الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأفراح وأتراح
مدخل
…
الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأَفراح وأَتراح
وبين الجاهليين أناس عرفوا بالغنى وبالثراء وبكثرة المال، كالذي ذكرته عن بعض رجال مكة. فقد كان بينهم رجال متخمون شبعون، سكنوا بيوتًا حسنة، زينوها بأثاث جيد وثير، ولبسوا ملابس الحرير والألبسة الجيدة المستوردة من بلاد الشام واليمن، وأكلوا أكلات الأعاجم وتفننوا في الطبخ، وشربوا بآنية من ذهب وفضة وبلور. وساهموا في قوافل تجارة مكة الجماعية. كما كانت لهم قوافل خاصة بهم، تأتي إليهم بأرباح طيبة. ومنهم من استغل ماله بالربا وبامتلاك الأرض لاسغلالها، كما فعلوا بالطائف، إلى غير ذلك من وسائل اتبعوها في جمع المال.
وكان منهم أناس ذوو حس وعاطفة، فعطفوا على المحتاج وأطعموا الناس، رقة بحالهم أو طلبًا للشهرة والاسم. فهم جماعة محسنة على كل حال، وكان بينهم من لم يكن له قلب ولا حس، فلم يعرف محتاجًا أو فقيرًا ولم يفهم معنى للإحسان على الفقير. فاشتط وأبى وقسى في رباه، ولم يتساهل فيه. ومنهم من أكل أموال اليتامى ومنع الماعون. وإذا باع أنقص في المكيال، ليزيد في ماله. وفي القرآن الكريم آيات في وصف حال هؤلاء الأغنياء، وتقريع لهم وتوبيخ على ما فعلوه:{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 1. أي يدفع
1 سورة الماعون، الآية2 وما بعدها.
اليتيم عن حقه، ويقهره ويظلمه. وأنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون:"إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام"1.
وكان منهم من يبخل بماله فلا ينفق منه على المحتاجين والمساكين. وكان منهم من يعتذر عن بخله وحرصه، فيقول:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} فنزلت هذه الآية: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فيهم، "وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا"2.
وكان بين الجاهليين فقراء معدمون مدقعون لم يملكوا من حطام هذه الدنيا شيئًا. وكانت حالتهم مزرية مؤلمة. منهم من سأل الموسرين نوال إحسانهم، ومنهم من تحامل على نفسه تكرمًا وتعففًا، فلم يسأل غبًّا ولم يطلب من الموسرين حاجة، محافظة على كرامته وعلى ماء وجهه، مفضلًا الجوع على الشبع بالاستجداء.
حتى ذكر أن منهم من كان يختار الموت على الدنية. والدنية، أن يذهب رجل فيتوسل إليه بأن يجود عليه بمعروف. ومنهم من اعتفد. والاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحدًا حتى يموت جوعًا. وكانوا يفعلون ذلك في الجدب. قيل: كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابًا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعًا3.
وكان بعض تجار مكة إذا أفلسوا أو ساءت حالتهم، خرحوا إلى البادية سرًّا، وأقاموا هناك حتى يهلكوا جوعًا. خشية معرة وقوف رجال مكة على حالهم، وإشفاقًا على أنفسهم من التوسل بالأغنياء لمساعدتهم4. فالموت على هذه الصورة أسهل عندهم من الاستجداء. روي "عن ابن عباس" في تفسير {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} ،قوله:"وذلك أن قريشًا كانوا إذا أصابت واحدًا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا"5.
وكان منهم من رضي وقنع بالدون من المعيشة، فعاش في فقر مدقع. والدقع
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 211".
2 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 211".
3 تاج العروس "2/ 246"، "عفد".
4 السيوطي، الدر المنثور "4/ 397".
5 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 204"، تفسير سورة قريش.
الرضا بالدون من المعيشة وسوء احتمال الفقر واللصوق بالأرض من الفقر والجوع.
