الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بها زمّارة1. وأما "الرباب"، فمن آلات اللهو كذلك2. وقد اشتهر الغناء بالمزمار عند العرب، وأجادوا فيه.
وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الساميين يستخدمون الغناء في عباداتهم، وربما استخدموا معه بعض آلات الطرب. وذلك تعبيرًا عن بهجتهم وسرورهم بتعبدهم للآلهة وتقربًا إليها بهذا الغناء الذي يدخل السرور إلى نفوسها. وقد ذكر المفسرون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون3. وإذا صح قولهم هذا، فإنه يعني استعمال نوع من الطرب في حجهم وطوافهم بالبيت.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الغناء العربي وما يختلف به ويمتاز عن غناء الأعاجم، فقال:"العرب تقطع الألحان الموزونة على الأعشار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على غير موزون"4.
واللحن: الغناء. وفي الحديث: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق"5. ويراد به التطريب وترجيع الصوت وتحسين القراءة والشعر والغناء. وقد كان اليهود والنصارى يقرءون كتبهم نحوًا من ذلك6.
1 اللسان "4/ 327".
2 تاج العروس "2/ 472".
3 تفسير الطبري "9/ 157 وما بعدها".
4 العمدة "314".
5 اللسان "13/ 383"، "صادر"، "لحن".
6 المصدر نفسه.
أصول الغناء الجاهلي:
ويرجع أهل الأخبار غناء الجاهليين إلى ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب، فغناء الركبان وغناء الفتيان والقينات، ويغنى به في المراثي كذلك.
وقد دعاه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، الغناء الجنابي نسبة إلى رجل من كلب يقال له: جناب بن عبد الله بن هبل. وهو الذي يقال له "المراثي"، ومنه كان أصل الحداء، وكله يخرج من الطويل في العروض. وأما السناد، فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج، فالخفيف الذي يرقص عليه
ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم1.
ويذكر أهل الأخبار أن الأنواع المذكورة كانت غناء العرب، حتى جاء الإسلام وفتحت العراق، وجلب الغناء والرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير2. وذكر أيضًا أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركباني" "الركبانية"3. والنشيد رفع الصوت، ومن المجاز الشعر المتناشد بين القوم ينشده بعضهم بعضًا4.
وذكر "المسعودي" أن غناء العرب النصب، ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف5.
ويرى بعض أهل الأخبار أن أصل الغناء ومعدنه إنما كان في أمهات القرى من بلاد العرب، حيث فشا بها، وانتشر. ومن هذه مكة والمدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
ورووا أن أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما: الجرادتان6. وهما قينتا "معاوية بن بكر الجرهمي" "معاوية بن بكر العملقي" غنّتا لوفد "عاد" بمكة، فشغلوا عن الطواف بالبيت وسؤال الله فيما قصدوا، فهلكت عاد وهم سامدون.
فلما رأى الجرهمي، وهو معاوية بن بكر، أحد العماليق، ذلك قال: هلك أخوالي "عاد"، ولو قلت لضيوفي شيئًا، ظنوا بين البخل، فألقى إلى الجرادتين شعرًا يذكر بمحنة "عاد"، فأنشدتاه الضيوف. وكان الجرهمي سيد مكة حين وفدت عاد تستقي في قحطها. وكان "قيل ابن عتر" أحد الرءوس الثلاثة لوفد عاد، حين ذهبوا في القحط إلى مكة يستسقون لقومهم7.
1 العقد الفريد "6/ 27"، بلوغ الأرب "1/ 369 وما بعدها"، اللسان "2/ 390 وما بعدها"، العمدة "313"، اللهو والملاهي، لابن خرداذبه "ص18".
2 العمدة "314".
3 نهاية الأرب "4/ 239".
4 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".
5 مروج "4/ 133"، "دار الأندلس".
6 العقد الفريد "6/ 27".
7 الأمثال للميداني "1/ 87"، رسالة الغفران "243"، مروج "4/ 133"، "دار الأندلس".
وورد أيضًا أن الجرادتين كانتا مغنيتين للنعمان. كما ورد ذكر الجرادتين وغناءهما لأبي رغال. وورد أنه كان بمكة في الجاهلية قينتان يقال لهما: الجرادان مشهورتان بحسن الصوت1. وقيل: إن الجرادتين كانتا أمتين تتغنيان في الجاهلية وكانتا لعبد الله ابن جدعان2.
