بمختار، وفي القاموس احتفز في مشيته احتث واجتهد، واحتفز في سجوده تضام، واحتفز في جلوسه استوى جالسًا على وركيه، والثعلب معروف وهو حيوان ذو مكر وحيلة والذكر منه ثعلب وثعلبان بضم أوله، والأنثى ثعلبة وجمعه ثعالب كما يستفاد من القاموس (ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحائط (فقال) لي أنت (أبو هريرة) فهو خبر ابتدأ محذوف، قال الأبي:(قوله أبو هريرة) هو تقرير أو تعجب لاستغرابه من أين دخل مع سد الأبواب اهـ. (فقلت نعم) أي أنا أبو هريرة (يا رسول الله) فنعم حرف تصديق في
(1) في نسخة: (فاحتفزت فدخلت).
(2)
تنزو: تجتمع وتتَضامُّ بعضها إلى بعض. اهـ
قَال: "مَا شَأْنُكَ؟ "، قُلتُ: كُنْتَ بَينَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ، فَأَبْطَأتَ عَلَينَا، فَخَشِينَا أَن تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزعَ، فَأتَيتُ هَذَا الْحَائِطَ، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثعْلَبُ، وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي، فَقَال: "بَا أَبَا
ــ
الإثبات قائم مقام الجواب بخلاف بلى فإنَّه في النفي (قال) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما شأنك) أي حالك وشغلك الذي جاء بك هنا (قلت) يا رسول الله (كنت) أنت جالسًا (بين أظهرنا) أي بيننا (فقمت) وخرجت من بيننا (فأبطأت) أي أخرت الرجوع (علينا فخشينا) أي خفنا (إن تقطع) وتصاب بمكروه من عدو (دوننا) أي قبل الوصول إلينا (ففزعنا) معاشر الجالسين معك أي بادرنا وأسرعنا في طلبك لخوفنا عليك من إذاية عدو (فكنت) أنا (أول من فزع) وبادر في طلبك (فأتيت هذا الحائط) الذي أنت فيه وجئته ودرست به لطلب المدخل فوجدت جدولًا (فاحتفزت) أي فانضممت بجسمي ليسعني الجدول (كما يحتفز الثعلب) الذي يريد الدخول في المضيق فدخلت عليك يا رسول الله (وهؤلاء النَّاس) أي وأولئك النَّاس الذين قمت من بينهم حاضرون (ورائي) وخلفي وراء هذا الحائط، قال القرطبي: يعني بهم النفر الذين كانوا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقام من بينهم وأخذوا في طلبه وهم المعنيون للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن لقيت من وراء هذا الحائط" ولا شك في أن أولئك هم من أهل الجنَّة وهذا ظاهر اللفظ ويحتمل أن يقال إن ذلك القيد ملغي والمراد هم وكل من شاركهم في التلفظ بالشهادتين واستيقان القلب بهما وحينئذ يرجع إلى التأويل والتفصيل الذي ذكرناه في الباب قبل هذا انتهى.
قال الأبي: الأظهر في دخوله محل الغير بلا استئذانه أنَّه دهش وتحير لغيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويبعد أن يكون دخوله لعلمه طيب نفس رب الحائط لأنَّه يبقى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول عليه وإنَّما جعل الإذن لأجل البصر ويحتمل أنَّه دالة، قال النواوي: ولا يختص تصرَّف الدالة بالحائط بل وكذا ركوب الدابة ولبس الثوب وأكل الطَّعام قال أبو عمر وأجمعوا على أنَّه لا يتعدى إلى الدنانير والدراهم ونحوها وفي ثبوت هذا الإجماع نظر مع العلم بطيب نفس صاحبها ولعلّه في الدراهم الكثيرة المشكوك في طيب نفس صاحبها فإنَّه اتفق على المنع في صورة الشَّك قال الأبي: يعني صورة الشَّك في كل شيء (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا هريرة و) الحال أنه (أعطاني نعليه) لتكونا أمارة على أنَّه لقيه وإعطاؤهما له تأكيد وإلا
هُرَيرَةَ"؛ وَأَعْطَانِي نَعْلَيهِ، قَال: "اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَينِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائطِ، يَشْهَدُ: أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ مُسْتَيقِنًا بِهَا قَلْبُهُ .. فَبَشِّرْهُ بِالْجَنةِ"،
ــ
فخبره مقبول وقوله (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهب) وارجع إلى النَّاس (بنعلي هاتين) فيه فائدة لطيفة فإنَّه أعاد لفظة (قال) لطول الكلام وحصول الفصل بقوله: (يا أبا هريرة؛ وأعطاني نعليه) وهذا حسن شائع في كلام العرب بل جاء أيضًا في كلام الله تعالى في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قال الواحدي: قال محمَّد بن يزيد: قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} تكرير للأول لطول الكلام، قال ومثله قوله تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} أعاد أنكم لطول الكلام والله أعلم اهـ. نووي.