فهم ينامون على التراب ويلتحفون السماء. والدوقعة الفقر والذل، وجوع أدقع وديقوع شديد1. وهم مثل "بنو غَبْراء" في الفقر والحاجة، أولئك الذين توسدوا الغبراء واتخذوا التربة فراشًا لهم، لعدم وجود ملجأ لهم يأوون إليه، ولا مكان يحتمون به.
ولم يكن في وسع كثير من الجاهليين الحصول على اللحم لفقرهم فكانوا يأتدمون "الصليب" وهو الودك. ودك العظام. يجمعون العظام ويكسرونها ويطبخونها، ثم يجمعون الودك الذي يخرج منها ليأتدموا به. وقد عرفوا بـ"أصحاب الصلب".
ولما قدم الرسول مكة "أتاه أصحاب الصلب الذي يجمعون العظام إلا لحب عنها لحماتها فيطبخونها بالماء ويستخرجون ودكها ويأتدمون به"2.
ولم يكن في استطاعة الفقراء أكل الخبز لغلائه بالنسبة لهم. لذلك عدّ أكله من علائم الغنى والمال3. وكان الذي يطعم الخبز والتمر يعد من السادة الكرام.
وكان أحدهم يفتخر بقوله: "خبزتُ القومَ وتمرتهم"، بمعنى أطعمتهم الخبز والتمر4. وقد افتخر "بنو العنبر" بسيدهم "عبد الله بن حبيب العنبري"، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن، بل كان يأكل الخبز. فكانوا إذا افتخروا قالوا: منا آكل الخبز. وكانوا يقولون: "أقرى من آكل الخبز"5 لأنه كان جوادًا. وذكر أن "كسرى" حين سأل "هوذة بن علي الحنفي" عن غذائه ببلده، قال له هوذة: الخبز. "فقال كسرى: هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر"6.
وكان منهم من لا يستطيع شراء الملابس ليلبسها، فيستر جسمه بالأسمال البالية وبالجلود، ويعيش متضورًا جوعًا. وقد ذكر أن الفقراء من الصحابة كانوا لا يملكون شيئًا، ويتضورون جوعًا، وينامون في صفة المسجد، يرزقهم الرسول
1 تاج العروس "5/ 330"، "دقع".
2 تاج العروس "1/ 337"، "صلب".
3 بلوغ الأرب "1/ 87".
4 تاج العروس "4/ 32"، "خبز".
5 بلوغ الأرب "1/ 87".
6 بلوغ الأرب "1/ 87".
من رزقه، تنبعث منهم روائح كريهة، من عدم الغسيل. ويلعب القمل في شعرهم، ويتنقل على أجسامهم حيث يشاء.
ويظهر أن بعض زعماء مكة قد شعر بخطر ظاهرة انتشار الفقر بمكة، وبما سيتركه الاعتقاد من أثر في مجتمعها، فعمل على معالجة مشكلة الفقر والجوع والتسول، حفظًا لمصالح الأغنياء على الأقل. فهم إن تركوا الفقر ينتشر ويتفشى، ولم يعملوا على معالجته، تطاول الفقراء منهم على أموال الأغنياء، وقاموا عليهم وأرغموهم على أخذ أموالهم أو على أن يساهموهم فيه. أضف إلى ذلك ما سيحدثه اعتداء الفقراء على أموال الأغنياء من خوف، ومن فزع في نفوس أهل هذه المدينة المتاجرة، لذلك سعوا لإقناع تجار المدينة على إنصاف الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم للتخفيف من شدة الجوع والفقر.
ويظهر أن المخمصة، كانت شديدة، شدة حملت البعض على السطو على أموال الناس وعلى سرقة ما يجدونه أمامهم. ففزع من ذلك أهل مكة، وعمل زعماؤها على التفكير في اتخاذ أقسى العقوبات في حق السارق، فكان أن حكم "الوليد بن المغير" بقطع يد السارق، ذكر أنه كان أول من حكم بقطع يد السارق في الجاهلية1 فصار القطع سنة عندهم.
