الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17 - بَابُ فِي مَدْحِ الْحَيَاءِ، وَامْتِنَاعِ مُقَاوَمَةِ النَّصِّ بِكَلامِ الحُكَمَاءِ
64 -
س (36) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى- قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
ــ
17 -
بَابُ فِي مَدْحِ الْحَيَاءِ، وَامْتِنَاعِ مُقَاوَمَةِ النَّصِّ بِكَلامِ الحُكَمَاءِ
أي باب معقود في مدح الحياء وبيان أن الحياء كله غريزيًّا كان أو كسبيًّا خير، ولا يحمل صاحبه إلا على خير، ولم أرَ أحدًا من الشراح ترجم لهذا الحديث، ولكنه حديث مستقل لا يدخل في الترجمة السابقة، ولذلك ترجمت له بل له فائدة مستقلة لا تفهم مما سبق، وهو امتناع مقابلة النص قرآنًا كان أو حديثًا بكلام الناس ومعارضته به، قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(64)
- س (36)(حدثنا محمد بن المثنى) بن عبيد بن قيس العنزي أبو موسى البصري مشهور بكنيته وباسمه كان صاحب كتاب لا يحدث إلا عن كتابه، روى عن محمد بن جعفر وابن مهدي وغيرهما، ويروي عنه (ع) وأبو زرعة وأبو حاتم والذهلي وخلق، ثقة ثبت من العاشرة مات سنة (252) اثنتين وخمسين ومائتين، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في أربعة عشر بابًا تقريبًا (ومحمد بن بشار) بن عثمان العبدي أبو بكر البصري أحد أوعية الحديث، ولذلك لقب ببندار، روى عن غندر وابن أبي عدي وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم، ويروي عنه (ع) وابن خزيمة وابن صاعد وغيرهم ثقة من العاشرة، مات سنة (252) اثنتين وخمسين ومائتين وله بضع وثمانون سنة، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في اثني عشر بابًا تقريبًا، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه لأن المتقارنين ثقتان، وأتى بقوله (واللفظ) أي ولفظ الحديث الآتي (لابن المثنى) لا لابن بشار، لأنه إنما روى معنى الحديث الآتي لا لفظه تورعًا من الكذب على ابن بشار، لأنه لو ترك هذه الجملة لأوهم أن ابن بشار روى لفظ الحديث الآتي كابن المثنى، وليس كذلك، (قالا) أي قال ابن المثنى وابن بشار (حدثنا محمد بن جعفر) الهذلي مولاهم المدني البصري أبو عبد الله ربيب شعبة، روى عن شعبة وابن جريج وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، ويروي عنه (ع) ومحمد بن المثنى وابن بشار وابن بشر وغيرهم ثقة من التاسعة، مات سنة (193) ثلاث وتسعين ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ستة أبواب تقريبًا، قال محمد بن جعفر (حدثنا
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّارِ يُحَدِّثُ: أَنهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنهُ قَال: "الْحَيَاءُ
ــ
شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام البصري ثقة حافظ متقن من السابعة، مات سنة (160) ستين ومائة، وقد تقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في ثلاثين بابًا تقريبًا (عن قتادة) بن دعامة السدوسي أبي الخطاب البصري الأكمه ثقة ثبت من رؤوس الطبقة الرابعة، مات سنة (117) سبع عشرة ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في خمسة وعشرين بابًا تقريبًا.
(قال) قتادة (سمعت أبا السوار) بفتح السين المهملة وتشديد الواو آخره راء مهملة، قيل: اسمه حسان بن حُريث بالمثلثة وقيل بالعكس، وقيل حسان بن حُريف مصغرًا آخره فاء، وقيل منقذ وقيل حُجير بن الربيع العدوي، وقيل أبو محذورة من بني عدي بن عبد مناف بن أُد بن طابخة البصري ثقة من الثانية، روى عن عمران بن حصين في الإيمان والصلاة، ويروي عنه (خ م س) وقتادة وأبو التياح وغيرهم.