وأمَّا إعطاؤه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنَّه لقي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر كون مثل هذا تأكيدًا وإن كان خبره مقبولًا بدون هذا والله أعلم اهـ منه.
وقال القرطبي: وفي دفع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بنعليه دليل على جواز عَضُدِ خبر الواحد بالقرائن تقوية لخبره، وإن كان لا يتهم، وفيه اعتبار القرائن والعلامات والعمل على ما تقتضيه من الأعمال والأحكام انتهى.
قوله (فمن لقيت) إلخ معطوف على اذهب على كونه مقولًا لقال ومن شرطية أي قال لي: اذهب بنعليَّ هاتين، و (من) لقيت ورأيت (وراء هذا الحائط) وخارجه حالة كونه (يشهد) ويقر (إن لا إله إلَّا الله) حالة كونه (مستيقنًا) أي موقنًا (بها) أي بمعنى هذه الكلمة مع عديلتها محمَّد رسول الله (قلبه) فاعل مستيقنًا (فبشره) أي بشر ذلك الذي رأيته (بالجنة) أي بدخول الجنَّة دار الكرامة.
قال النووي: معنى هذا الكلام أخبرهم أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنَّة وإلا فأبو هريرة لا يعلم استيقان قلوبهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنَّه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون المنطق، ولا المنطق دون الاعتقاد بل لا بد من الجمع بينهما، وقد تقدم إيضاحه في أول الكتاب وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز وإلا فالاستيقان لا يكون إلَّا بالقلب انتهى.
وقال القرطبي: واليقين هو العلم الراسخ في القلب الثابت فيه، يقال منه يقنت
فَكَانَ أوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ، فَقَال: مَا هَاتَانِ النَّعْلانِ يَا أَبَا هُرَيرَةَ؟ قُلْتُ (1): هَاتَانِ نَعْلا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ: أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله مُسْتَيقِنًا بِهَا قَلْبُهُ .. بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَينَ ثَدْييَّ
ــ
الأمر بالكسر معناه أيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى واحد وربما عبروا بالظن عن اليقين، وباليقين عن الظن، قال أبو مسعدة الأسدي:
تحسَّبَ هَوَّاسٌ وأيقن أنني
…
بها مُفتدٍ من واحد لا أغامره
يقول تشمم الأسد ناقتي يظن أنني أفتدي بها منه وأتركها له ولا أقاتله، قاله الجوهري، وقال غيره: اليقين هو السكون مع الوضوح، يقال: يقن الماء أي سكن وظهر ما تحته، فذهبت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا نعليه (فكان أول من لقيت) ورأيت بعد مفارقة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بنصب أول على أنَّه خبر كان مقدم على اسمها ورفع (عمر) على أنَّه اسمها مؤخر لكونه أعرف من المضاف أي فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من رأيته من النَّاس بعد ذهابي من عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم آخذًا بنعليه (فقال) عمر (ما هاتان النعلان) اللتان تمشي بهما (يا أبا هريرة قلت) له (هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما) إلى النَّاس على أني (من لقيتـ) ـه ورأيته (من) النَّاس (وراء هذا الحائط) والبستان حالة كونه (يشهد) ويقر (إن لا إله إلَّا الله) حالة كونه (مستيقنًا بها) أي موقنًا بمعناها (قلبه بشرته بالجنة) أي بدخولها، قال القرطبي: المبشر من لقي منهم أو من غيرهم مع المشاركة في السبب المذكور، قال النواوي: وفي بعض الأصول (فقلت هاتين نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصب هاتين ورفع نعلا وهو صحيحٌ، معناه فقلت: أعني هاتين هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب هاتين بإضمار أعني وحذف هما التي هي المبتدأ للعلم به، وأمَّا قوله (بعثني بهما) فهكذا ضبطناه بهما على التثنية وهو ظاهر، ووقع في كثير من الأصول، أو أكثرها (بها) من غير ميم، وهو صحيحٌ أيضًا، ويكون الضمير عائدًا إلى العلامة فإن النعلين كانتا علامة والله أعلم اهـ. نووي.