وكان أن نادى "هاشم"، وهو "عمرو بن عبد مناف" إنصاف الفقراء والمحتاجين وتقديم المعونة لهم، حتى يصير فقيرهم كالكافي، فما ربح الغني أخرج منه نصيبًا ليكون للفقراء2. وبذلك يخفف من حدة وطأة الفقر في هذه المدينة المتاجرة.
وذكر في تعليل دعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء ومساعدتهم، أنه "كان سيدًا في زمانه، وله ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدًا نعتفد. فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أيامًا. ثم إن تربه أتاه أيضًا، فقال: نحن غدًا نعتفد، فدخل أسد على أبيه
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "6/ 160".
2
والخالطون فقيرهم بغنيهم
…
حتى يصير فقيرهم كالكافي
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 205".
يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبًا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع.
قال: ابتدئوا بهذا الرجل -يعني: أبا ترب أسد- فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا.
ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشمًا. وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
…
ورجال مكة مسنتون عجاف
تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيّهم
…
حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} بصنيع هاشم {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أن تكثر العرب ويقلوا1.
وورد أن "حكيم بن حزام" كان يقاسم ربحه من تجارته الفقراء وأهل الحاجة والمحاويج2. وذكر أن قريشًا كانت تتراحم فيما بينها وتتواصل. وأن تفسير "لإيلاف قريش"، هو "لتراحم قريش وتواصلهم". فالإيلاف التراحم والتواصل.
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 205"، وينسب البيت:
والخالطون فقيرهم بغنيهم
…
حتى يصير فقيرهم كالكافي
إلى مطرود بن كعب، راجع البكري، سمط "547 وما بعدها"، القالي، أمالي "1/ 241"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 546، طبعة طهران"، اليعقوبي، "1/ 202"، البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 1190"، تاريخ الخميس للدياربكري "1/ 156"، المرتضي، أمالي "1/ 178 وما بعدها".
الزبير بن بكار، نسب قريش "1/ 367"، رقم "644".
وذكر أن قريشًا كانوا "يتفصحون عن حال الفقراء ويسدون خلة المحاويج"1.
ويظهر أن هذا إنما حدث بفعل "هاشم" وبتنظيمه وجمعه وبدعوته تلك. فصار أصحاب القلوب الرقيقة يخرجون منذ يومئذ من دخلهم نصيبًا يجمعونه ويوحدونه، لينفقوا منه على من به حاجة من أهل مكة ومن الغرباء.
والإيلاف هو التطبيق العملي لدعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء والمساكين والمحاويج. فبعقد "الإيلاف" وإجماع قريش على تلبية دعوة هاشم بإخراج نصيب من أموالهم يخصص لمساعدة المحتاج، تمكن "هاشم" من تطبيق دعوته تطبيقًا عمليًّا، ومن مساعدة المحتاجين. حتى صار عمله سنة لمن جاء بعده. فحسن حال المحتاجين، ونعش فقراء مكة. يؤيد ذلك ما نجده من قول "ابن حبيب":"أصحاب الإيلاف من قريش الذي رفع الله بهم قريشًا ونعش فقراءها"2.
والرفادة والسقاية، هما من ثمرات دعوة "هاشم"، فالرفادة، هي إقراء ضيوف مكة وإطعام المحتاجين من أهلها. والسقاية إسقاءهم الماء، والنبيذ واللبن.
فلم تقتصر السقاية على تقديم الماء بلا ثمن إلى العطشان والمحتاج إلى الماء. بل اشتملت على تقديم اللبن والنبيذ بل والعسل كذلك إلى المحتاج بلا ثمن. وقد ذكر أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان "أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة"3. وأن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي": المعروف بـ"زاد الركب"، و"أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم"، "كانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي"4. وكل هذه الأعمال، هي من الأعمال الخيرية النافعة، التي تدل على نفس طيبة، تسعى للتخفيف عن مصاعب الناس، وعن رغبة في مساعدة الفقراء والمحتاجين. فصار في وسع من يقصد البيت الجلوس على أرائك ليرتاح عليها، كما صار في وسعه الحصول على ماء أو سقاء لبن أو ماء معسل، أي محلى، مجانًا إن لم يتمكن من دفع الثمن.
