الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخشون على حياتهم ومالهم، ويعشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هَمَّ لها سوى مخاصمة بعضها بعضًا والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب.
وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وباضطرار الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الإقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم. وهذا مما جسر الحبش على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كثيرًا، وقضت على ما كان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو أن الحكم هو للملوك أو للأحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى على الحكم الأجنبي في العربية الجنوبية.
ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكمها لطبيعة أرضها ولتركز الإقطاع فيها، وهو نظام لازم تاريخها من قبل ظهور الحكم المركزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التاريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في اليمن على مدن رئيسية معينة، كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال أيام الفرس أيضًا. بل أستطيع أن أقول: إن حكم الفرس كان حكمًا شكليًّا، مقتصرًا على بعض المواضع، أما الحكم الواقعي فكان للأقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه الموارد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في أيام حكم الفرس لليمن، وكان منهم من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارسي عليه.
حكومات مدن:
استعملت لفظة "حكومة" بالمعنى المجازي، فلم يكن للمدن حكومات بالمعنى
المفهوم من الحكومة في الزمن الحاضر، أي: رئيس مفروض على المدينة بحكم الوراثة أو بحكم القوة، أو رئيس منتخب ينتخبه أبناء المدينة أو ساداتها وأشرافها لأجل معلوم أو لأجل غير معلوم.
ولم يكن لهذه المدن موظفون نيطت بهم أعمال معينة وواجبات محددة عليهم القيام بها، في مقابل أجور تدفع لهم. ولم يكن فيها مؤسسات ثابتة مثل المحاكم والشرطة لضبط الأمن والضرب على أيدي من يخلون بالأمن ويخرجون على أوامر المجتمع وقوانينه، ولم يكن فيها ما يشبه أعمال الحكومة المعروفة عندنا، لأن مجتمع ذلك العهد يختلف عن مجتمعنا الحديث.
فمكة مثلًا، وقد كانت من أبرز مدن الحجاز في القرن السادس للميلاد، لم تكن ذات حكومة. لم يكن يحكمها ملك، ولم يحكمها رئيس، وكذلك كان أمر "يثرب" و"الطائف" وسائر قرى العربية الغربية. لم يكن فيها أي شيء من هذه المؤسسات الثانية التي تكون الحكومة، والتي تتعاون لتدبير أمور الناس.
وكل ما كان في مكة، أسر، يعبر عنها بـ"آل" و"بني"، فيقال:"آل عبد المطلب" و"آل عبد شمس" و"آل هاشم"، و"بنو عبد المطلب" و"بنو عبد شمس" و"بنو هاشم"، وهكذا، تستوطن شعابًا خصصت بها.
وكل "شِعب" مجتمع قائم بنفسه، له سادته وأشرافه، وهم وجوه الشعب، وأصحاب الحل والعقد في هذا المجتمع.
ويقوم وجوه الشعب بفض ما يحدث بين أبناء الشعب من خلاف، وبالنظر في أمر المخالفين لأعرَاف الشِعْب وعاداته، وأحكامهم غير إلزامية ولا تسندها قوة تنفيذية، بل تنفذ بحكم الأعراف والأصول المرعية، وبحكم وجاهة هؤلاء الرؤساء ومكانتهم عند الشعب.
أما إذا حدث حادث تجاوز مداه حدود "الشِعب"، فشمل شعبًا آخر أو عدة "شِعاب"، فيكون أمر النظر فيه لسادات "الشعاب" التي يعنيها الأمر، فيجتمعون عندئذ للنظر في الأمر وللبت فيه بحكمة وبأناة قدر الإمكان، مراعاة للجوار، وإقرارًا للسلم. وإذا أخفق المجتمعون في اتخاذ قرار توسط بينهم وسطاء محايدون لفض ذلك النزاع بالتي هي أحسن.
وقد ينشب خلاف بين الأحياء على أمور تمس المصالح الكبيرة الخاصة بالأسر،
فتفعل هذه الأحياء عندئذ ما تفعله القبائل، تلجأ إلى حلفائها، أو تجدد أحلافها، أو تعقد حلفًا جديدًا لتدافع به عن مصالحها، كالذي كان من أمر "حلف المطيبين" وما كان من أمر "الأحلاف"، أو من "حلف الفضول".