حالة كون أبي السوار (يحدث) بحديث يروي فيه (أنه سمع عمران بن حصين) بن عبيد بن خلف بن عبد نهم بن سالم الخُزاعي أبا نُجيد بضم النون مصغرًا البصري، أسلم عام خيبر له مائة وثلاثون حديثًا (130) اتفقا على ثمانية وانفرد (خ) بأربعة و (م) بتسعة، وكان من علماء الصحابة، يروي عنه (ع) وأبو السوار حسان بن حُريث العدوي وأبو قتادة تميم بن نذير العدوي وابنه نُجيد والحسن وابن سيرين ومطرف بن الشخير وخلق، بعثه عمر إلى البصرة ليُفقههم، وكانت الملائكة تسلم عليه، مات بالبصرة سنة (52) اثنتين وخمسين روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة وغيرهما، وهذا السند من سداسياته، ومن لطائفه أن رجاله كلهم بصريون، حالة كون عمران (يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه) صلى الله عليه وسلم (قال الحياء) أي جنس الحياء الصادق بالبعض لأن الألف واللام فيه جنسية لا استغراقية، فيُعترض عليه بأن بعض الحياء مذموم لا خير فيه، فكيف يقال إن كل الحياء خير، لأن من الحياء ما هو مذموم كالحياء المانع من أداء الصلاة في وقتها في مجلس الفسقة أوالكفرة خوفًا من سخريتهم وضحِكهم به ومنه ما هو ممدوح كالحياء من فعل الرذائل والمعاصي، ومساوي الأخلاق بحضرة الصالحين.
لَا يَأْتِي إِلا بِخَيرٍ"، فَقَال بُشَيرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ، أَن مِنْهُ وَقَارًا، وَمِنْهُ سَكِينَةً، فَقَال عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ
ــ
والمعنى أي بعض الحياء (لا يأتي) ولا يأمر (إلا بخير) أي بما فيه محمدة شرعًا وعقلًا، والبعض الآخر يأمر ويبعث بشر كالحياء من فعل الواجبات بحضرة الفسقة والكفرة، وفي الأبي (قوله الحياء لا يأتي إلا بخير) قال النواوي: استشكل بأن الحياء قد يفرط بصاحبه حتى يمنعه من القيام بحقوق الله تعالى، ومعلوم أن هذا لا خير فيه، وأجاب ابن الصلاح بأن هذا ليس بحياء حقيقة، وإنما هو خور ومهانة، فلا يدخل في الحياء.
(قلت) ما تقدم له في تفسير الحياء من قوله: إن الحياء خلق يمنع من القبيح ومن التقصير في الحقوق، وما يأتي من تفسير الحكماء يحقق أنه حياء حقيقة، وإنما الجواب: أنه عام مخصوص إن جعلت الأداة في الحياء للعموم، وإن لم تجعل فالحديث قضية مهملة، والمهملة في قوة الجزئية، ولا تناقض بين جزئيتين فالمعنى: بعض الحياء لا يأتي إلا بخير وبعض الحياء لا خير فيه وهذا البعض تعرفه من الكلام على الحديث الذي يأتي بعده انتهى.
(فقال بشير) بضم الباء وفتح الشين (بن كعب) العدوي في مقابلة هذا الحديث (إنه) أي إن الشأن والحال (مكتوب في) كتب (الحكمة) أي في الكتب السالفة، ومكتوب مبتدأ ليس له خبر بل له مرفوع سد مسد الخبر لأنه اسم مفعول يعمل عمل الفعل المبني للمجهول لاعتماده على مخبر عنه، ومرفوعه هو جملة أن في قوله (أن منه) أي من الحياء (وقارًا) أي أن منه ما هو وقار، أي ما يحمل صاحبه على أن يوقر الناس، ويتوقر هو في نفسه (و) أن (منه) أي من الحياء (سكينة) بالنصب معطوف على وقارًا، أي وأن منه ما هو سكينة، أي ما يحمل صاحبه على أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس إليه من الأمور التي لا تليق بذوي المروءات (فقال عمران) بن حصين منكرًا عليه هذا القول (أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و) أنت (تحدثني عن صحفك) وكتبك القديمة، ولم ينكر عمران على بشير هذا القول من حيث معناه، وإنما أنكره عليه من حيث إنه أتى به في معرض من يعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام
65 -
(00) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ عَنْ إِسْحَاقَ -وَهُوَ ابْنُ سُوَيدٍ-:
ــ
الحكماء، ويقاومه به ولذلك (قال عمران أحدثك) وأخبرك يا بشير حديثًا (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني) أنت يا بشير كلام الحكماء (عن صحفك) وأوراقك المدونة من أقاويل الأولين التي لا أثر لها ولا سند لها كأنك تريد أن تعارض وترد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الآثار التي لا أثر ولا سند لها، وقيل إنما أنكره عليه لأنه خاف أن يُخلط بالسنة ما ليس منها، فسد ذريعة ذلك بالإنكار اهـ قرطبي.