وفي حلف "الفضول" دعوة لـ"مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"5، وذلك لمنع الظالمين من أهل مكة من اغتصاب أموال أهل الفاقة
1 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "30/ 169"، "طبعة بولاق".
2 المحبر "162".
3 المحبر "176 وما بعدها".
4 المحبر "177".
5 ابن هشام "1/ 141".
والغرباء ممن يرد إلى المدينة وليس لهم من جار ومعين، ومن أهل مكة كذلك.
فهو توثيق وتتمة لعمل "هاشم".
ونجد هذه الدعوة الإنسانية في مساعدة الجار والفقير في الشعر: في مثل قول الشاعر:
يبيتون في المشتى ملاء بطونهم
…
وجاراتهم غرثى يبتن خمائصًا1
وهو بيت يمثل المثل الجاهلية العليا التي تجسمت في الجوار وفي المروءة والإحسان والحميّة وأمثال ذلك.
ونجد مثل هذه النزعة في قول الشاعر:
هنالك إن يُستحبلوا المال يُحبلوا
…
وإن يسألوا يُعطوا وإن ييسروا يُغْلوا
على مُكثريهم رزق من يعتريهم
…
وعند المُقِلّين السماحةُ والبذل
وفي قول "الخرنق بنت هفان" ترثي زوجها "عمرو بن مرثد" وابنها "علقمة بن عمرو" وأخويه حسان وشرحبيل، حيث قالت في جملة ما قالته:
والخالطين نَحيِتهم بنضارهم
…
وذوي الغنى منهم بذي الفقرِ2
والنحيت الدخيل في القوم، والنضار الخالص النسب3. فهم قوم كرام، لم يفرقوا بين الدخيل والأصيل، ولا بين الغني والفقير، فنال الدخيل ما عند الأصيل، وشارك ذو الفقر والمدقعة الغني في ماله، وهو أعز شيء عند الإنسان، لأنه أبى أن يستأثر به، وجاره فقير ليس عنده ما يسد حاجته.
فمجتمعهم مجتمع "خليط، و"الخليط: القوم الذين أمرهم واحد"، والمشارك الحقوق. وفي الحديث: الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار.
وأراد بالشريك: المشارك في الشيوع4.
ونجد فكرة مساعدة الفقير، والاستهانة بالمال بإنفاقه على المعوزين، والإنعام به على الفقراء، في أبيات أخرى في مثل:
1 الأمالي للقالي "2/ 158".
2 الأمالي للقالي "2/ 158".
3 ويروى لحاتم الطائي، تاج العروس "1/ 591""نحت".
4 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".
والخالطين غنيّهم بفقيرهم
…
والمنعمين على الفقير المرمل1
وفي مثل قول الأعشى:
وأهان صالح ماله لفقيرها
…
وآسى وأصلح بينها وسعى لها2
وقول الشاعر عمرو بن الأطنابة:
والخالطين حليفهم بصريحهم
…
والباذلين عطاءهم للسائل3
وأرى أنّ في ورود لفظة "الخالطين" في هذه الأبيات، بمعنى خلط المال، وتخصيص الأغنياء نصيبًا من أموالهم للفقراء، دلالة على أن من الجاهليين الأغنياء من كان قد وضع في ماله حقوقًا للمحتاجين، بحيث صاروا كالمخالطين لهم في مالهم، وفي منزلة الشركاء لهم في المال. من دون إرغام لهم ولا إكراه، أو طمع في ثواب دنيوي أو في عالم ما بعد الموت. وذلك غاية الجود والكرم.