(فضرب عمر) بن الخطاب (بيده) في صدري (بين ثديي) بفتح المثلثة وسكون الدال وبياءين مفتوحتين ثانيتهما مشددة تثنية ثدي، وهو مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة،
(1) في نسخة: (فقلت).
فَخَرَرْتُ لاسْتِي، فَقَال: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً،
ــ
واختلفوا في اختصاصه بالمرأة، فمنهم من قال يكون للرجل والمرأة، ومنهم من قال: هي للمرأة خاصة، فيكون إطلاقه في الرجل مجازًا واستعارة، وقد أكثر إطلاقه في الأحاديث على الرجل (فخررت) أي سقطت (لاستي) أي على استي ودبري، والاسْتُ بكسر الهمزة اسم من أسماء المدبر، فالمستحب في مثل هذا الكناية عن قبيح الأسماء، واستعمال المجاز والألفاظ التي تُحصِّلُ الغرض ولا يكون في صورتها ما يستحيا من التصريح بحقيقة لفظه، وبهذا الأدب جاء القرآن العزيز والسنن كقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقوله: {وَكَيفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ، وقد يستعملون صريح الاسم لمصلحة راجحة وهي إزالة اللبس أو الاشتراك أو نفي المجاز أو نحو ذلك كقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنكتها" وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أدبر الشَّيطان وله ضراط" وكقول أبي هريرة رضي الله عنه: الحدث فساء أو ضراط، ونظائر ذلك كثير، واستعمال أبي هريرة هنا لفظ الاست من هذا القبيل والله أعلم اهـ نووي.
وعبارة القرطبي (قوله فخررت لاستي) أي على استي كما قال تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} أي عليها من الخرور وهو السقوط، وكأنه وكزه في صدره فوقع على استه، وقال القاضي عياض:(قوله فضرب عمر) لم يقصد عمر رضي الله عنه بضربه إذايته، ولا رد أمره صَلَّى الله عليه وسلام وإنما رأى المصلحة في عدم التبشير خوف الاتكال فتكثر أجورهم، والتبشير وإن كان للخواص لكن خاف أن يصل العوام، ولذا صوبه صلى الله عليه وسلم مع أن المصادر عنه ليس أمرًا حقيقة بل تطييب لنفوس الصّحابة وفي الحديث إشارة أهل الفضل والوزراء على الإمام وإن لم يستشرهم، ووقفهم بعض أمره حتَّى يعرضوا عليه ما رأوه فيه ورجوع الإمام إلى صواب ذلك. اهـ
(فقال) عمر لأبي هريرة (ارجع يا أبا هريرة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تبشر النَّاس بذلك قال أبو هريرة (فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً) أي تهيأت لبكاء وأخذت فيه، قال أبو عبيد: الجهش أن يفزع الإنسان إلى الإنسان مريدًا للبكاء كالصبي يفزع إلى أمه، فقال: جهشت جهوشًا وأجهشت إجهاشًا لغتان، وقال أبو زيد جهشت للبكاء والحزن والشوق جهوشًا فهو بالجيم والشين
وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أثَرِي، فَقَال لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيرَةَ؟ "، قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَينَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لاسْتِي، قَال: ارْجِعْ فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ:
ــ
المعجمة والهمزة والهاء مفتوحتان، قال النووي: هكذا وقع في الأصول التي رأيناها وهما صحيحان، وقال القاضي عياض: والإجهاش هو أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد، وقال الطبري: هو الفزع والاستغاثة وأمَّا قوله (بكاء) فهو منصوب على المفعول له، وقد جاء في رواية للبكاء، والبكاء يمد ويقصر لغتان اهـ نووي.
(وركبني عمر) أي تبعني ولحقني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة ولا تأخر، وقال القاضي عياض: تبعني في العين والوقت ومنه حديث حذيفة: "إنَّما تهلكون إذا صريح تمشون الركبان كأنكم يعاقيب الحجل" أراد أنكم تمضون على وجوهكم دون تثبت ولا استئذان من هو أسنُّ منكم، يركب بعضكم بعضًا فعل اليعاقيب، واليعاقيب جمع يعقوب وهو ذكر الحجل اهـ.
