الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى أنهم كانوا إذا رأوا الهلال، قالوا: لا مرحبًا بمحل الدين ومقرب الآجال1.
وذلك لأنهم كانوا يتواعدون في دفع الديون على مطالع القمر2.
ومما زاد في فقر بعضهم، شرب الخمر والمقامرة. فكان بعضهم يفني ماله في شرب الخمر، "وكان الجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينًا سليبًا، ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا"3.
فعلوا ذلك أملًا في التخلص من ألم الفقر والحرمان باللجوء إلى الخمور لطمس ألم الفقر والذل، وإلى القمار، أملًا في الكسب والربح، فزادوا بذلك فقرهم، وعرضوا أنفسهم إلى الخسارة.
1 تاج العروس "7/ 286"، "حلل".
2 تاج العروس "9/ 72"، "نجم".
3 تفسير الطبري "7/ 21 وما بعدها".
الوأد:
والوأد من ذيول الفقر. وقد جاء ذكره في الآية: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 1. والوأد على ما يذكر علماء التفسر وأهل الأخبار هو دفن البنات وهن أحياء، وذلك خوفًا من العار أو لوجود نقص فيها أو مرض أو قبح كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب2، أو خوفًا من الفقر والجوع، أو مخافة العار والحاجة3.
ورجع "القرطبي" أسباب الوأد لخصلتين: "إحداهما، كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية، إما مخافة الحاجة والإملاق وإما خوفًا من السبي والاسترقاق"4. وذكر غيره أن سنين شديدة كانت تنزل بالناس تكون قاسية على أكثرهم، ولا سيما على الفقراء، فيأكلون "العِلْهِز".
1 سورة التكوير، الآية 7.
2 بلوغ الأرب "3/ 43"، اللسان "3/ 442"، "وأد".
3 تاج العروس "2/ 520"، "وأد". اللسان "3/ 442".
4 القرطبي، الجامع "19/ 232".
وهو الوبر بالدم، وذلك من شدة الجوع1. فهذا الفقر وهذه الفاقة وذلك الإملاق، كل ذلك حملهم على وأد البنات حذر الوقوع في الغواية، فتلحق السُّبَّة بأهل البنت وبعشيرتها وقبيلتها. وذكر أيضًا أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب2.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة. وذكروا أن والد "سودة بنت زهرة" الكاهنة، وهي عمة "وهب"، والد "آمنة" أم الرسول، أرسل بها إلى "الحجون" لوأدها، للصفة المذكورة، ثم تركها في قصة يروونها، وصارت كاهنة شهيرة3. فسبب الوأد عند هؤلاء، هو هذه العقيدة القائمة على التشاؤم من البنت الزرقاء والشيماء.
ويذكرون أنهم كانوا يحفرون حفرة، فإذا ولدت الحامل بنتًا ولم يشأ أهلها الاحتفاظ بها رموا بها في الحفرة، أو أنهم كانوا يقولون للأم بأن تهيئ ابنتها للوأد وذلك بتطييبها وتزيينها. فإذا زينت وطيبت، أخذها أبوها إلى حفرة يكون قد احتفرها، فيدفعها فيها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي الحفرة بالأرض.
وذكر أيضًا، أن بعضهم كان يغرقها، أو يقوم بذبحها، ليتخلص بهذه الطرق منها4.
وذكر أن الرجل منهم كان إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إحماتها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء فيبلغ بها البئر، فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وروي عن
1 الكامل "1/ 288".
2 نهاية الأرب "3/ 126 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 43".
3 السيرة الحلبية "1/ 50"، "مطبعة الاستقامة"، "القاهرة 1962"، "1/ 53"، "المكتبة التجارية"، "القاهرة"، "باب تزويج عبد الله".
4 الكشاف "4/ 188"، سورة التكوير، تاج العروس "2/ 520"، "وأد"، بلوغ الأرب "3/ 42 وما بعدها، 52".
