الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البوادي. ويرتبط حجم هذه المستوطنات، بسعة ماء المكان وبعدد بيوت القبيلة النازلة به، فإن كان الماء قليلًا، قل عدد خيامها، وإن كان غزيرًا، كثر عددها. واتسعت رقعة المضارب اتساعًا بتناسب مع كفاءة ذلك الماء وما على الأرض من رزق تعيش إبلهم عليه.
بيوت أهل المدر:
أما أهل القرى والمدن، أي أهل المدر، وهم المستقرون وشبه المستقرين، فإنهم يقيمون في بيوت ثابتة أو شبه ثابتة. وهي تتفاوت بالطبع بتفاوت منازل ودرجات أصحابها. فربّ بيت يكون من خيمة أو من أغصان شجر وعيدان وجريد، ويقال له:"العنة". وقد قيل: إن العنة الخيمة تتخذ من أغصان الشجر1.
وقيل: البيت يعمل من الخشب2. وربّ بيت يكون من طين، ويسقف بجريد أو بأغصان أو بحصير يطين أيضًا. ويختلف حجم مثل هذا البيت باختلاف حجم العائلة. وقد يبنى البيت باللبن وهو الغالب، وتكون حالة أصحابها أحسن من حالة أصحاب بيوت الطين.
وكنتيجة لتيسر مواد البناء في العربية الجنوبية، ظهرت مدن لا نجد لها مثيلًا في أنحاء أخرى من جزيرة العرب. مدن كبيرة بيوتها ثابتة وبعضها ذو جملة طوابق، تحاط بأسوار عالية وأبراج وحصون يأوي فيها المدافعون. وقد تمكن المنقبون من التنقيب في بعض خرائبها ومن وضع مخططات لبعض شعابها أو مخططات عامة مبدئية للمدينة كلها وللسور الذي كان يحتضنها.
والقرية في نظر علماء العربية لفظة يمانية الأصل. يقولون: إنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا. وتقع على المدن وغيرها3. ولكن الأغلب أنها أصغر حجمًا من المدن. وأنها تكون غير مسورة. فإذا أحاط بها "سور" صارت مدينة. وذلك على نحو ما نفهم من نصوص الجاهليين ومن
1 الاشتقاق "ص312".
2 المعاني الكبير "2/ 1121".
3 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".
المتعارف عليه بين الساميين من أن القرية أصغر حجمًا من المدينة. وأن المدن هي القرى الكبيرة المسورة1. وقد فهم علماء العربية هذا المعنى بالنسبة للمدينة أيضًا. إذ قالوا: مدينة الحصن يبى في اصطمة الأرض2. وتقابل "مدنتو" Medinto في لغة بني إرم3. وتقابل لفظة "هكر""هجر""هجرن""هكرن" في لغة أهل اليمن. وهي لا تزال مستعملة في العربية الجنوبية لهذا اليوم. وذكر علماء اللغة أن "هجر" هي القرية بلغة حمير4.
وورد أن العرب تسمي "القرى" مصانع، واحدتها مصنعة. يقال: هو من أهل المصانع، أي القرى. و"المصانع" أيضًا المباني من القصور والحصون5.
ويطلق العرب على الرجل من أهل القرى مصطلح: "أخضر النّواجذ"، يريدون أنه ممن يأكل الكرات والبصل والبقول والخضر6. ولا يتناول الأعراب هذه الخضر.
وفي العربية لفظة "الحير" بمعنى شبه الحظيرة والحمى، و"الحيرة" بمعنى المعسكر والمقام، و"الحائر"7 وهي من مواطن الحضر، أي من المستوطنات.
قد كانت مستعملة بين الجاهليين. ومثلها "الحاضرة" و"الحضرة" و"الحضر"، وهي المدن والقرى والريف. وهي من مساكن الحضر وأهل القرار8.
وتسمى المدن بأسماء. أما القرى والمستوطنات الصغيرة، فقد تسمى بأسماء، وقد تنسب إلى أصحابها المالكين لها أو إلى العشائر أو الأفخاذ أو الأسر النازلة بها. ولا تزال هذه العادة متبعة في مواضع من جزيرة العرب. أما بيوت كبار الناس وأغنيائهم، فتستعمل فيها الحجارة والخشب وغير ذلك من مواد تجعل البناء يدوم أمدًا ويعيش مدة طويلة، وبفضل ذلك بقيت آثار بعض منها حتى الآن.