أما ما يعلق بأمر المدينة كلها، كأمر مكة مثلًا، من أمور تتعلق بأحوال السلم أو الحرب، فيترك النظر في ذلك إلى "الملإ""ملأ مكة" مثلًا. وهم وجوه مكة وسادتها من كل الأسر، فيجتمعون في "دار الندوة" أو في دور الرؤساء للنظر في القضايا والبت فيها. فيبين الرؤساء آراءهم ويتناقشون فيها، فإذا اتفقوا على شيء ألزموا أنفسهم تنفيذه، وإن لم يتفقوا على شيء، وكان النزاع بين المجتمعين حادًّا، حاول كل فريق تأليف جبهة قوية لمقابلة الجبهة المعارضة، ولمنعها من الاعتداء عليها، وقد يعمد المتخاصمون إلى مقاطعة بعضهم بعضا، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، كالذي حدث من مقاطعة أغلب قريش لآل هاشم وآل المطلب، بسبب تمسك أبي طالب بأن أخيه الرسول ودفاعه عنه. فما كان من بقية قريش إلا أن قررت مقاطعة "أبي طالب" ومن آزروه وانضم إليه.
ونجد في مكة نوعًا من التخصص في الأمور. والظاهر أن ذلك إنما كان عن استئثار بعض الرجال البارزين بعمل من الأعمال، ثم انتقل ذلك منه إلى ورثتهم بالإرث أو بالاتفاق أو بالنص، ثم صار سنة اتفق عليها، كالذي ورد من أمر "الرفادة" وهي ما كانت تخرجه قريش من أموالها وترفد به منقطع الحاج1.
وقد عرف "الرفادة" أنها شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل إنسان مالًَا بقدر طاقته، يجمعون من ذلك مالًا عظيمًا أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالونه يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وكانت الرفادة لبني هاشم. وذكر أن أول من قام بالرفادة "هاشم بن عبد مناف" وسمي هاشمًا لهشمه الثريد2.
وكالذي ورد من أمر "السقاية"، سقاية الحاج. وقد عرفت أنها مأثرة من مآثر قريش في الجاهلية. وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها "العباس بن عبد المطلب" في الجاهلية والإسلام3.
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
2 اللسان "ث/ ر/ د"، "3/ 181"، تاج العروس "2/ 355"، "رفد".
3 اللسان "س/ ق/ ي"، "14/ 392"، تاج العروس "10/ 181"، "سقى".
وكالذي جاء من أمر "السدانة" مع "الحجابة". والسادن: خادم الكعبة بيت الأصنام. وكانت السدانة في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرها النبيّ لهم في الإسلام، والسدنة هم الذين يتولون فتح باب الكعبة وإغلاقها وخدمتها1.
وأما "الحُجّاب" فهم سدنة البيت أيضًا. وذكر أن الفرق بين السادن والحاجب أن الحاجب يحجب وإذنه لغيره، والسادن يحجب وإذنه لنفسه2 والحجبة هم حجبة البيت. ورد في الحديث:"قالت بنو قصيّ: فينا الحجابة، يعنون حجابة الكعبة، وهي سدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفاتيحها"3.
وكالذي ذكر من أم "الندوة"، والندوة التجمع والجماعة. و"دار الندوة": دار الجماعة، سميت من النادي. وكان إذا حزبهم أمر، ندوا إليها، فاجتمعوا للتشاور4.
وكالذي روي من أمر "المشورة". وذلك أن رؤساء قريش كانوا إذا أرادوا أمرًا استشاروا ذوي الرأي، والعقل والحنكة، ومن هؤلاء "يزيد بن زمعة بن الأسود"، وهو من "بني أسد". فكانوا إذا أرادوا أمرًا ذهبوا إليه، وعرضوه عليه. فإن وافقه والاهم عليه وإلا تخيرز وكانوا له أعوانا. وقد أسلم، واستشهد بالطائف5.
ومن الأعمال التي كانت في مكة "الأشناق". وهي الديات والمغرب. وكانت لأبي بكر، وهو من "بني تيم" فكان إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشًا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه. وإن احتملها غير خذلوه6. ويدل هذا على أن تقدير الأشناق لم يكن ثابتًا، بل كان يعود إلى تقدير صاحب الأشناق. كما يدل أن غيره قد قام به.
ومن أعمال مكة "السفارة، وذلك أن أهل مكة كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرًا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا لهم منافرًا لينافرهم.
1 اللسان "س/ د/ ن"، "13/ 207".
2 اللسان "س/ د/ ن"، "13/ 207".
3 اللسان "ح/ ج/ ب"، "1/ 298"، تاج العروس "2/ 239"، "طبعة الكويت".
4 اللسان "ن/ د/ 1"، "15/ 317".
5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، المحبر "ص102".
6 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، تاج العروس "6/ 400"، "شنق"، الاستيعاب "2/ 237".
وكانت السفارة والمنافرة في "بني عدي" عند ظهور الإسلام. وكان الذي يتولاها إذ ذاك "عمر بن الخطاب"1.