ابن عباس أنه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة وردت التراب عليها، وإذا ولدت ولدًا حبسته1. ومنه قول الراجز:
سميتها إذ ولدت تموت
…
والقبر صهرٌ ضامن زميّتُ
الزميت: الوقور2.
وفاعل العمل هو "الوائد" والبنت المدفونة وهي حية "الموؤودة"، والعادة "الوأد".
ويرجع بعض أهل الأخبار تاريخ الوأد إلى أيام "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فيقولون: إن "بني تميم" منعوا الملك ضريبة الإتاوة التي كانت عليهم، فجرد الملك حملة عليهم كان أكثر رجالها من بني بكر بن وائل، أو قعت بهم وسبت ذراريهم. فلما ارضوا الملك وكلّموه في الذراري، "حكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها، ردّت عليه، فاختلفن في الخيار. وكانت فيهن بنت لقيس بن عاصم المنقري، فاختارت سابيها على زوجها، فنذر قيس بن عاصم أن يدسَّ كل بنت تولد في التراب، فوأد بضع عشرة بنتًا.
وبصنيع قيس بن عاصم وإيجاده هذه السنة نزل القرآن في ذم. وأد البنات3. ورجع بعض الأخباريين الوأد إلى قبيلة ربيعة. زعموا أن بنتًا لرئيسها وسيدها وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها: فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيتها، فاختارت بيت آسرها، فغضب رئيس ربيعة لذلك، واستنّ هذه السنة، وقلدته بقية العرب حتى فشت بين القبائل4. وهي رواية قريبة في مضمونها وفي فكرتها
1 بلوغ الأرب "2/ 43"، تفسير البيضاوي "1/ 670"، تفسير القاسمي "17/ 6069 وما بعدها"، تفسير الشربيني "4/ 471 وما بعدها"، روح المعاني "28/ 30 وما بعدها".
2 القرطبي، الجامع "19/ 233"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 444"، "طبعة طهران"، "13/ 45 وما بعدها"، "بيروت". الكشاف "3/ 315"، تفسير الخازن "3/ 119"، "4/ 356".
3 بلوغ الأرب "3/ 42 وما بعدها"، الأغاني "12/ 150"، تفسير الطبري "30/ 45 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 404"، "اختارت صاحبها وعمرو بن المشمرج"، نهاية الأرب "3/ 927".
4 بلوغ الأرب "3/ 43"، تفسير الخازن "3/ 119".
من الرواية الأولى. والفرق بين الروايتين هو في تسمية القبيلة والأشخاص.
وورد أن "قيس بن عاصم" التميمي، جاء إلى النبي، فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال: فأعتق عن كل واحدة منهن بدنة1. أو: فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة2.
ويذكر الأخباريون أن "الوأد كان مستعملًا في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام"3. وقبيلة كندة وقيس وهذيل وأسد وبكر ابن وائل من القبائل التي عرف فيها الوأد، وخزاعة، وكنانة، ومضر، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن4. وذكر بعض أهل الأخبار أن الوأد كان في تميم، منهم انتقل إلى غيرهم. وقيل: إنه كان في تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل، وهم من مضر5.
فهي عادة تفشت في قبائل مضر خاصة. وقيل: إنها كانت في غير مضر كذلك.
وذكر أنها كانت في ربيعة ومضر6، أي: في العرب الذين تغلب الأعرابية على حياتهم.
وذكر "عكرمة" في تفسير الآية: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، أنها نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. كان الرجل يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: أنت علي كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فتخد لها في الأرض خدًّا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب"7.
أما أن أول من سن الوأد في العرب، هو "قيس بن عاصم المنقري"
1 تفسير الطبري "30/ 46"، "بولاق".
2 القرطبي، الجامع "19/ 233"، ابن كثير، تفسير "4/ 478".
3 بلوغ الأرب "3/ 42".
4 القرطبي، الجامع "10/ 116 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 83"، الكامل "1/ 288".