ولا يزال الناس في مواضع من جزيرة العرب، ولا سيما الأماكن المعزولة
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 321"، Hastings، P. 143
2 تاج العروس "9/ 343".
3 غرائب اللغة "205".
4 تاج العروس "3/ 614"، "هجر".
5 تاج العروس "5/ 422"، "صنع".
6 الحيوان "3/ 248"، "هارون".
7 تاج العروس "3/ 164 وما بعدها"، "حار".
8 تاج العروس "3/ 146"، "حضر".
القصية، يتخذون بيوتًا تشبه بيوت العرب قبل الإسلام، وخاصة بيوت سادات القبائل والرؤساء. وبعض ذلك قصور وحصون ذوات جدر وأسوار مرتفعة وتقوم في طرف من الأرض أبراج لها مزارق ومرابيع للدفاع، وأبراج مربعة. وقد تقع البيوت في عدة طبقات تحمى بمختلف وسائل الدفاع. وتستعمل الزينة من أصباغ محلية ومن حجارة طبيعية ذوات ألوان مختلفة. وأعتقد أن هذه الأبنية يجب أن يعنى بدراستها المهندسون المعماريون والآثاريون، فإن دراستها تحل لنا مشكلات كثيرة للفن العربي الجاهلي، وتوصلنا إلى وضع مخططات عن بقايا الأبنية الجاهلية القديمة التي تهدمت غالبيتها، أو اعتدى عليها الإنسان ويا للأسف فاستخدم حجارتها في أبنيته الحديثة، وقضى بذلك على معالمها في الغالب، وتجاوز على حجارتها المكتوبة فحطمها وأبادها، وبذلك ألحق بتأريخ العرب قبل الإسلام ضررًا بليغًا.
وأعظم شيء في المدن هو هياكلها، أي معابدها المسماة بأسماء الآلهة التي بنيت لها، وقصور الملوك وسادات القوم وأشرافهم. فلهؤلاء مال مكنّهم من بناء قصور ضخمة ذات جملة طوابق، بنوها بحجارة طبيعية اقتلعت من الصخور، وزخرفوا الوجوه البارزة منها، وافتنَّ فيها الفنانون على وفق أذواقهم وذوق طبيعة بلادهم، ونشروا الرخام الأبيض والملون وشرحوه ألوانًا رقيقة جعلوها في النوافذ بدلًا عن الزجاج. فهذه الأماكن إذن هي التي تتحدث لنا عن العمارة عند الجاهليين.
وقد استعين في بناء بعض المدن بحجارة اقتلعت من مواضع بعيدة بعض البعد عنها في بعض الأحيان. فقد بنيت "قرنو""معين"، بحجارة جلبت من موضع يبعد عشرين كيلومترًا تقريبًا من شمال "معين"، من "جبل اللوذ" أو من جنوب "جبل يام". ويرى بعض الباحثين احتمال جلب بعض الصخور إليها من مواضع تبعد ثمانين كيلومترًا من المدينة. وبعض هذه الأحجار ثقيل يبلغ طول الواحدة منها خمسة أمتار1. وجاءوا بـ "المرمر" إلى "شبوة" من موضع "مداث" و"كلوة" على مسافة خمسين كيلومترًا من المدينة2.
وقد تبين من الدراسات العامة الأولية التي قام بها الباحثون لخرائب المدن الجاهلية أن بعضها قد بني على شكل مستطيل، ويحيط به سور مستطيل الشكل أيضًا
1 محمد توفيق، آثار معين "7"، ARABIAN s. 140
2 H. V. Wissmann، Geogr. Grundlagen، S. 78، Arabien، S. 140
ذو أبراج، وبعضها بني على شكل إهليلجي أو قريب منه، وبعضها على شكل دائري. وقد أحيطت بأسوار لحمايتها من غزو الغزاة وللدفاع عن نفسها والثبات بوجه الأعداء. ولها أبواب تغلق ليلًا وتحرس حراسة شديدة حتى لا تفاجأ المدينة بعدو يأخذ على حين غرة، كما تغلق وتسد سدًّا محكمًا أيام الحروب.
ويظن أن تخطيط المدن على شكل مستطيل كان هو الشكل الغالب، إذ وجد المنقبون أكثر خرائب المدن قد بني في الأصل على هذا النحو فـ "مأرب" بنيت على شكل مستطيل على رأي بعض من درس آثارها. وكذلك خربة "غربون" في جنوب "المشهد" بوادي "حجرين" بحضرموت. وذهب بعض من زارها إلى أنها كانت مربعة الشكل1. وعلى هذا النحو كانت "شبوة" و"حريب"2 و"يلط" "يليط"3، و"قرنو" التي هي معين في الجوف4.