و(إذا) في قوله (فإذا هو) أي عمر (على أثري) أي ورائي وخلفي فجائية والفاء عاطفة ما بعدها على قوله فأجهشت بكاء، والتقدير فتهيأت للبكاء عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ففاجأني حضور عمر على أثري، وأمَّا قوله (على أثري) ففيه لغتان مشهورتان فصيحتان: كسر الراء وإسكان الثاء وفتحهما (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك) أي أي شيء ثبت لك، وأي مشكلة نزلت بك تتهيأ للبكاء (يا أبا هريرة قلت) له جوابًا لاستفهامه لما ذهبت من عندك (لقيت) واستقبلت (عمر) بن الخطاب (فأخبرته) أي فأخبرت عمر (بـ) ـالأمر (الذي بعثتني) وأرسلتني (به) من تبشير من لقيته بالجنة (فضربـ) ـني في صدري (بين ثديي) أي بين ثديين لي (ضربة) شديدة؛ أي وكزني وكزة شديدة (خررت) وسقطت منها (لاستي) أي على استي ودبري ثم (قال) لي عمر معطوف بعاطف مقدر على ضرب (ارجع) يا أبا هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخبر النَّاس بهذه البشارة، فحمل عمر البشارة على العموم، ولكن مراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الخصوص فخشي عمر في الخصوص أن يفشو ويتسع (فقال له) أي لعمر (رسول الله) صلى الله عليه وسلم (يا عمر ما حملك) وبعثك (على ما فعلت) بأبي هريرة من منعه من
"يَا عُمَرُ (1)؛ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ "، قَال: يَا رَسُولَ الله؛ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيرَةَ بِنَعْلَيكَ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ: أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ مُسْتَيقِنًا بِهَا قَلْبُهُ .. بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ ! قَال: "نَعَمْ"، قَال: فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَخَلِّهِمْ"
ــ
التبشير ورده عليَّ (قال) عمر جوابًا لاستفهامه صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله بأبي أنت وأمي) أي أنت مَفْدِيٌّ من كل مكروه بأبي وأمي، أو أفديك بأبي وأمي، وفي هذا جواز قول الرجل للآخر بأبي أنت وأمي، وقد كرهه بعض السلف وقال: لا يُفدَّى بمسلم، والأحاديث الصحيحة تدل على جوازه سواء كان المفدى بهما مسلمين أم لا وسواء كانا حيين أو ميتين؛ لأنَّه ليس المراد الحقيقة وإنَّما هو على معنى الحنانة والبر (أبعثت) أي هل أرسلت يا رسول الله (أبا هريرة) إلى النَّاس حالة كونه ملتبسًا (بنعلبك) على أنَّه (من لقي) ورأى من النَّاس حالة كون ذلك المَلْقِيِّ له (يشهد) ويقر (إن لا إله إلَّا الله مستيقنًا بها) أي موقنًا بمعنى هذه الكلمة (قلبه بشره بالجنة) أي بدخولها (قال) النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (نعم) أرسلته ليبشر النَّاس بالجنة (قال) عمر للنبي صلى الله عليه وسلم (فلا تفعل) يا رسول الله ذلك التبشير (فإني أخشى) وأخاف (إن يتكل النَّاس) ويعتمدوا (عليها) أي على تلك الشهادة، ويكتفوا بمجردها عن إكثار الأعمال الصالحة، فليس في تبشيرهم بذلك مصلحة لهم لقلة عملهم وأجورهم حينئذ (فخلهم) يا رسول الله أي اتركهم على حالهم واجتهادهم في العمل الصالح حالة كونهم (يعملون) أي يكثرون من العمل الصالح (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة إذا كان الأمر كذلك؛ أي اتكالهم على مجرد الشهادة (فخلهم) يا أبا هريرة على حالهم، فلا تخبرهم بهذه البشارة مخافة اتكالهم على مجردها.