5 الكامل "1/ 288".
6 تفسير الطبري "7/ 38".
7 تفسير الطبري "8/ 38".
للسبب المذكور، فدعوى من الدعاوى المألوفة عن أهل الأخبار، وقصة من القصص الذي كانوا يضعونه أحيانًا حين يقفون عند أمر غريب عليهم، ليس لهم علم به، فكانوا يوجدون قصصًا في تفسيره وتعليله، وقفنا على كثير منه.
والظاهر أن وأد "قيس" لبنات من بناته، ووجوده في تميم خاصة بعد أن خف عند بقية العرب، حمل أصحاب الأخبار على إرجاع أصله وأساسه إلى "قيس"، مع أنهم يذكرون حوادث عن الوأد، مثل ما ذكروه عن "سودة بنت زهرة" الكاهنة، تتقدم في الزمن على "قيس". والوأد عند العرب أقدم منه، وربما يعود إلى ما قبل الميلاد. وفي القرآن الكريم:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .1 وفي هذه الآية وصف للحالة النفسية التي كانت تعتور الأب عند إخباره بميلاد بنت له، وشرح لبعض الأسباب التي كانت تحمل الآباء على وأد البنات. ويروى أن بعض الجاهليين يتوارى في حالة الطلق، فإن أُخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن، وبقي متواريًا أيامًا يدبر ما يصنع أيتركه ويربيه على ذل، أم يدسه في التراب، بأن يئده ويدفنه حيًّا حتى يموت، أم يهلكه بأمر آخر، بأن يلقيه من شاهق. روي أن رجلًا قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت. وقد كانت لي في الجاهلي بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتَها فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها، فقالت: يا أب قتلتني! فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال الرسول: "ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار ". وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها2.
وقد ذكر العلماء في تفسيرهم: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 3. أن الله "أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفهًا
1 النحل، الآية: 58، تفسير الطبري "14/ 83 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 51 وما بعدها".
3 الأنعام، الآية 139وما بعدها.
خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم"1.
قال "القرطبي": "إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر الله عز وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفهًا بغير حجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يزال مغتمًّا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "مالك تكون محزونًا؟ " فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبًا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت. فقال له: "أخبرني عن ذنبك": فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زواج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا أبت، أيش تريد أن تفعل بي؟ فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت، لا تضيع أمانة أمي! فجعلت مرة انظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال: "لو أمرت أن أعاقب أحدًا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك" 2.
فالفاقة والحمية واعتقاد بعض منهم أن الملائكة بنات الله، فيجب إلحاق البنات بالبنات، هي عوامل دفعت بالعرب إلى الوأد. فهي بين عامل اقتصادي نص عليه في القرآن الكريم، وعامل اجتماعي، هو الحمية، وخشية لحوق العار بالإنسان
1 القرطبي، الجامع "7/ 96"، تفسير الخازن "3/ 163، 356".
2 القرطبي، الجامع "7/ 97".
من السبي والغارات وعامل ديني، يرجع إلى رأي في دين. لقد تعرض "قتادة" إلى قوله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، فقال:"هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه. وقوله: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} الآية وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا تحكمًا من الشياطين في أموالهم"1. ولكن أغلب الوأد هو عن العامل الأول، وهو الخشية من العيلة والفقر والإملاق، وهو ما نص عليه في الآيات المتعلقة بالوأد وبقتل الأولاد2. وورد أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء. خصوصًا كندة، خوف العار، أو خوف الفقر والإملاق"3.
ومن النساء من تكون خصبة في ولادة البنات، فيجلب لها هذا الخصب هجر زوجها لها وفراره منها ومن رؤية بناته. يحدثنا الأصمعي أن امرأة ولدت لرجل بنتًا سمتها الذلفاء، فكانت هذه البنت سببًا في هرب الرجل من البيت، فقالت:
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا
…
يظل في البيت الذي يلينا؟
يحرد أن لا نَلِدَ البنينا
…
وإنما نأخذ ما يعطينا4
ومثل تلك المرأة المسكينة كثير من النساء هجرهن أزواجهن لكثرة ما كن يلدن لهم من البنات، ولسان حالهن يكرر كلمات أم الذلفاء.