ومن المدن التي بنيت على شكل إهليلجي تقريبًا مدينة "حاز""حيزم" وهي محاطة بسور يتراوح ارتفاعه من ستة أمتار إلى ثمانية أمتار، تخترقه خمسة أبواب. وبنيت مدينة "بيحان النقب" التي تقع على مسافة عشرة أميال إلى الشمال من "بيحان" على شكل إهليلجي كذلك5.
وقد تبين أن أكثر المدن اليمانية القديمة قد بني في بطون الأودية على مرتفعات طبيعية، أو صناعية، أي من عمل الإنسان. وقد يكون ذلك بسبب خصب الأودية وتوافر الماء فيها بسهولة، بحفر الآبار أو من العيون أو بواسطة بناء السدود.
غير أن هناك مدنًا أقيمت على الهضاب والنجاد وعلى سفوح الجبال، وذلك لتتمتع حماية طبيعية وليكون من الصعب على الأعداء التغلب عليها. ومن المدن القديمة التي أقيمت في بطون الأودية مدينة "قرنو""القرن""معين"، فقد بنيت على تل أقامه المعينيون أنفسهم ارتفاعه خمسة عشر مترًا عن سطح أرض الوادي، وذلك لحماية المدينة من طغيان ماء السيول في الوادي في موسم الأمطار6.
1 Arabien، S. 140، Von Wissmann-M. Beitrage، S. 27، 245، Le Museon، 61، 1948، P. 221.
2 وتسمى بـ "الساحل" في هذا اليوم.
3 وتسمى بخربة سعود في هذا اليوم.
4 محمد توفيق، آثار معين، 4، Arabien، S. 141
5 Rathjens-H. V. Wissmann، Vorislamische Altertumer، S. 101، 102، Arabien S. 141.
6 Arabien، S. 141
وتحمي المدن حصون وقلاع، وقد تقام الأسوار على مسافة من المدينة لتشغل العدو وتمنعه من الدنو منها، ثم لتحمي مزارع المدينة وأموالها، وتكون أبنيتها حصينة ذات جدر سميكة فيها منافذ ترمي منها السهام، وفي أعلاها أبراج يرمي منها الرماة الحجارة والسهام على المهاجمين. كما تبنى في المدن نفسها خلف الأسوار، لحماية داخل المدينة من العدو عند تغلبه على الحصون والقلاع الخارجية، وأسوار المدن. وبيوت الملوك والأشراف وسادات المدينة، قلاع وحصون في حدّ ذاتها، فيها كل وسائل المقاومة والدفاع ومخازن لحفظ مواد الإعاشة، وآبار.
ويكاد يكون لكل مدينة من المدن حصن يقيها ويحميها، وقد اشتهرت وعرفت به. فاحتمت "ظفار" مثلًا بحصنها "ذو ريدان"، وأقيمت "شبام سخيم" عند حصن "عر ذو مرمر"، و"شبام أقيان" عند "الوة""كوكبان"، و"بيحان" عند "ذي ريدان"، و"برج أتوت" على "ميفع ظبيان"، وأنشئت "غيمان" على تلّ مرتفع يحمي المدينة من المهاجمين. وأقيم "ذو معاهر" ليحمي مدينة "وعلان" بـ "ردمان"1.
ويظهر من كتابات المسند ومن الآثار أن بعض مدن اليمن كانت مسورة، يحيط بها سور للدفاع عنها. ويقال لمثل هذه المدن "هجرن" في العربيات الجنوبية، أي "المدن". مثل "هجرن قرنو"2، بمعنى المدينة "قرنو" وهي عاصمة معين. وهو "هجرن مرب"، أي المدينة مأرب، و"هجرن نجرن" أي المدينة نجران، المدينة الشهيرة عاصمة مخلاف نجران والتي لا يزال اسمها حيًّا معروفًا في العربية السعودية في هذا اليوم.
وتختلف أطوال أسوار المدن وارتفاعها بحسب حجم المدن وبحسب مواقعها.