وفي شعر للنعمان بن عجلان الأنصاري، إشادة بعمل قومه الأنصار، إذ قَسَّموا أموالهم وديارهم بينهم وبين المهاجرين. فيقول:
وقلنا لقولم هاجروا مرحبًا لكم
…
وأهلًا وسهلًا قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أموالنا وديارنا
…
كقسمة أيسار الجزور على الشطر4
ويذكرنا شعره هذا الذي افتخر فيه بقومه الأنصار بالمؤاخاة، إذ آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار. بعد مقدمه بخمسة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر.
فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثًا مقدمًا على القرابة. ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر5. والمؤاخاة هي "المخالطة" الجاهلية في صورة أخرى.
وقد كان بين الجاهليين من حبس الحبوس، لتكون وقفًا على الفقراء والمحتاجين.
1 الخالديان، الأشباه والنظائر "1/ 20"، ديوان حسان "308".
2 ديوان الأعشى "3/ 35".
3 الحماسة، لابن الشجري "56".
4 الإصابة "8748"، "3/ 532"، "القاهرة 1939م"، الاستيعاب "298"، Journal of the Economic and social History of the orient، vol. VIII، part II، 1965 P. 125
5 إمتاع الأسماع "1/ 49 وما بعدها".
وأبناء السبيل. ومنهم من ساعد الفقراء والصعاليك بتقديم الخيل لهم للإغارة بهما واكتساب الرزق عن طريق الغارات. كالذي روي عن "الريّان بن حويص العبدي" من أنه كان قد جعل فرسه "هراوة" موقوفة على الأعزاب من قومه. فكانوا يغزون عليها ويستفيدون المال ليتزوجوا، فإذا استفاد واحد منهم مالًا وأهلًا دفعها إلى آخر منهم، فكانوا يتداولونها كذلك، فضربت مثلًا، فقيل: أعز من هراوة الأعزاب1. وذكر أنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العزاب، يتكسبون عليها في السباق الغارات2.
ومن تقاليد العرب مساعدة الضال والمنقطع والمعزب، وهو الذي عزب عن أهله في إبله وانقطع عنهم. ومن ذلك ما ورد في الحديث: أنهم كانوا في سفر مع النبي، فسمع مناديًا، فقال: انظروا ستجدوه معزبًا أو مكلئًا. والتعزب: الابتعاد عن الجماعات بسكنى البادية، وقد نهي عن ذلك في الإسلام. كما أشير إلى ذلك في حديث "ابن الكوع" لما أقام بالزبدة "أبو ذر الغفاري"، قال له الحجاج ارتددت على عقبيك تعزبت3.
ومنهم من جعل في ماله صدقة يؤديها إلى الفقراء على وجه القربة إلى الآلهة أو عن دافع إنساني أو عن حب للظهور والفخر. ويقال لمن يتصدق على غيره "المتصدق". وهو عمل تطوعي، يقوم به الإنسان اختيارًا وتطوعًا، لمساعدة المعوز والمحتاج.
و"ابن السبيل" هو "ابن الطريق"، الذي قطع عليه الطريق، ولا يجد ما يتبلغ به. والضيف المنقطع به، فيجب أن يعطى ما يتبلغ به إلى وطنه4.
وقد تتعرض السابلة إلى لصوص الطرق، يسلبونهم ما معهم، وقد يأخذون حتى ملابسهم، فيتعرض مثل هؤلاء للهلاك والأخطار، حتى يتهيأ لهم من له شفقة ورحمة فيغيثهم بما يتمكن منه، وقد يحملهم معه.
وكان لفقر الكثير منهم، يصعب عليهم دفع ديونهم، ويماطلون في الأداء
1 تاج العروس "1/ 380"، "عزب"، نهاية الأرب "10/ 44 وما بعدها، 46"، العمدة "2/ 235".
2 العمدة "2/ 235 وما بعدها".
3 تاج العروس "1/ 380"، "عزب".
4 تاج العروس "7/ 366"، "سبل".