وقد ذكر "أبو العلاء المعري"، أن العرب تسمي كل قينة جرادة، حملًا على أن قينة في الدهر الأول كانت تدعى الجرادة. واستشهد بهذا البيت:
تغنينا الجراد ونحن نشرب
…
نعلّ الراح خالطها المشور3
وذكر بعض العلماء أن "جذيمة الخزاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة ابن عمرو بن عامر"، المعروف بـ"المصطلق"، كان من أحسن الناس صوتًا، وقد غنى بعد "الجرادتين"، غنى غناء النصب4. وذكر أنه أول من غنى في خزاعة5. ثم غنى بعده "ربيعة"، وهو "ضبيس بن حزام بن حيشة بن سلول بن كعب بن عمرو بن عامر" الخزاعي، ثم غنى بعده "زمام بن خطام الكلبي"، وقد ذكره "الصمة القشيري"، بقوله:
دعوت زمامًا للهوى فأجابني
…
وأي فتى للهو بعد زمام6
وذكر "المسعودي"، أن غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري. والحنفي أحسنها7، فهذا هو غناء أهل اليمن. ورجع بعض أهل الأخبار غناء أهل اليمن إلى "علس بن زيد ذي جدن"، زعموا أنه أول من تغنى باليمن8. وزعموا أنه كان من ملوك اليمن، لقب بذي جدن، لجمال صوته. فالجدن الصوت عند أهل اليمن9.
1 اللسان "3/ 118"، "صادر"، "جرد"، تاج العروس "2/ 318""جرد".
2 الأغاني "8/ 2""طبعة ساسي".
3 رسالة الغفران "244".
4 كتاب اللهو والملاهي "18".
5 تاج العروس "6/ 412".
6 كتاب اللهو والملاهي "18".
7 مروج "4/ 134".
8 الأغاني "4/ 37".
9 اللهو والملاهي "20".
وذكر أن قريشًا لم تكن تعرف من الغناء، إلا النصب، حتى قدم "النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" العراق، فعلم ضرب العود وغناء العباديين، فقدم مكة، فعلم أهلها، فاتخذوا القيان1.
ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن الغناء، أن المراد به، تلحين ما يراد التغني به وتطريبه، حتى يثير الطرب في نفوس السامعين، لا سيما إذا اقترن بآلة من آلات الطرب. ونادرًا ما يكون غناء دون "موسيقى". فالموسيقى تصاحب الغناء. والغناء: تلحين ما يراد التغني به بتقطيعه قطعًا موزونة تكون نغمة، يوقع على كل صوت منها بإيقاع يناسبه، فيزيده لذة في السماع2.
وذهب "المسعودي" إلى أن أول من اتخذ القيان من العرب، أهل يثرب.
أخذوا ذلك من بقايا عاد3. بينما يذكر الأخباريون، أن أول من غنى من العرب العاربة الجرادتان، وكانتا فينتين على عهد عاد، لمعاوية بن بكر العمليقي4.
وفي جملة من قال ذلك "ابن خرداذبه"، الذي اعتمد "المسعودي" عليه في موضوع الغناء، ونقل من كتابه "اللهو والملاهي" بالنص5.
والقينة عند علماء اللغة: الأمة المغنية، وذكروا أنها كلمة هذلية. وقال بعض آخر: مغنية كانت أو غير مغنية. وإنما قيل للمغنية قينة، إذا كان الغناء صناعة لها، وذلك من عمل الإماء دون الحرائر6. والظاهر أنها من الألفاظ المعربة، فالغناء في لغة "بني إرم" هو "قنتو" Qinto والمغنية "قينة" من الغناء "قنتو"7.
وذكر أن من أسماء "القينة""الزمّارة" و"الزامرة"، وقيل للمغني:"الزمار"، وذلك من التزمير بالمزمار8.
1 كتاب اللهو والملاهي "19"، مروج الذهب "4/ 134"، المخصص "2/ 142 وما بعدها"، "4/ 54".
2 مقدمة ابن خلدون "758"، "دار الكتاب، بيروت 1961"، اللسان "15/ 135".
3 مروج الذهب "4/ 134"، كتاب اللهو والملاهي "19".
4 كتاب اللهو والملاهي "18".
5 راجع كتاب اللهو والملاهي وقارنه بكتاب مروج الذهب، للمسعودي "4/ 131 وما بعدها".
6 اللسان "13/ 351 وما بعدها".
7 غرائب اللغة "202".
8 اللسان "4/ 327"، "ذمر".