فالمدن الكبيرة تكون أسوارها طويلة يتناسب طولها مع سعتها. والمدن التي تبنى فوق الجبال والهضاب والمحلات الحصينة تكون أسوارها أقل ارتفاعًا من أسوار المدن المبنية في السهول. وقد وجد سور مدينة "قرنو" مستطيلًا، وطوله زهاء أربع مئة متر، وعرضه زهاء خمسين ومائتي متر، وعلى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل الأربع برج لمراقبة الأعداء ولرميهم بالحجارة والسهام وبوسائل الدفاع
1 Araien، S. 275
2 REP. EPIGR، Tome V، p. 124، NR. 2774
الأخرى التي كانت ميسورة لهم1.
وقد وجدت أسس سور مدينة "حيزم""حزم"، وهي "حاز"، مبنية بحجر بركاني، أخذ من لابة قريبة من المكان2. على حين بنيت أسس أسوار المدن الأخرى وجدرها من أحجار تقع مقالعها على مقربة من المدن المسورة، ليكون في الإمكان نقلها بسهولة إلى مواضع البناء.
وغالب مدن العربية الجنوبية، لها بابان متقابلان، فإذا كان أحدهما في الجدار الشرقي للمدينة كان الثاني في الجدار الغربي. وقد وجد في بعض المدن أربعة أبواب أو خمسة. فـ "شبوة" عاصمة حضرموت كان لها خمسة أبواب، يقع الباب الرئيسي في الجهة الشمالية من المدينة. وتؤدي الأبواب إلى أفنية تكون متجمع الناس3، تعلن على جدرانها الأوامر الحكومية ليقف عليها الغادي والرائح، ويعلن المعلنون فيها أوامر الحكومة، كما ينادي الدلالون بما عندهم من خبر أو بضاعة. وتكون هذه الساحات أسواقًا كذلك، ومواضع لتنفيذ أحكام القتل أو العقوبات الأخرى ليعتبر بها الناس. وهكذا نجد أن أبواب المدن كانت من أهم الأماكن العامة للمدينة في تلك الأيام.
وقد وجد بعض الأبواب، وهي الأبواب الرئيسية، محصنًا من الجهتين ببناءين قويين، للدفاع عن الباب، فيهما منافذ ومواضع يرمي منها المدافعون من يريد اقتحام المدينة. وبين البناءين أو الحصنين باب قوي يغلق في الليل وعند وقوع خطر ما. ويؤدي هذا الباب إلى ساحة تحيط بها غرف ومواضع لإيواء الجنود، ثم تنتهي هذه الساحة بحائط قوي أو سور يخترقه باب آخر يغلق ويفتح ليؤدي إلى المدينة. والغاية من وجود هذا الباب الثاني سد الطريق على الأعداء عند اقتحامهم الباب الأول وتغلبهم على الجواسيس ووصولهم إلى الساحة التي يقيم فيها الجنود، فيقابلهم عندئذ باب ثان يسد عليهم الطريق ولا يمكنهم من دخول المدينة إلا إذا تغلبوا على هذا الباب.
وقد عُني العرب الجنوبيون بزخرفة الأبواب وبزخرفة الإطار الذي ترتكز عليه،
1 Arabien، S. 143
2 Arabien، S. 140
3 R. A. B. Hamilton، Six Weeks in Shabwa، in geogr. Jour، 1942، 100، 112، Arabien، S. 145، Philby، The Land of Sheba، Geogr. Jour، 1938، 92، 110
والجدار الذي يضم الإطار، والأعمدة التي تبنى على جانبي الباب أحيانًا والبناءين المحكمين اللذين يبنيان عند طرفي أبواب المدن والقصور والمعابد لحراستها.
وتتصل شوارع المدن والقرى بهذه الساحات. والشوارع الرئيسية مبلطة في الغالب، ولا سيما الشوارع المؤدية إلى قصور الملوك ودور الكبار والحكومة والمعابد، وتؤدي إلى ساحات أمام هذه المواضع المهمة. ويكون تبليط الشوارع عندهم بتغطيتها بصخور عريضة مستطيلة أو مربعة نحتت بأطرافها بحيث يوضع طرف حجر فوق طرف الحجر الذي يليه، فيظهران كأنهما حجر واحد، أو يصقل أطراف الحجر صقلًا جيدًا ووضعه بجانب حجر مصقول آخر ولصقهما لصقًا تامًّا، حتى يبدوَا كأنهما قطعة واحدة. ويظهر أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة تامة بالتبليط. وقد تبين من دراسة بعض قطع شوارع مدينة "غيمان" الباقية من أيام الجاهلية حتى اليوم أن أهل هذه المدينة لم يعتنوا بتبليط شوارعهم عناية أهل المدن الأخرى، كما يتبين من طريق رصف الحجر ومن وضعه بعضه إلى بعض ومن دراسة المواد التي توضع تحت الأحجار وبينها1.