وحديث عمران هذا شارك المؤلف في روايته أحمد (4/ 437) والبخاري (6117) وأبو داود (4796).
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث عمران فقال:
(65)
-متا (00)(حدثنا يحيى بن حبيب) بن عربي (الحارثي) وقيل الشيباني أبو زكريا البصري روى عن حماد بن زيد ومعتمر بن سليمان وخالد بن الحارث ويزيد بن زُريع وغيرهم ويروي عنه (م عم) وأبو بكر بن عاصم وأبو بكر البزار وابن خزيمة وغيرهم، وثقه النسائي وقال في التقريب: ثقة من العاشرة، مات بالبصرة سنة (248) ثمان وأربعين ومائتين، روى عنه المؤلف في الإيمان والصلاة في موضعين والحج والجهاد والديات في خمسة أبواب تقريبًا، قال يحيى بن حبيب (حدثنا حماد بن زيد) بن درهم الأزرق الأزدي أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه من كبار الثامنة مات سنة (179) تسع وسبعين ومائة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في أربعة عشر بابًا تقريبًا.
(عن إسحاق) بن سويد بن هُبيرة العدوي "نسبة إلى عدي بن كعب" التميمي البصري، روى عن أبي قتادة العدوي وعبد الرحمن بن أبي بكرة ومعاذة العدوية ويحيى بن يعمر وغيرهم ويروي عنه (خ م د س) والحمادان وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي وعدة وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن سعد، وقال في التقريب: صدوق من الثالثة، مات في الطاعون سنة (131) إحدى وثلاثين ومائة، وله في البخاري فرد حديث مقرونًا بغيره، روى عنه المؤلف في الإيمان وفي الصوم وفي الأشربة في ثلاثة أبواب، وأتى بهوفي قوله (وهو ابن سويد) تصغير أسود بحذف الزوائد
أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَال: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا (1) بُشَيرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ خَيرٌ كُلُّهُ"، قَال: أَوْ قَال: "الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيرٌ"، فَقَال بُشَيرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ -أَو
ــ
إشارة إلى أن هذه النسبة لم يسمعها من شيخه، بل مما زادها من عند نفسه إيضاحًا للراوي، وجملة أن في قوله (أن أبا قتادة حدث) إسحاق بن سويد في محل المفعول الثاني لحدثنا حماد، وهو أبو قتادة العدوي البصري مختلف في صحبته، اسمه تميم بن نذير بضم النون وفتح الذال المعجمة مصغرًا، وقيل تميم بن الزبير، وقيل تميم بن يزيد بالزاي، وقيل اسمه نذير بن قنفذ، روى عن عمر وعمران بن حصين، ويروي عنه (م د س) وإسحاق بن سويد وحُميد بن هلال، وثقه ابن معين له عندهم حديثان فقط، روى عن عمران بن حصين في الإيمان، وعن يسير بن جابر، ويقال أسير، في الفتن (قال) أبو قتادة (كنا عند عمران بن حصين) الخزاعي البصري الصحابي الجليل (في رهط) أي مع جماعة (منا) أي من العدويين، والرهط اسم لما دون العشرة من الرجال خاصة لا يكون فيهم امرأة وليس له واحد من لفظه، والجمع أرهط وأرهاط وأراهط وأراهيط.