ويقال للمغنية: "الكرينة" أيضًا1. وقد وردت اللفظة في شعر لبيد:
بصبوح صافية وجَذْب كرينة
…
بموترٍ تَأتاله إيهامها2
وذكر أن "الكرينة" المغنية الضارية بالعود أو الصنج، والضاربة بـ"الكران".
و"الكران" هو العود3.
وذهب أهل الأخبار إلى أن الغناء محدث في العرب، أخذ من "الحداء".
وكان الحداء في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. اشتقه "حباب بن عبد الله الكلبي"، فغنى النصب4.
وقد أشير إلى غناء النصب في كلام ينسب إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكر أنه قال: مَرَّ بنا ابن الخطّاب، وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا علي5. وورد أن أنس بن مالك سمع أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبًا6. مما يدلّ على أن غناء النصب إنما ورد من هذا المعنى كذلك أشير إلى الحداء في خبر ينسب إلى ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء7. وقد أخرج هذا الخبر الحداء من الغناء.
وعرف بعض العلماء النصب: أنه غناء الرُّكبان. وعرف أنه "العقيرة"، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. وعرف أنه ضرب من أغاني العرب "وفي حديث نائل مولى عثمان: فقلنا لرباح بن المغترف: لو نصبت لنا نصب العرب، أي: لو تغنيت، وفي الصحاح: لو غنيت لنا غناء العرب. "وكان رباح بن المغترف يحسن غناء النصب وهو ضرب من أغاني العرب، شبيه الحداء، وقيل:
1 العقد الفريد "6/ 27"، كتاب اللهو والملاهي "ص16".
2 شرح القصائد العشر، للتبريزي "214 وما بعدها"، "295""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 العقد الفريد "6/ 27".
4 اللهو والملاهي "18".
5 العقد الفريد "6/ 8".
6 المصدر نفسه.
7 العقد الفريد "6/ 9"، تاج العروس "1/ 485".
هو الذي أحكم من النشيد، وأقيم لحنه ووزنه"1. وعرف النصب: أنه ضرب من مغاني العرب أرق من الحداء2.
وقد أشار أهل الأخبار إلى أن العرب كانت "تتغنى بالركباني، إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني، وأول من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، فورثه عند عبيد الله بن عمر، ولذلك يقال: قرأت العمري، وأخذ ذلك عنه سعيد العلاف الإباضي"3. وذكر أن "عمر" سمع "عبد الرحن بن عوف" وهو يتغنى وينشد بالركبانية، وهو غناء يحدى به الركاب4.
والحداء، هو من أقدم أنواع الغناء عند العرب، يغنى به في الأسفار خاصة، ولا زال على مكانته ومقامه في البادية حتى اليوم. ويتغنى به في المناسبات المحزنة أيضًا لملاءمة نغمته مع الحزن. وقد كان للرسول حادي هو "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري" وكان حداءً للرجال5. وكان له حداء آخر، يقال له "أنجشة الحادي" وكان جميل الصوت أسود، وكان يحدو للنساء6، نساء النبي، وكان غلامًا للرسول7. وذكر أن النبي قال لقوم من بني غفار -سمع حاديهم بطريق مكة ليلًا- قال لهم: "إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصًا فضرب بها كفَّ غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وا يداه، وا يداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت، فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداء"8.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن أول من أخذ في ترجيعه الحداء "مضر بن نزار"9
1 اللسان "1/ 762"، "نصب".
2 تاج العروس "1/ 486"، "نصب".
3 اللسان "15/ 137".
4 الروض "2/ 219".
5 الإصابة "1/ 143"، اللسان "14/ 168".
6 الإصابة "1/ 67"، الاستيعاب "1/ 117""حاشية على الإصابة".
7 إرشاد الساري "9/ 92".
8 العمدة "314 وما بعدها"، المعارف "241"، الروض الأنف "1/ 60"، العقد الفريد "6/ 27"، إرشاد الساري "9/ 88".
9 مروج الذهب "4/ 159".
فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وا يداه وا يداه، وكان أحسن الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًَا لقوله هايدا هايدا يحدون به الإبل"1. وللأخباريين كلام آخر من هذا النوع عن الحداء2. يتفق كله في أن هذا النوع من الغناء كان من خصائص غناء مضر3.
وكان "عامر بن سنان الأكوع بن عبد الله بن قشير الأسلمي" المعروف بـ"ابن الأكوع" رجلًا شاعرًا وراجزًا، وكان يحسن الحداء، فطلب منه أصحاب الرسول أثناء سيرهم إلى خيبر أن يحدو بهم. فسمع الرسول حداءه4.