وللمدن حدود، ما كان بعدها عُدّ تابعًا للمدينة، وما كان خارجها عُدّ منقطع الصلة بتلك المدينة. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "أود" التي ترد في بعض الكتابات تعني "الحد" كما في هذه الجملة "أود هجرن"، أي "حد المدينة"2. وعندي أن المراد بها "السدود" وكل شيء يقي شيئًا. فإن الأياد في العربية ما أيد به من شيء، وإياد كل شيء ما يقوى به من جانبيه، والتراب يجعل حول الحوض والخباء يقوى به أو يمنع ماء المطر3. وعلى هذا فإن تفسير "أود" بسداد تحيط بمدينة أوفق في نظري من تفسيرها بـ "حد" وحدود"
والواقع أن من الصعب علينا في الزمن الحاضر أن نتحدث عن هندسة المدن وتخطيطها وعن طراز أبنيتها وارتفاعها، وعن ساحاتها وأسواقها، لقلة التنقيبات الأثرية العلمية واقتصارها على وجه الأرض وفي بقاع قليلة جدًّا من جزيرة العرب، وانعدامها من أكثر الأنحاء مع وجود آثار كثيرة فيها لا تزال مطمورة تحت الرمال.
1 Arabien، S. 147.
2 Rhodokanakis، Stud. Lexi، II، S. 151
3 تاج العروس "2/ 293"، "آد".
ولو تهيأت للجزيرة بعثات أثرية على شاكلة البعثات التي تقصد العراق أو بلاد الشام أو فلسطين أو مصر أو غيرها من أماكن، لكان علمنا بأحوال المدن العربية الجاهلية وبأحوال الجاهلين غزيرًا جديدًا يختلف عن هذا النزر اليسير الذي نتحدث به عن أحوال العرب قبل الإسلام.
أما الحجاز، فالظاهر أن الطائف منه، كانت القرية أو المدينة الوحيدة المحاطة بجدار أو حائط، يمكن أن نسميه سورًا. وكان يحيط بالمدينة وبه مواضع يتحصن فيها، وفيها تحصنت ثقيف يوم قاومت الرسول في أثناء حصاره لها. وكانت له أبواب أغلقوها عليهم، وامتنع على المسلمين عندئذ الدخول منها، والاقتراب من الجدار. ولما اختفى المسلمون تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، أرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا من المسلمين1. وأما مكة، فيظهر من وصف أهل الأخبار لها أنها لم تكن مسوّرة. وإنما كانت ذات منافذ وطرق تؤدي إلى داخل المدينة وتمر بالشعاب. وعلى كل شعب حماية حد شعبه من الأطراف عند دنو عدو من مكة. وأما المدينة، فلم يكن لها سور كذلك.
ويمكن أن يقال مثل ذلك عن بقية قرى الحجاز.
ولا نجد في وصف أهل الأخبار لقرى أهل الحجاز وبيوتها، ما يفيد بوجود أبنية ضخمة فيها على طراز أبنية اليمن. فلم يتحدث أهل الأخبار عن وجود قصور فيها تشبه "قصر غمدان" أو "قصر ذو ريدان" أو غير ذلك من القصور.
حتى مكة وهي أم القرى لا يشير أهل الأخبار إلى وجود بناء ضخم فيها على طراز أبنية اليمن، ولا وجد بيت كبير فيها على طراز بيوت سراة اليمن.
و"دار الندوة"، وهي دار قصي، مؤسس ملك قريش، لم تكن دارًا ضخمة ولا كبيرة على ما يظهر من روايات أهل الأخبار ويظهر أن أهل الأخبار لم يحفلوا كثيرًا بالنواحي العمرانية من الجاهلية، لذلك صارت معلوماتنا بسيطة جدًّا عنها من هذه الناحية. فلا نكاد نعرف شيئًا عن بيوت مكة أو غيرها قبل الإسلام.
وقد كانت بيوت المتمكنين من الناس وأصحاب اليسر والمال، مشيدة بالحجارة وباللبن. ويذكر علماء اللغة أن كل بيت مربع مسطح، فهو "أجم". ويظهر
1 الطبري "3/ 83 وما بعدها"
من شعر ينسب إلى امرئ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
…
ولا أجمًا إلا مشيدًا بجندل1
أن آجام "تيماء"، كانت مشيدة بالجندل. والجندل الحجر، وقيل: الصخور، وذكر أنها الصخرة كرأس الإنسان2. وقد استعين بتشييد السقوف بجذوع النخل.