قال الأبي: والأظهر أن عمر لم يسمع حديث معاذ المتقدم لقوله: فإني أخشى، فهو من إلهاماته النفسية، ويكون سكوته صلى الله عليه وسلم عن ذلك اتكالًا على ما سبق بيانه، وقال الأبي أيضًا: وليس هذا من النسخ قبل الفعل لأنَّه قد بلغ البعض، قال القاضي عياض: وفي هذا رجوع الإمام إلى ما ظهر له صوابه، ولا خلاف أن له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في أمور الدُّنيا ويرجع إلى رأي غيره في ذلك كما فعل في تلقيح
(1) في نسخة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النخيل والنزول ببدر ومصالحة أهل الأحزاب. انتهى
"بشارة": وعندما وصلت إلى هذا المحل من الكتابة في جوف الليلة الحادية والعشرين من شعبان ليلة الخميس في تاريخ (21/ 8 / 1419 هـ) كسلت من الكتابة ورقدت، ورأيت في المنام كأني بنيت بيتًا كان سقفه في السماء، وأركان جداره في مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها وفي قصدي جعل بعضه مساجد، وبعضه مدارس للمسلمين، والنّاس يأتون إليه ويتعجبون منه، وجاء رجل أبيض أحسن النَّاس قدًا وهيئة وجمالًا وطاف بذلك البيت وتعجب منه ويقول بصوت رفيع: رحم الله امرأ بنى بما لم يبن غيره، وأظن ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم أر الإمام مسلمًا وأكبر ظني أنَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ورأيت في تلك الرؤيا بشارة عظيمة لا أستطيع وصفها الآن والحمد لله على هذه البشارة، قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} وإلى المقصود نرجع فنقول:
قال الأبي: واختلف هل له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الشرعيات؟ وهل هو معصوم في اجتهاده أم هو كغيره؟ والصَّواب أن له ذلك لقوله تعالى {لِتَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ} الآية، ولحكمه برأيه في أسرى بدر، وأنَّه معصوم في ذلك لأنَّ اجتهاده ركن من أركان الشريعة تستنبط منه الأحكام ويقاس عليه فكيف يتصور فيه الخطأ ومخالفة الحق، وإنَّما الحق والصَّواب ما فعله، وإنَّما الشرع ما اجتهد فيه، وخطأ المجتهدين إنَّما هو بعدم توفيقهم إلى فهمهم مراده صلى الله عليه وسلم وهذا كله على أن المصيب واحد، وأمَّا على أن كل مجتهد مصيب فالأمر واضح.
قال الأبي: جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم للأكثر، وتوقف فيه إمام الحرمين، ومنعه الجبائي وابنه والإمامية، والحقُّ ما ذُكر من عصمته فيه، وحكى الطُّوسي عن جماعة: جواز ذلك عليه، قالوا: ولكن لا يقر عليه، واختاره ابن الحاجب، ولم نزل نسمع إنكار هذا القول وترجيح ابن الحاجب له انتهى.
قال القرطبي: (وأعلم) أن ضرب عمر لأبي هريرة حتَّى سقط لم يكن ليؤذيه ويوقعه، ولكن إنَّما كان ليوقفه ويمنعه من النهوض بالبشرى حتَّى يراجع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك من عمر اعتراضًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ردًّا لأمره وإنَّما كان ذلك سعيًا في استكشاف عن مصلحة ظهرت له لم يعارض بها حكمًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا شرعًا، إذ ليس فيما أمره به إلَّا تطييب قلوب أصحابه أو أمته بتلك البشرى، فرأى عمر أن السكوت عن تلك البشرى أصلح لهم لئلا يتكلوا على ذلك فتقل أعمالهم وأجورهم، ولعل عمر قد كان سمع ذلك من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه معاذ رضي الله عنهما على ما يأتي في حديث معاذ الآتي قريبًا فيكون ذلك تذكيرًا للنبي صلى الله عليه وسلم بما قد سمع منه، ويكون سكوت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك تعديلًا على ما قد كان تعذر لهم تبيانه لذلك، ويكون عمر لما خصه الله تعالى به من الفطنة وحضور الذهن تذكّر ذلك واستبلد أبا هريرة إذ لم يتفطن لذلك ولا تذكره فضربه تلك الضربة تأديبًا وتذكيرًا، وفي هذا الحديث دليل على جواز تخصيص العموم بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار، وقد اختلف فيه الأصوليون، وفيه عرض المصالح على الإمام وإن لم يستدع ذلك، وفيه أبواب لا تخفى، والله عز وجل أعلم انتهى.
قال النواوي: (وأعلم) أن حديث أبي هريرة هذا مشتمل على فوائد كثيرة تقدم في أثناء الكلام منه جمل ففيه جلوس العالم لأصحابه ولغيره من المستفتين وغيرهم يُعلمهم ويفيدهم ويفتيهم، وفيه ما قدمناه أنَّه إذا أراد ذكر جماعة كثيرة فاقتصر على بعضهم ذكر أشرافهم أو بعض أشرافهم، ثم قال: وغيرهم، وفيه بيان ما كانت الصّحابة عليه رضي الله تعالى عنهم من القيام بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه والشفقة عليه والانزعاج البالغ لما يطرقه صلى الله عليه وسلم، وفيه اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم والاعتناء بتحصيل مقاصده، ودفع المفاسد عنه، وفيه جواز دخول الإنسان مِلك غيره بغير إذنه؛ إذا علم أنَّه يرضى ذلك لمودة بينهما أو غير ذلك، فإن أبا هريرة رضي الله عنه دخل الحائط وأقره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يُنقل أنَّه أنكر عليه، وهذا غير مختص بدخول الأرض، بل يجوز له الانتفاع بأدواته وأكل طعامه والحمل من طعامه إلى بيته، وركوب دابته ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنَّه لا يشق على صاحبه هذا هو المذهب الصَّحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف من العلماء رحمة الله تعالى عليهم، وصرح به أصحابنا، قال أبو عمر ابن عبد البر: وأجمعوا على أنَّه لا يتجاوز الطَّعام وأشباهه إلى الدراهم والدنانير وأشباههما وفي ثبوت الإجماع في حق من يقطع بطيب قلب صاحبه بذلك نظر، ولعل هذا يكون في الدراهم والدنانير الكثيرة التي يشك أو قد يشك في رضاه بها، فإنهم اتفقوا على أنَّه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقًا فيما
56 -
(31) حَدَّثَنَا إِسحَاقُ بن مَنْصُورٍ،
ــ
تشكك في رضاه به، ثم دليل الجواز في الباب الكتاب والسنة وفعل وقول أعيان الأمة، فالكتاب قوله تعالى:{لَيسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} إلى قوله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} والسنة هذا الحديث وأحاديث كثيرة معروفة بنحوه وأفعال السلف وأقوالهم في هذا أكثر من أن تحصى وتحصر والله تعالى أعلم.