وذكر أهل الأخبار أن "بني سهم""الحارث بن قيس"، وكانت إليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم2، والتي كانوا يخصصونها من مغانمهم في السلم وفي الحرب.
ومن أعمالهم "الأيسار"، وهي "الأزلام"، وقد ذكر أهل الأخبار أنها كانت في "بني جمح"، ويتولاها منهم "صفوان بن أمية". فكان لا يُسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي تسييره على يديه3.
ومن الأعمال الأخرى التي ذكرها أهل الأخبار "العمارة". وكان الذي يتولاها عند ظهور الإسلام "العباس". وكان ينهى الناس من أن يتكلم أحدهم في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا أن يرفع صوته4.
وأشار أهل الأخبار إلى ما يسمى بـ"حُلْوان النفر" وقالوا: إن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا، فإن كانت حرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما كان يوم الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن5.
وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم6.
واهتم أهل مكة بأمر الحروب والدفاع عن مدينتهم. ويقتضي ذلك وجود أناس لهم خبرة وتجربة في الحرب، ولهم رأي في أحوالها وأصولها وحيلها وخدعها. فالحرب خدعة، ولا بد للقائد من اللجوء إلى الخدع والحيل الحربية للتغلب على خصمه. ونظرًا لضرورة التهيؤ للحرب في أيام السلم، أوجد أهل مكة بعض الأعمال وعهدوا إلى أصحابها القيام بها. منها القبة والأعنة وخزن الأسلحة وحمل اللواء والقيادة.
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
2 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
3 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
4 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
6 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
أما "القبة" فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به قريشًا.
وأما "الأعنة"، فيكون صاحبها على خيل قريش في الحرب1. وكانتا إلى "خالد بن الوليد" وهو من "بني مخزوم" عند ظهور الإسلام.
وذكر أن قريشًا كانوا يحفظون الأسلحة عند "عبد الله بن جدعان"، فإذا احتاجوا إلى السلاح وزعه فيهم2. فبيته مخزن قريش للأسلحة. ويذكر أن القبائل كانت إذا حضر المواسم أودعت سلاحها "عبد الله بن جدعان"، فإذا انتهى الموسم وقررت العودة استعادته منه، وذلك لأمانته ولشرفه ولوثوق الناس به.
ومن الأعمال التي لها علاقة بالحرب: "اللواء". وذكر أن "عثمان بن طلحة" وهو من "بني عبد الدار" كان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال: والندوة أيضًا. وكانت هذه في "بني عبد الدار". وورد في خبر آخر إن راية "العقاب" وهي راية قريش، كانت عند "أبي سفيان" وهو من "بني أمية"3.
و"العقاب" راية للنبي، كما ورد في الحديث. وذكر أن العقاب علم ضخم، يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر4.
والقيادة: قيادة جيش مكة. وقد كانت إلى بني أمية في الغالب5. ولكن العادة أن يتولى سادات مكة قيادة أحيائهم في القتال. فيقود سيد كل شعب أبناء شعبه ويوجههم حيث يرى في المعركة. أما التنسيق بين خطط المقاتلين لإنجاح المعركة فيكون أمره إلى من تسلمه قريش قيادتها العامة في الحرب من الرجال المحاربين أصحاب الرأي في الحروب. وكان "حرب بن أمية" قائد قريش في الفجار وفي ذات نكيف.
ويجب أن نضيف إلى ما تقدم قيادة قوافل قريش، وقد كان أمر "عير قريش" إلى "أبي سفيان" عند ظهور الإسلام6. و"عير قريش" قافلتها. وقد كانت رئاسة القوافل من الأعمال الهامة في أيام الجاهلية. وعندما تعود القافلة سالمة غانمة يستقبل قائدها استقبال الأبطال. وقد أشير في الكتابات اللحيانية والتدمرية إلى "رئيس القافلة"، على أنه من الشخصيات المهمة البارزة في تدمر وعند اللحيانيين.
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، ابن الأثير، أسد الغابة "2/ 101".
2 أيام العرب "ص329".
3 العقد الفريد "3/ 313 ومابعدها".
4 تاج العروس "1/ 393"، "عقب".
5 الأزرقي "1/ 63 وما بعدها، 66".
6 الطبري "2/ 132".
وكذلك كان أمر قائد قافلة قريش ولا شك. وورد في الكتابات النبطية لقب آخر غير لقب: "زعيم القافلة" هو "زعيم السوق"، سأتحدث عنه فيما بعد1.
