الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن قواعد آداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل إنسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر1 وإذا كان الغدر عيبًا بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيبًا بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس!.
1 ابن الأثير "1/ 320 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 374".
العلاقات الخارجية:
لم تصل إلينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول، أي: علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية.
ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعًا عندهم في استقبال "الرسل" و"الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياسًا على المألوف عند العرب، أنهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقًا للتقاليد العربية ولظروفهم وإمكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم ردًّا جميلًا، إن حاز كلامهم موقعًا حسنًا في نفوس الملوك، وردًّا يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد والوعيد في خطبهم. ومتى عادوا أكرموا إكرامًا خاصًّا، ومنحوا ألطافًا وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم إليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الأحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لسانًا أو كتابة إلى موفديهم.
و"الوفد"، القوم القادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال: وفده الأمير إلى الأمير الذي فوقه، أي: ورد رسولًا1. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفودًا عنهم إلى الملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عهد حلف أو تفاوض أو تهديد بإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد أخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم واشتد أمر الإسلام.
1 اللسان "3/ 464 وما بعدها"، "وفد"، تاج العروس "2/ 538 وما بعدها"، "وفد".
وقد يكون الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دونت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين إلى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولإجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية، وقد نصوا أيضًا على أسماء بعض المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو إلى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي.
وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، أنهم إذا أرادوا إرسال ممثل عنهم إلى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في أمور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والشيطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل إليه، وأن يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمته لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عربًا أو عجمًا لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية أن عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم إلى حكام بلاد الشام أو إلى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا إلى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك، ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل المشكلات.
وقد يذهب ملك عربي أو سيد قبيلة لزيارة الحكام الأعاجم في مواضع حكمهم، أو في أماكن أخرى يتفقون عليها. فإذا لم يكن متقنًا ذلك الملك أو سيد القبيلة للغة الحاكم الذي سيزوره أخذ مترجمًا معه، ليكون لسانه الناطق باسمه وأذنه التي تفسر له أقوال الحكام والأجانب ويظهر من الموارد اليونانية أن من الملوك الغساسنة من كان يتقن اليونانية، فلما زار بعض منهم القسطنطينية، تكلم بها وتباحث مع رجال الدين البيزنطيين في أمور اللاهوت بهذه اللغة.
والقاعدة العامة في العرف السياسي عند الجاهليين، أن الموفد لا يهان ولا يعتدى عليه ولا يقتل وكذلك كان هذا العرف ساريًا على رسل الملوك إلى سادات القبائل،
وعلى الوفود التي ترسلها القبائل إلى الملوك أو الرسل الذين يرسلهم سادات القبائل بعضهم إلى بعض. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملًا مثل: "لولا أنك رسول لقتلناك"، تشير إلى احترام العرب لرسالة الرسل والموفدين. وقد كان بعض الرسل يسيئون الأدب أو لا يحسنون التصرف مع من أرسلوا إليه، فيثيرونهم، ومع ذلك، فإن من يهاج منهم يحاول جهد إمكانه ضبط نفسه، والتحكم في أعصابه، حتى لا يتهور على الرسول، فيتهم بسوء الأدب بإهانته ضيفًا، أو يتهم بالغدر. وإذا كان بعضهم قد غدر بالرسل، فإن هذا الغدر لا يمثل العرف العام، وإنما هو غدر، والغدر لؤم، وقد يقع اللؤم من لئيم.
ولفظة "رسول" والجمع "رسل" هي من الألفاظ العربية القديمة المستعملة في عالم السياسة عند العرب. وردت في نص "أبرهة"، الذي أشار فيه إلى وفود أتت إليه من مأرب لتهنئته بمناسبة إتمامه سد "مأرب"، فكان من بينهم رسل النجاشي وملك الروم وملك الفرس وملك الحيرة "المنذر" وملك الغساسنة "الحارث بن جبلة" و"أبو كرب بن جبلة"1. وفي هذا النص ملاحظة مهمة جدًّا جديرة بالعناية إذا أطلق هذا النص على مندوب النجاشي وملك الروم لفظة "محشكت" أما رسل الملوك العرب المذكورين فقد أطلق عليهم اللفظة العربية "رسل". أي: أنه استعمل ثلاثة مصطلحات سياسية في هذا النص لمفهوم واحد، هو رسل أرسلوا من ساداتهم لحضور ذلك الاحتفال.
وقد يذهب الظن إلى أن النص إنما استعمل تلك المصطلحات الثلاثة، لأنها مصطلحات للغات أولئك الموفدين، فاستعمل لفظة "محشكت" لأن الحبش كانوا يطلقونها على معنى "رسول" في لغتهم وهذا كلام معقول، ولكن ما باله أطلق تلك اللفظة على رسول ملك الروم أيضًا مع أنها كلمة غريبة عن اليونانية لم يستعملها اليونان، ولم يستعمل النص المصطلح الرسمي اليوناني المستعمل في اليونانية للسفير؟
ثم ما بال النص يطلق لفظة "تنبلت" على رسول ملك الفرس، واللفظة أيضًا غير فارسية وغير مستعملة عند الساسانيين؟ أفلا يدل ذلك على أن النص لم يأخذ بالمصطلحات السياسية المقررة عند الحبش والروم والفرس للسفير، وإنما أخذ بشيء.
1 Glaser 618 CIH 541، Glaser، Zwei Inschriften، S. 390
2 كتابي: تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 197".