وفيه أيضًا إرسال الإمام المتبوع إلى أتباعه بعلامة يعرفونها ليزدادوا بها طمأنينة، وفيه ما قدمناه من الدلالة لمذهب أهل الحق أن الإيمان المنجي من الخلود في النار لا بد فيه من الاعتقاد والنطق، وفيه جواز إمساك وكتم بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة، أو لخوف المفسدة، وفيه إشارة بعض الأتباع على المتبوع بما يراه مصلحة وموافقة المتبوع له إذا رآه مصلحة، ورجوعه عما أمر به بسبب وفيه جواز قول الرجل للآخر بأبي أنت وأمي كما مر تفصيله عن القاضي عياض رحمهم الله تعالى جميعًا.
وحديث أبي هريرة هذا انفرد به مسلم عن أصحاب الأمهات، فموضع الترجمة منه قوله "فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة".
ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث أبي هريرة بحديث معاذ رضي الله عنهما فقال:
(56)
- ش (31)(حدثنا إسحاق بن منصور) بن بهرام بفتح الباء وسكون الهاء في الأصل اسم للكوكب الذي في السماء الخامسة من السبعة السيارة المسمى عندهم بالمريخ، المعروف بالكوسج، لقب به لأن أسنانه كانت ناقصة مقطعة الأطراف، أبو يعقوب التميمي الحافظ المروزي ثم النيسابوري، روى عن معاذ بن هشام والنضر بن شميل وجعفر بن عون وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي عاصم النبيل وعبد الرزاق وروح بن عبادة وحسين بن علي الجعفي كلهم في كتاب الإيمان وغيرهم.
ويروي عنه (خ م ت س) وابن أبي داود وأحمد بن حمدون الأعمش وخلق، وقال في التقريب: ثقة ثبت من الحادية عشرة مات سنة (251) إحدى وخمسين ومائتين.
روى عنه المؤلف في كتاب الإيمان في مواضع والوضوء والصلاة وفي الحج في موضعين والبيوع في أربعة مواضع والنكاح والطلاق والوصايا والقسامة والحدود
أخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَال: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، قَال: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:
ــ
والجهاد والأطعمة وفضائل الصحابة والقدر والتوبة وذكر الجن فجملة الأبواب التي روى المؤلف عنه فيها سبعة عشر بابًا تقريبًا، قال إسحاق بن منصور (أخبرنا معاذ بن هشام) ابن أبي عبد الله واسمه سنبر الدستوائي أبو عبد الله البصري نزيل اليمن، روى عن أبيه وشعبة وابن عون وأشعث بن عبد الملك وغيرهم، ويروي عنه (ع) وإسحاق بن منصور وأبو غسان المسمعي في الإيمان بلفظة غريبة، وإسحاق الحنظلي ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وزهير بن حرب وغيرهم، قال ابن معين: صدوق ليس بحجة، وقال في التقريب: صدوق ربما وهم، من التاسعة مات سنة (200) مائتين، روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء والصلاة والحج في أربعة أبواب تقريبًا.