وذكر أن من أعمال قريش في الجاهلية، عمل يقال له:"العمارة". وكان إلى "العباس بن عبد المطلب"، بالإضافة إلى السقاية2. وقد خرجت عليه القرعة يوم الفجار، فنصب رئيسًا على "بني هاشم". وكان من عادة قريش والعرب –كما يزعم أهل الأخبار- أنهم لم يكونوا يملّكون أحدًا عليهم. فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه، صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما خرجت القرعة على العباس، وهو صغير، جاءوا به، فأجلسوه على المجن.
و"العمارة" عمارة البيت. وقد عدت من مفاخر قريش وقد أشير إليها في القرآن: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3. وقد ورد أن ممن تولاها "العباس بن عبد المطلب"4 و"شيبة بن عثمان"5. وذكر أن "المشركين قالوا: عمارة البيت وقيام على السقاية خيرٌ ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل إنهم أهله وعماره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم"6.
أما بخصوص نظام الحكم في يثرب، فإنه لا يختلف عن طريقة نظام الحكم في مكة، فلم يكن لأهل يثرب عند ظهور الإسلام رئيس وقد حاول بعض سادتها من الأوس والخزرج تنصيب أنفسهم ملوكًا على المدينة، غير أنهم لم يفلحوا في مسعاهم فلم ينصبوا ملوكًا عليها. والظاهر أن للمنافسة الشديدة العنيفة التي كانت بين الأوس والخزرج على الزعامة والرئاسة يدًا في عدم تمكين أي أحد من سادة يثرب من الانفراد بزعامة المدينة وبالسيادة عليها. وقد يكون لوجود اليهود بيثرب يد في تعميق الخلاف بين "أولاد قيلة"، إذ لم يكن من مصلحتهم اتفاقهم وإجماعهم على اختيار رئيس واحد قوي. فالرئيس القوي سيبسط نفوذه من غير شك على يهود يثرب أيضًا، ويستذلهم ويجعلهم أتباعًا له. أما في حالة تشتت
1 Coode، North – Semitic، P. 274، 279
2 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507".
3 التوبة، الآية 19.
4 تفسير الطبري "10/ 67"، الإصابة "2/ 263".
5 تفسير الطبري "10/ 68".
6 تفسير الطبري "10/ 67".
كلمتهم وتشاحنهم فستكون لليهود إمكانية إثارة فريق على فريق، والاستفادة من سياسة فرق تسدّ. وبذلك يكون أمرهم ونهبهم في أيديهم بدلًا من أن يكون في أيدي "صاحب يثرب".
وقد حاول أهل يثرب من الأوس والخزرج حل مشكلة الحكم في مدينتهم حلًّا وسطًا، على قاعدة: أن من الأوس أمير ومن الخزرج أمير. يحكمان حكمًا مشتركًا، أو على التوالي، كأن يحكم سيد الأوس سنة، ثم يترك الحكم لسيد الخزرج ليحكم السنة التالية، ثم يعود فينسحب ليتولى الحكم سيد الأوس وهكذا، غير أن الحل لم ينجح أيضًا، وبقيت المشكلة:"مشكلة الحكم" مستعصية غير محلولة حتى دخل الرسول يثرب، لحلها حلًّا أزعج بعض من كان طامعًا في الحكم وكان يرغب أن يكون سيد يثرب.
هذا ولم نعثر في الأخبار الواردة إلينا عن يثرب، على خبر يفيد وجود "ناد" في هذه المدينة على شاكلة "دار الندوة" أو نواد الملأ. والظاهر أنه قد كان للنفرة الشديدة التي كانت بين الحيين: الأوس والخزرج يد في عدم ظهور مجلس حكم موحد في هذه المدينة. فبغض كل حي للحي جعل الاتفاق فيما بينهما على تكوين مجلس واحد من "ملأ" المدينة أمرًا صعبًا، على حين كان ذلك ممكنًا بالنسبة لأهل مكة، لأنهم كانوا كتلة واحدة، ومصلحتهم في حكم مشترك هي مصلحة عامة. ولم تكن المنافسات عندهم بين الأسر شديدة حادة، لذلك كان من الممكن اجتماع سادات الأسر في مجلس واحد، لا سيما وهم تجار، ومن مصلحة التاجر تمشية الأمور وتصريفها بالطرق السلمية، وحلها بغير تعنت ولا تشدد وغطرسة.
وكان أمر "الطائف" في أيدي "ملأ المدينة". يديرون شئونها في أيام السلم والحرب، ولم يرد في الأخبار أن أهل الطائف توجوا رجلًا عليهم، فجعلوه ملكًا، ولم يرد فيها أيضًا أنهم رأسوا رئيسًا عليهم، بل كانت الرئاسة في عدد من الرؤساء، هم سادات البطون والأحياء. ولكل رئيس كلمته في حيّه الذي يقيم فيه.