آخر، هو أهم من ذلك بكثير، لا صلة له بما ذهب هذا الظن إليه، بل لسبب سياسي مهم، هو أن مندوب ملك النجاشي في نظر أبرهة، أهم وأقدم في المنزلة من أي مندوب آخر من المندوبين الذين وصلوا إليه، لذلك قدّمه في الذكر على بقية المندوبين، وأطلق عليه لفظة "محشكت"، لأنها في معنى رسول ذي أهمية كبيرة، وله ميزات على الرسل الآخرين، فهو رسول ملك له صلة خاصة قوية به، ثم ثنى بذكر رسول ملك الروم؛ لأن الروم أصدقاء وحلفاء الحبش وأبرهة ولهم صلات قوية به، ثم إن ملك الروم مثل ملك الحبشة وأبرهة على النصرانية، فبينه وبين الروم رابطة الأخوة بالدين، فذكر لذلك مندوبهم بعد مندوب النجاشي واستعمل لفظة "محشكت"، لما لهذه الكلمة من معنى خاص في معجم ألفاظ السياسة. وذكر مندوب ملك الفرس بعد مندوب ملك الروم؛ لأن صلة الفرس بالحبش لم تكن على درجة صلة الروم بهم، ثم إنهم يختلفون عنهم في الدين ويعارضونهم في السياسة، لذلك أخره عن مندوب الروم، وأطلق عليه لفظة تشير إلى أنها دون لفظة "محشكت" في الدرجة والتقدير. ولكنها فوق لفظة "رسل""رسول""رسل" في الأهمية والدرجة والمكانة على كل حال.
لأن ملوك الفرس أكبر شأنًا في عالم السياسة من المنذر ومن الحارث ومن أبي كرب لذلك استعمل هذه اللفظة لرسول ملك فارس واستعمل كلمة "رسل" لمندوبي الملوك العرب.
وفي العربية لفظة أخرى تؤدي معنى "رسول"، هي لفظة "سفير". ويذكر علماء العربية أن السفير: الرسول والمصلح بين القوم1. وكان أهل مكة إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب أو خصومة، بعثوا سفيرًا. وكانت السفارة في "بني عدي"2.
ويقال للرسول "اسى" في العربيات الجنوبية، تعبيرًا عن رسول يرسل بمهمة خاصة3.
ولجلوس رجال الوفود عند الملوك وسادات القبائل أهمية كبيرة عند العرب، فالمقدم على الناس يكون أيمن الملك أو أيمن سيد القبيلة، وهكذا. وجلوسه هذا
1 اللسان "4/ 370"، "سفر".
2 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
3 South Arabian Inscriptions، P. 427
على هذا النحو وعلى هذا العرف، هو علامة تفضيل له على غيره. ويقوم الحجاب أو من إليه أمر استقبال الوفود بتطبيق هذه القاعدة مراعاة شديدة، وقد يتولى الملك ذلك بنفسه، فيطلب من كبير القوم أو ممن يريد تشريفه وتفضيله على غيره الجلوس إلى جانبه الأيمن، ويفتخر عندئذ من ناداه الملك بالجلوس إلى أيمنه فخرًا شديدًا، ويتباهى بهذا التقديم على غيره، وتعتز قبيلته به، فتقدم الرجال عند الملوك والسادات من أمارات الشرف والعز. وقد يخلق مثل هذا التقديم للملك مشكلات خطيرة، إذ "يزعل" الباقون من هذا التفضيل، خاصة إذا كانت بينهم وبين من قدم عليهم عداوة أو منافسة، فيرون في هذا التقديم ازدراء بهم وإهانة متعمدة قد وجهت إليهم. وقد يتركون مجلس الملك، ويقع ما يقع بين الملك وبين المنزعجين، أو بين من قدم ومن قدم عليهم.
ومن آيات تكريم رئيس الوفد، أن الملك كان إذا وضع الشراب، بدأ بالشرب أولًا، فإذا انتهى اسقى من كأسه من يراه أفضل القوم، وهو رئيسهم، أو أنه يأمر السقاة أو يشير إليهم إشارة واضحة أو خفية بتقديم من يراه أهلًا للتقديم، ومعنى هذا أنه أفضل الوفد. وقد أثار هذا التقديم مشكلات خطيرة للوفود المنافسة التي كانت تفد على الملوك، وإلى الملوك أنفسهم، ولا سيما الملوك الذين تحكمت أعصابهم بهم، مثل "عمرو بن هند" و"النعمان بن المنذر". وقد قتل "عمرو بن هند"، كما سبق أن تحدثت عن ذلك بسبب تهوره وانسياقه لعواطفه إذا دعا الشاعر "عمرو بن هند" وأمه لزيارته، وكان ينوي الإساءة إليه، لأنه كان فخورًا متعززًا بنفسه، فأمر الملك أمه بأن تكلف أم الشاعر بخدمتها، وهي من أعز النساء في قومها ولأنها من بيت رئاسة، فلما صرخت "وا ذلاه"، وسمع ابنها الصرخة، ثار على الملك فقتله.
وكان من عادة ملوك الحيرة، أنهم يتخذون للوفود عند انصرافهم مجلسًا: يطعمون فيه ضيوفهم، ويسقونهم الخمور، وقد تغني فيه القيان1، ثم يعطي الملوك الخلع والهدايا لأعضاء الوفود، وقد يخلعون عليهم الخلع الملكية، يعطونها لخاصة من حضر دلالة على زيادة تقديرهم لهم. ويتباهى من يناله هذا الحظ السعيد بتلك الملابس ويحتفظ بها للاعتزاز.
1 العمدة "2/ 220".