وهذا السند من خماسياته، ومن لطائفه أن رجاله كلهم بصريون أيضًا، وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة أبي قتادة لأبي السوار في رواية هذا الحديث عن عمران بن حصين، وقال النواوي: إن رجال هذا السند والذي قبله كلهم بصريون، ومن ألطف لطائف السند اجتماع إسنادين متلاصقين رجالهما كلهم بصريون، وهذا من النفائس الموجودة في هذا الجامع (وفينا) معاشر الرهط (بشير بن كعب) العدوي (فحدثنا عمران) ابن حصين (يومئذ) أي يوم إذ كنا مجتمعين عنده فـ (ـقال) عمران في تحديثه لنا (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء خير) مبتدأ وخبر وقوله (كله) تأكيد للمبتدأ، ويستفاد منه أن الألف واللام فيه استغراقية إلا إن قلنا إنه عام أريد به بعض أفراده كما مر (قال) أبو قتادة (أو قال) عمران بن حصين (الحياء كله خير) بتقديم كله على خير والمعنى واحد والشك من أبي قتادة (فقال بشير بن كعب إنا) معاشر الحكماء (لنجد) ونرى أو نعلم (في بعض الكتب) السالفة كالتوراة والإنجيل (أو) قال بشير إنا لنجد في
(1) في نسخة: (في رهط وفينا).
الْحِكْمَةِ- أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا للَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، قَال: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَي احْمَرَّتَا عَينَاهُ،
ــ
بعض كلام أهل (الحكمة) والفراسة، والشك من أبي قتادة أيضًا، وجملة أن في قوله (أن منه سكينة) سادة مسد مفعولي نجد أي نجد في كتب أهل النبوة الأولى أو في بعض كتب أهل الحكمة والفراسة أن من الحياء ما هو سكينة وخوف لله تعالى بالجوارح وهو اجتناب العبث بالجوارح والتأني في المشي وقوله (ووقارًا لله) عز وجل أي وما هو خوف من الله تعالى بالقلب المسمى بالخشوع، وقوله لله جار ومجرور تنازع فيه كل من سكينة ووقارًا، فالسكينة الخوف الظاهري من الله تعالى، والوقارُ الخوفُ الباطنيُّ من الله تعالى والمعنى أن من الحياء ما يُورث السكينة والوقار من الله تعالى، بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يخاف في ذلك لومة لائم.
وهذا هو الطرف الوسط من الحياء الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط، وقوله (ومنه) أي ومن الحياء ما هو (ضعف) بفتح الضاد وضمها لغتان مشهورتان، أي ما يُورث الضعف في صاحبه إشارة إلى طرف الإفراط في الحياء، وهو المسمى بالخور والعجز والضعف والحماقة، وهو أن يستحيي من كل شيء، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يفعل المأمورات ولا يجتنب عن المنهيات خوفًا من لوم لائم، وأما طرف التفريط في الحياء فهو المسمى بالخلاعة، وهي التي لا يستحيي صاحبها من شيء، يعني من الله ومن غيره، فالخور مذموم لأنه يؤدي إلى ترك الواجب وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمنع من كثير من الخير كما قال صلى الله عليه وسلم:"نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" وإلى هذا الطرف أعني طرف الإفراط أشار بشير بقوله (ومنه ضعف) وأما طرف التفريط المسمى بالخلاعة والخديعة، فلا خفاء في ذمها أيضًا والممدوح الوسط من الحياء المسمى بالسكينة والوقار، وهذا هو المراد بالحياء المذكور في الحديث، لأنه عام أريد به بعض أفراده كما مر (قال) أبو قتادة (فغضب) أي وجد (عمران) بن حصين على بشير بن كعب (حتى) ظهر أثر الغضب على وجهه و (احمرتا عيناه) أي عينا عمران وتلونتا بلون الحمرة، وزال بياضهما لشدة غضبه على بشير، قال النواوي: قوله (احمرتا عيناه) هكذا في الأصول بالألف وهو صحيح جار على لغة أكلوني البراغيث، ومثله قوله تعالى {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} على
وَقَال: أَلا أُرَانِي (1) أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتُعَارِضُ فِيهِ، قَال: فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، قَال: فَأَعَادَ بُشَيرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ، قَال: فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيدٍ، إِنَّهُ لَا بَأسَ بِهِ