(قال) معاذ بن هشام (حدثني أبي) هشام بن أبي عبد الله سنبر بفتح السين والموحدة بينهما نون ساكنة الدستوائي بفتح الدال والمثناة بينهما مهملة ساكنة نسبة إلى دستواء من كور الأهواز، وكان يبيع الثياب التي تجلب منها فنسب إليها، أبو بكر الربعي الحافظ البصري روى عن قتادة وأبي الزبير ويحيى بن أبي كثير ومطر الوراق وغيرهم، ويروي عنه (ع) وابنه معاذ ووكيع ويزيد بن زريع وابن المبارك وابن مهدي وغندر وخلق، قال العجلي ثقة ثبت، وقال في التقريب: ثقة ثبت وقد رمي بالقدر من كبار السابعة مات سنة (154) أربع وخمسين ومائة، روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء في موضعين وفي الصلاة في أربعة مواضع وفي الحج في موضعين وفي النكاح في موضعين والهبة وفي الأطعمة، روى عنه في سبعة أبواب تقريبًا.
(عن قتادة) بن دعامة بن قتادة السدوسي أبي الخطاب البصري الأكمه أحد الأئمة الأعلام، حافظ مفسر مدلس ثقة ثبت من رؤوس الطبقة الرابعة، مات كهلًا سنة (117) سبع عشرة ومائة، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ستة وعشرين بابًا تقريبًا.
(قال) قتادة (حدثنا أنس بن مالك) بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي النجاري أبو حمزة البصري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه أم سليم بنت ملحان، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في اثني عشر بابًا تقريبًا، روى عن معاذ بن جبل.
أن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ- قَال: "يَا مُعَاذُ"؛ قَال: لَبيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيكَ، قَال:"يَا مُعَاذُ"؟ قَال: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيكَ، قَال:"يَا مُعَاذُ"؛ قَال: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيكَ، قَال: "مَا مِنْ
ــ
وهذا السند من سداسياته، ورجاله أربعة منهم بصريون وواحد نيسابوري وواحد مدني، ومن لطائفه أن فيه رواية ولد عن والد، ورواية صحابي عن صحابي وكلهم ثقات إلا معاذ بن هشام فإنه صدوق، أي حدثنا أنس بن مالك (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بنصب نبي الله على أنه اسم أن، والواو في قوله (ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل) واو الحال، والجملة الاسمية في محل النصب حال من اسم أن، وجملة قوله (قال يا معاذ) خبر أن وجملة أن في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول ثانٍ لقوله حدثنا أنس، وقد سبق لك أن الرديف هو الراكب خلف الراكب، والرحل للبعير كالسرج للفرس.
والمعنى حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل قول النبي صلى الله عليه وسلم له يا معاذ حالة كون معاذ راكبًا خلفه صلى الله عليه وسلم على الرحل (قال) معاذ مجيبًا لندائه صلى الله عليه وسلم (لبيك) أي أجبت لك إجابة بعد إجابة يا (رسول الله وسعديك) أي وأسعدك إسعادًا في طاعتك، وقد تقدم البحث عن هاتين الكلمتين في حديث معاذ السابق.
قال القاضي عياض: وفي الحديث جواز قول الرجل للرجل في الجواب عند دعائه له لبيك وسعديك، ومعنى لبيك إجابة لك بعد إجابة، وقيل: لزومًا لطاعته وطوعًا بعد لزوم ومعنى سعديك إسعادًا لك بعد إسعاد، وقيل: معنى لبيك مداومة على طاعتك، ومعنى سعديك مساعدة أوليائك على طاعتك، وقال سيبويه: معناه قربًا منك ومتابعة لك من ألبَّ فلان على كذا إذا داوم عليه ولم يفارقه، وأسعد فلان فلانًا على أمره وساعده، وقال: إذا استعمل في حق الله تعالى فمعناه لا أناى عنه في شيء تأمرني به وأنا متابعٌ أمرك وإرادتك انتهى منه.
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيًا (يا معاذ قال) معاذ ثانيًا (لبيك رسول الله وسعديك قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم ثالثًا (يا معاذ قال) معاذ ثالثًا (لبيك رسول الله وسعديك قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة (ما من
عَبْدٍ يَشْهَدُ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .. إِلا حَرَّمَهُ اللهُ (1) عَلَى النارِ"، قَال: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أفَلا أُخْبِرُ بِهَا الناسَ فَيَسْتَبشِرُوا (2)؟ ، قَال: "إِذا يَتَّكِلُوا"،
ــ
عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله) قال القرطبي هكذا وقع هذا الحديث في رواية مسلم عن جميع رواته فيما علمته، وقد زاد البخاري فيه "صدقًا من قلبه" وهي زيادة حسنة تنص على صحة ما تضمنته الترجمة المتقدمة، وبها حصلت مطابقة الحديث للترجمة وتنص أيضًا على فساد مذهب المرجئة كما قد قدمناه، ومعنى صدق القلب تصديقه الجازم بحيث لا يخطر له نقيض ما صدق به، وذلك إما عن برهان فيكون علمًا أو عن غيره فيكون اعتقادًا جزمًا انتهى.