ويقال للآجام: القصور بلغة أهل الحجاز، وعرفت بالآكام كذلك3، وهي حجر، وذكر أن اللفظة "قرشية"4. ووردت لفظة "قصر" و"قصور" في القرآن الكريم5. وقد ذهب المفسرون إلى أن معنى "مشيد" في الآية:{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 6، المجصص. والجص بالمدينة يسمى: المشيد7. فالقصر، البناء الضخم المبني بالجص والحجارة، وقد يكون منفردًا محصنًا، وقد يكون في قرية، مع قصور أخرى، ولكل قصر بئر، يؤخذ منها الماء. وهي ضرورية جدًّا بالنسبة لبيوت ذلك الوقت.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن البيوت أن في بيوت يثرب بيوت تكونت من طابقين. طابق أرضي وطابق علوي. وكانوا يسكنون الطابقين. ولعلهم كانوا يودعون ماشيتهم ودوابهم الطابق الأرضي، أو مواضع خاصة بها ملحقة بهذا الطابق. وكانت دار "أبو أيوب الأنصاري" التي نزل بها الرسول ذات طابقين نزل الرسول بطابق، وسكن "أبو أيوب" بالطابق الثاني8.
وكان سادات القرى قد حلوا مشكلة الدفاع عن أنفسهم وعن مواليهم ببناء
1 تاج العروس "8/ 180"، "أجم"، اللسان "12/ 8".
2 تاج العروس "7/ 226"، "الجندل".
3 النهاية، لابن الأثير "1/ 78".
4 تاج العروس "3/ 494"، "قصر".
5 الحج، الآية 45، الأعراف، الآية 74، الفرقان، الآية 10.
6 الحج، الآية 45.
7 تفسير الطبري "17/ 127 وما بعدها".
8 الطبري "2/ 396".
أبنية حصينة ذات جدران سميكة قالوا لها: الحصون والآطام والواحد هو الأطم.
فكان أهل المدينة من الأوس والخزرج يلجئون إلى آطامهم وقت الخطر فيتحصنون بها ويمتنعون، وكذلك كانت ليهود وادي القرى حصون وآطام. بها آبار ومواضع لخزن ذخيرتهم وما عندهم من غال وثمين ودخلوا حصونهم وآطامهم وأغلقوا عليهم الأبواب. وبذلك صارت القرية مجموعة حصون وآطام.
والأطم القصر وكل حصن بني بالحجارة. وقيل: هو كل بيت مربع مسطح. وقد ورد أن "بلالًا الحبشي" كان يؤذن على أطم المدينة. وقد اشتهرت بها المدينة. وذكر أن الأطمة الحصن. وأن "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم"، بنى أطمًا باليمن، عرف باسمه:"أطم الأضبط". وكان قد أغار على أهل صنعاء. وأشير في شعر "أوس" إلى "آطام نجران". حيث ذكر أن أحد الملوك بث الجنود في الأرض، فأخذوا بقتل أعدائه ما بين بصرى وآطام نجران1.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن قرى الحجاز ومدنها كانت شعابًا، أي أحياء. تكونت على الطريقة البدوية. وذلك بإقامة كل عشيرة في حيّ معين من أحياء القرية أو المدينة. وتكون بين الحيّ عصبية مثل عصبية أفراد القبيلة للقبيلة.
وينتمي الحي إلى القبيلة أو العشيرة التي يرجع إليها، ويتعصب لها. ويشعر أن بين أفراد الحي قرابة ورابطة دم. ويعبر عن سكان الحي بـ"آل
…
".
ويكون وجيه الشعب، هو نقيبه وممثله وسيده.
وقد يقال للمنزل أو المحلة: "الربع" والجمع "الرباع". وذكر أن "الرباع" المنازل وجماعة الناس2. فتتألف كل قرية أو مدينة من رباع.
وقد كانت "الحيرة" على هذه الشاكلة أيضًا. فقد كانت مؤلفة من مواضع حصينة بناها سادات المدينة وأشراف الأحياء، عرفت عندهم بـ"القصور" والمفرد "قصر". فإذا داهم المدينة خطر دخل أهل الحي قصر سيدهم وشريفهم وتحصنوا به.
1 تاج العروس "8/ 187 وما بعدها"، "أطم".
2 اللسان "8/ 102"، "صادر""ربع".