ــ
أحد الأقوال فيه، وحديث "يتعاقبون فيكم ملائكة" ومثله قول الشاعر:
ألفيتا عيناك عند القفا
…
أولى فأولى لك ذا واقية
وهذه لغة مشهورة لبعض العرب، تسمى لغة أكلوني البراغيث، وفي سنن أبي داود (واحمرت عيناه) بغير ألف وهذا هو الظاهر الواضح (وقال) عمران لبشير معطوف على غضب وكلمة ألا في قوله (ألا أراني) حرف استفتاح وتنبيه أو للاستفهام التقريري وأراني بضم الهمزة وجملة قوله (أحدثك) مفعول ثان لأراني أي انتبه واستمع ما أقول لك، أرى نفسي محدثًا إياك حديثًا (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و) أنت (تعارض) وتأتي (فيه) أي في مقابلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام يعارضه ويضاهيه ويناقضه ويخالفه وتعترضه بكلام الحكماء وأما إنكار عمران رضي الله عنه على بشير فلكونه قال (ومنه ضعف) بعد سماعه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه خير كله (قال) أبو قتادة (فأعاد عمران) بن حصين (الحديث) الذي حدثنا أولًا يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم الحياء خير كله، قال أبو قتادة (فأعاد بشير) بن كعب كلامه الأول يعني قوله (ومنه ضعف)(فغضب عمران) غضبًا شديدًا حتى هم به الشر (قال) أبو قتادة (فما زلنا) معاشر الرهط الحاضرين عنده نسكت غضب عمران و (نقول فيه) أي في شأن بشير (إنه) أي إن بشيرًا (منا) أي من المؤمنين (يا أبا نجيد إنه لا بأس به) أي لا نفاق به، فليس ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل السنة والاستقامة فيُحمل كلامه على أنه قصد به الاعتراض على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبو نجيد بضم النون وفتح الجيم آخره دال مهملة هو كنية عمران بن حصين رضي الله عنه عنه كني باسم ابنه نجيد.
قال القاضي عياض: وغضب عمران على بشير حتى يشهد له الحاضرون أنه لا بأس به يحتمل أنه لمعارضته السنة بقول الحكماء أو صونًا للسنة أن يُذكر معها غيرها أو خوف أن يتطرق من في قلبه ريب لمثل هذا.
(1) في نسخة: (ألا أرى).
66 -
(00) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ،
ــ
قال الأبي: المعارضة إنما هي إذا جُعلت الأداة في الحياء للعموم لأنه يصير التقدير كل حياء فيه خير، وقول الحكماء منه ضعف في قوة بعض الحياء لا خير فيه، والموجبة الكلية تناقضها السالبة الجزئية وقد سمعت ما فيه من البحث والصواب أنه إنما أنكر لإتيانه بكلام الحكماء في مقاومة كلام النبوة بدليل قوله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك، وما أشار إليه بشير من كلام الحكماء هو أنهم يقولون كل فضيلة في كل شيء، إنما هي الوسط بين طرفيها المذمومين طرف الإفراط وطرف التفريط كما قال صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها فالعلم مثلًا فضيلة فطرف إفراطه الدهاء، وطرف تفريطه البلادة، فالدهاء مذموم لأنه يحمل على المكر وعلى الحكم بالفراسة، ولذا لما عزل عمر إياسًا عن القضاء، فقال: أعن سخط يا أمير المؤمنين؟ قال: لا ولكن كرهت أن أحمل الناس على فضل عقلك، وأما البلادة فلا خفاء في ذمها وكذا الشجاعة فضيلة، فإنما هي الوسط بين طرفي إفراطها وتفريطها فطرف إفراطها التهور، وطرف تفريطها الجبن، فالتهور مذموم لأنه يحمل على البغي وإلقاء النفس إلى الهلاك والموت حيث لا يحمد والجبن مذموم لأنه يمنع من حفظ النفس والمال، ويحمل على الهروب من الموت حيث يحمد، وهكذا يقررونه في جميع الفضائل التي الحياء أحدها فطرف إفراط الحياء الخور، وهو أن يستحيي من كل شيء، وطرف تفريطه الخلاعة، وهي أن لا يستحيي صاحبها من كل شيء فالخور مذموم لأنه يؤدي إلى ترك الواجب وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمنع من كثير الخير كما قال صلى الله عليه وسلم نعم النساء نساء الأنصار لم يمنَعْهن الحياء أن يتفقَّهْنَ في الدين، وإلى هذا الطرف يشير بشير بقوله: ومنه ضعف، وأما الخلاعة فلا خفاء في ذمها اهـ منه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث عمران ثانيًا فقال:
(66)
- متا (00)(حدثنا إسحاق بن إبراهيم) بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي أبو يعقوب المروزي المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل من العاشرة، مات سنة (238) ثمان وثلاثين ومائتين لأربع عشرة ليلة من شعبان، وله سبع وتسعون (97) سنة، وتقدم البسط في ترجمته وأن المؤلف روى عنه في أحد وعشرين بابًا تقريبًا، قال إسحاق (أخبرنا النضر) بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عنترة المازني أبو الحسن البصري ثم الكوفي، نزيل مرو وشيخها، أصله من البصرة ومولده
أَخْبَرَنَا (1) أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَويُّ، قَال: سَمِعْتُ حُجَيرَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَدَويَّ يَقُولُ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيدٍ
ــ
بمرو الروذ خرج به أبوه هاربًا من الفتنة من مرو الروذ إلى البصرة سنة ثمان وعشرين ومائة (128) وهو ابن ست سنين، ثم رجع إلى مرو الروذ وسكنها ومات بمرو وبها قبره، روى عن أبي نعامة العدوي عمرو بن عيسى وحماد بن سلمة وشعبة وهشام الدستوائي وابن جريج وغيرهم، ويروي عنه (ع) وإسحاق الحنظلي وإسحاق بن منصور الكوسج ويحيى بن يحيى ويحيى بن معين وخلق، وثقه النسائي وابن معين وأبو حاتم، وقال في التقريب: ثقة ثبت من كبار التاسعة مات سنة (204) أربع ومائتين، وله اثنتان وثمانون (82) سنة، وكان من فصحاء الناس وعلمائهم بالأدب وأيام الناس، روى عنه المؤلف في الإيمان والوضوء والصلاة في موضعين والبيوع والأطعمة والفضائل والاستئذان والدعاء في موضعين وفي حديث الرَّحْلِ، فجملة الأبواب التي روى عنه المؤلف فيها تسعة أبواب تقريبًا.
قال النضر بن شميل (أخبرنا أبو نعامة) بفتح النون عمرو بن عيس بن سويد بن هبيرة (العدوي) البصري، روى عن حُجير بن الرَّبيع في الإيمان وحفصة بنت سيرين وشويس أبي الرقاد، ويروي عنه (م ق) والنضر بن شميل ويحيى القطان ووكيع وأبو عاصم، وثقه ابن معين والنسائي، قال أحمد: اختلط قبل موته، وقال في التقريب: صدوق اختلط من السابعة وقال النواوي: هو من الثقات الذين اختلطوا قبل موتهم، وقد قدمنا في الفصول وبعدها أن ما كان في الصحيحين من المختلطين فهو محمول على أنه عُلم أنه أُخذ عنهم قبل الاختلاط اهـ (قال) أبو نعامة (سمعت حجير) بضم الحاء بعدها جيم مفتوحة آخره راء مصغر (بن الربيع العدوي) البصري، يقال: هو أبو السوار بتشديد الواو، روى عن عمران بن حصين في الإيمان وعمر، ويروي عنه (م) وأبو نعامة العدوي فرد حديث عند مسلم وحُميد بن هلال، قال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: ثقة من الثالثة، وليس في مسلم حُجير إلا هذا.
حالة كون حُجير العدوي (يقول) ويروي (عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله (نحو حديث حماد بن زيد) مفعول ثان لقوله أخبرنا النضر أي أخبرنا
(1) في نسخة: (حدثنا).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النضر بن شميل عن عمران بن حصين بواسطة أبي نعامة عن حجير بن الربيع نحو حديث حماد بن زيد عن عمران بن حصين بواسطة إسحاق بن سويد عن أبي قتادة، فالمتابعة ناقصة، وهذا السند من خماسياته، رجاله اثنان منهم مروزيان وثلاثة بصريون وغرضه بسوق هذا السند بيان متابعة النضر بن شميل لحماد بن زيد في رواية هذا الحديث عن عمران بن حصين، ولكنها متابعة ناقصة، لأن النضر روى عن عمران بواسطة أبي نعامة وحجير، وروى حماد بن زيد عن عمران بواسطة إسحاق بن سويد وأبي قتادة، ولم يذكر المؤلف في هذا الباب إلا حديث عمران بن حصين وذكر فيه متابعتين والله أعلم.
***