أي ما عبدٌ مقر للشهادتين موقن بمعناهما (إلا حرمه الله) أي حرم الله سبحانه وتعالى ذلك العبد، أي إحراق ذلك العبد (على النار) الأخروية، قال الأبي وهذا أخص من حديث دخل الجنة، فهو أحوج إلى التأويل، فأولها الحسن بحملها على من مات ولم يعص الله، وحملها البخاري على من مات وهو تائب كما مر ولا يعارضه قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا} لما تقدم أن الصحيح فيه أنه الجواز على الصراط اهـ.
وقال القرطبي: ويجوز أن يحرم الله من مات على الشهادتين على النار مطلقًا ومن دخل النار من أهل الشهادتين بكبائره حرم على النار جميعه أو بعضه كما قال في الحديث الآخر "فيحرم صورهم على النار"رواه البخاري (7439) وقال: "حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود" رواه البخاري (6573) ومسلم (182) ويجوز أن يكون معناه إن الله يحرمه على نار الكفار التي تنضج جلودهم ثم تبدل بعد ذلك كما قال تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرَهَا} (قال) معاذ (يا رسول الله أ) أكتم هذه البشارة (فلا أخبر بها الناس) والفاء في قوله (فيستبشروا) عاطفة سببية، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخبرهم إياها (إذًا) أي إن أخبرتهم (يتكلوا) ويعتمدوا على مجرد الشهادتين ويكتفوا بها عن إكثار
(1) في نسخة: (إلا حرم الله).
(2)
في نسخة: (أفلا أخبر بها فيستبشروا).
فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ موْتهِ تأَثُّمًا
ــ
الأعمال الصالحة، فإذن حرف جواب، ويتكلوا منصوب بها (فأخبر بها) أي بهذه البشارة (معاذ عند) نزول مقدمات (موته) عليه (تأثمًا) أي طلبًا للخروج من إثم كتمان العلم، قال الهروي: يقال تأثم إذا أزال إثم كتم العلم عن نفسه لأن تَفَعّل يرد لإزالة الشيء بالنفس فتحنث أزال الحنث عنه، وتحرَّج أزال الحرج، وتأثم أزال إثم كتم العلم عنه، وتقذَّر إذا تباعد عن القذر، قال المازري: والأظهر أنه لا يعني ذلك في الحديث، لأنه إنما سكت امتثالًا للنهي بقوله: فلا تبشرهم، فأين الإثم حتى يزيله، قال القاضي عياض: يحتمل أنه سمع حديث أبي هريرة فرآه ناسخًا، أو رأى أن قوله لا تبشرهم ليس نهيًا حقيقة وإنما هو كسر عزيمة عن التبشير أو رآه نهيًا، ولكن عن إشاعته للعوام خوف الاتكال وهذا هو الظاهر، ويؤيد هذا التأويل قوله في حديث أبي هريرة فمن لقيت وراء هذا الحائط يعني من النفر الذين كانوا معه ولذا ترجم البخاري عليه بباب تخصيص قومٍ دون قوم بالعلم خوف أن لا يفهموا.
قال الأبي: لو تأثم لواحدة من هذه الثلاث لم يؤخر الإخبار إلى الموت إلا أن يقال إن الكتم إنما يتحقق بالموت أو يقال إنه رأى النهي عن التبشير إنما هو خوف الاتكال وخوف الاتكال إنما يكون في بدء الأمر أما بعد رسوخ الدين وتقرر الشريعة فلا يخاف ذلك فتأثم في التأخير إلى الآن اهـ.
قال النواوي: ومعنى تأثم معاذ أنه كان يحفظ علمًا يخاف فواته وذهابه بموته فخشي أن يكون ممن كتم علمًا وممن لم يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ سننه فيكون إثمًا فاحتاط وأخبر بهذه السنة مخافة من الإثم وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن الإخبار بها نهي تحريم، وقال ابن الصلاح منعه صلى الله عليه وسلم من التبشير العام خوفًا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به صلى الله عليه وسلم على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذًا فسلك معاذ هذا المسلك فأخبر به من الخاصة من رآه أهلًا لذلك وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته البخاري وإنما أورده استشهادًا، ولم يورده استدلالًا مع كونه أصح من حديث أبي هريرة الذي أورده استدلالًا لعدم صراحته في الترجمة على رواية مسلم.
* * *