وهناك أخبار أخرى يفهم منها أن العرب لم تدخل الحداء في الغناء، وإنما ذكرته معه، على أنه باب خاص5. والعادة أن يجعل المسافرون معهم حاديا أو جملة حداة يحدون بهم في السفر. وكان أبو هريرة أحد الصحابة المحدثين عن رسول الله، يحدو لركب بسرة بنت غزوان6.
والحداء إذن ضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالبًا لأن طبيعة الرجز تلائم هذا النوع من الغناء7. ويذكر "المسعودي" أن الحداء كان في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء8. فالحداء متقدم على الغناء إذن، وهو الباب الذي ولج العرب منه إلى الغناء. والحداء، هو في الواقع غناء أهل البادية، وفي إرجاع أهل الأخبار أصله إلى "مضر" أو غيره من الرجال صحة، إذا اعتبرنا أن "مضر" أو غيره كناية عن الأعراب. لأن هذا النوع من الغناء مما يتناسب مع لحن البوادي ونغمها الحزينة البسيطة التي تطرب بها طبيعة البداوة نفس الأعراب. ولا زال غناء أهل البادية متأثرًا بهذه الضربات من العزف، التي تعزفها البادية للتخفيف عن كآبة.
1 العمدة "314".
2 المعارف "241"، العمدة "314".
3 العقد الفريد "6/ 27"، الروض "1/ 60"، بلوغ الأرب "1/ 369 وما بعدها".
4 إرشاد الساري "9/ 90 وما بعدها".
5 المعارف "ص232"، اللسان "14/ 168".
6 المعارف "ص120"، نهاية الأرب "4/ 164".
7 إرشاد الساري "9/ 88".
8 مروج "2/ 133"، "دار الأندلس".
الطبيعة وللتعبير عن الروح الحزينة التي تحملها هذه الطبيعة من نشوئها ونموها في هذه الفيافي الساحقة الشاسعة التي لا ترى حدودها العين، والتي ترشق الأوجه برشقات من الرمال، تسد العين، حتى لا تتجاسر فتمد بصرها لتسترق سر هذه المحيطات ذات الأمواج المتفاوتة في الارتفاع من تموجات الرمال.
وقد تخصص أناس من رجال ونساء بالغناء، واتخذوه حرفة لهم يتكسبون بها. والمغنون المحترفون هم من سواد الناس، ومن الرقيق. لأن من طبع الشريف والحر الابتعاد عنه. وقد احترف هؤلاء الغناء وتعيشوا عليه. فكانوا يدعون إلى إحياء الحفلات في مقابل أجر يدفع لهم. وقد كان من بينهم من يغني بلغته كالرومية والحبشية، ولهذا فلم يكن من المستبعد سماع غناء أجنبي في موضع مثل مكة أو يثرب لوجود رقيق فيه.
وقد تغنى بشعر بعض الشعراء الجاهليين، ومن هؤلاء شعر الشاعر "مرة بن الرواغ". ويذكر أهل الأخبار أن "امرئ القيس بن حجر"، كان يأمر قيانه أن يغنين بشعره. وأن قيان الملوك كن يغنين به أيضًا1، وقد كان النخاسون في الجاهلية يعلمون المغنيات الشعر، للتغني به.
وقد كان أغنياء مكة والقرى الأخرى يملكون القيان، ومنهم من كان يملك عددًا منهن. مثل "عبد الله بن جُدْعان". وكان "لمقيس بن عبد قيس بن قيس بن عدي"، قينتان تغنيان، وكان بيته مألفًا لشباب قريش ينفقون عنده ويشربون ويتهاتكون يبقون على ذلك ليالي وأيامًا2.
ومن القيان: "هريرة" التي شبب بها "الأعشى". وهي أمة سوداء، لحسان بن عمرو بن مرثد. ولها أخت اسمها "خليدة": كانت قينة كذلك. وقد ورد في رواية أخرى، أنهما كانتا قينتين لـ"بشر بن عمرو بن مرثد"، وكانتا تغنّيانه النصب. وقدم بهما اليمامة، لما هرب من "النعمان"3.
وذكر أنه كان لـ"عائشة" جاريتان تغنيان بغناء بعاث، أي تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث4.
1 الآمدي، المؤتلف "ص127"، معجم الشعراء "ص382".
2 شرح ديوان حسان "47""البرقوقي".
3 الأغاني "9/ 113".
4 اللسان "15/ 137".
ومن أهل الحداء حاد يقال له: "أنجشة" أشرت إليه قبل قليل، وكان حسن الصوت. وهو من الصحابة. "وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأنجشة وهو يحدو بالنساء: "رفقًا بالقوارير
…
" وكان أنجشه يحدو بهن ركابهن ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن"1. وهو من أصل حبشي، يكنى "أبا مارية"2.
وكان يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال3. وربما كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام.
وكان "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري"، حسن الصوت كذلك.
وكان يرجز لرسول الله في بعض أسفاره، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل. وذكر أنه كان حادي الرجال. وكان يتغنى بالشعر. وقد شهد المشاهد مع رسول الله إلا بدرًا، وله يوم اليمامة أخبار. واستشهد في أيام عمر4. وكان من الشجعان5.
ومما يلفت النظر أن الأخباريين حين يتحدثون عن مجلس طرب وشرب وغناء، يذكرون أن صاحب المجلس أمر قينتين له بأن تغنيا له أولهم، وذلك في الغالب، ولم يذكروا قينة أو أكثر إلا في الأقل، حتى ليشعر القارئ أن العرف في ذلك الوقت أن تكون للسادة وللأشراف قينتين تغنيان تكونا في البيت بصورة دائمة.
فلما اغتاظ "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" ما قيل عنه، وأراد الترفيه عن نفسه قبل أن يقتل نفسه "دعا قينيتن له فشرب وغنتاه"6. وكان "عبد الله بن جدعان" إذا أراد سماع الغناء أمر قينتين له تسميان "الجرادتين" بالغناء7.
ولا يستبعد استخدام الجاهليين آلات الطرب والغناء في معابدهم وفي أعيادهم. فقد كان الساميون كالعبرانيين يستعملون أنواع آلات الموسيقى في معابدهم وفي أعيادهم تقربًا إلى آلهتهم8. وقد وصلت إلينا أسماء بعض آلات الطرب التي استعملها الجاهليون ولكن معارفنا لا تزال مع ذلك قليلة ضعيفة. وستزيد ولا شك
1 اللسان "5/ 87 وما بعدها.
2 الإصابة "1/ 80"، "رقم261".
3 الاستيعاب "1/ 121 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "1/ 147"، "رقم 620".
5 الاستيعاب "1/ 141 وما بعدها".
6 شرح ديوان لبيد "ص61".
7 الأغاني "8/ 2"، البيان والتبيين "1/ 71""لجنة".
8 A Relig. Ency.، Vol. III، P. 1598
متى قام الآثاريون بالتنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في مواضع الآثار في مختلف الأنحاء.
أما العرب في العراق وفي بلاد الشام، فقد تأثروا بالغناء الأعجمي، واستعملو آلات الطرب المعروفة عند الفرس واليونان، وسمعوا الغناء بالفارسية والرومية واستحسنوه، بل استحسنه أناس من عرب الحجاز أيضًا. سمع حسان بن ثابت غناء "رائقة"، فلما عاد إلى بيته، تذكر ليلة قضاها في الجاهلية مع "جبلة بن الأيهم"، لم ينسها قط، قال:"لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه إياس بن قبيصة. وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. وكان إذا جلس للشرب، فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيًا، وإن كان صائفًا بطّن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكساء صيفية ينفصل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء بفراء الفَنَك وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يومًا قط إلا وخلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة"1.
وإذا كان الغناء للطرب بوجه عام، فإن هنالك نوعًا آخر من الغناء هو "الترنيم"، وهو تطريب الصوت، ويستخدم في الغالب في التلاوة، أي: تلاوة الأدعية والتراتيل الدينية. فقد كان الجاهليون يرتلون أغانيهم الدينية أمام أصنامهم، كما فعل ذلك اليهود والنصارى ويترنمون بها. وتصحب هذه الترانيم آلات موسيقية لتعزف الألحان المناسبة الموافقة لها.
وذكر علماء العربية أن "الرنم" المغنيات المجيدات، والرنم الصوت. والرنيم والترنيم ترجيع الصوت وتطريبه2. وعرف "الترجيع" بـ"ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به". وقيل:"الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في الصوت"3. وقد كان الجاهليون يرجعون الشعر، بأن يقرأونه على الألحان والتطريب والإيقاع ليؤثر في السامعين.
1 الأغاني "16/ 14".
2 تاج العروس "8/ 320"، "رنم"، إرشاد الساري، القسطلاني "7/ 480 وما بعدها" اللسان "12/ 256".
3 تاج العروس "5/ 351"، "رجع".