وبمكة جبل يقال له "أبو دلامة" كانت قريش تئد فيه البنات5. وذكر أن هذا الجبل يطل على "الحجون". وقيل: كان الحجون هو الذي يقال له:
1 تفسير الطبري "8/ 38".
2 تفسير الطبري "15/ 57"، القرطبي، الجامع "10/ 252".
3 السيرة الحلبية "1/ 53"، "باب تزويج عبد الله".
4 ونسبت هذه الأبيات إلى امرأة أبي حمزة الضبي، الذي هجر زوجته ولجأ إلى خيمة جيرانه يبيت فيها فرارًا من زوجته التي ولدت له بنتًا، وقد وردت على هذه الصورة:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
…
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
…
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما يعطينا
…
ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
بلوغ الأرب "3/ 51"، البيان والتبيين "1/ 104"، "1/ 186"، "عبد السلام محمد هارون"، روح المعاني، للآلوسي "14/ 153"، تفسير الطبري "14/ 83".
5 المستطرف "2/ 77".
أبو دلامة1.
وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادهم خشية الإملاق وخوف الفقر. وهم الفقراء من بعض قبائل العرب وفيهم نزلت الآيات: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} 2. و {كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 3. و {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 4. و {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 5. وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا مخافة الفقر والفاقة6.
وذكر أن المراد من كلمة "أولادكم" البنات، وأن المقصود بذلك الوأد7.
أي: وأد البنات، لا قتل الأبناء. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بها الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا. "فقد كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلامًا لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله"8. فنحن أمام هذه الآيات تجاه موضوعين: وأد البنات وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين. وأد البنات للأسباب المذكورة الواردة في كتب التفسير والحديث، وقتل الأولاد للأسباب المذكورة في تلك الكتب أيضًا، وفي كلتا الحالتين نتيجة واحدة، هي القضاء على حياة إنسان.
قتل الأولاد الذكور عند الجاهليين هو أقل استعمالًا من وأد البنات بكثير.
ويظهر أنه كان عن عامل ديني في الأغلب، كما يتبين ذلك من قصة إقدام
1 اللسان "12/ 205"، "صادر"، "دلم".
2 الإسراء، الآية 31، تفسير الطبري "15/ 75".
3 الأنعام، الآية 137".
4 الأنعام، الآية 140.
5 الأنعام، الآية 151.
6 بلوغ الأرب "3/ 44".
7 تفسير الطبري "8/ 32 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 44".
8 القرطبي، الجامع "7/ 91".
عبد المطلب على قتل ابنه عبد الله بسبب النذر الذي أخذه على نفسه على ما جاء في روايات أهل الأخبار1.
وهذا العامل هو الذي يفسر ما جاء في التوراة عن إقدام إبراهيم على ذبح ابنه، ويشير إلى وجود هذه العادة عند الإسرائيليين. وسبب قلة قتل الأولاد بالقياس إلى وأد البنات أن الولد عنصر مهم في الحياة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية حيث يكون عُدة لوالده ولأهله وعشيرته في الحروب، ثم أن أسره في الحروب لا يعد شائنًا مثل أسر البنات. والمرأة بالأسر تكون فريسة للآسرين. والمرأة ليست قادرة كالرجل على إعاشة نفسها وغيرها ولا على الغزو، ولذلك صارت البنت هدفًا للوأد أكثر من الذكر2.
وقد تأثر بعض ذوي القلوب الرقيقة من عادة "وأد البنات"، وسعوا لإبطالها.
وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. فكان "صعصعة بن ناجية" جدّ الفرزدق الشاعر المعروف، ومن أشراف تميم، يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل3. فجاء الإسلام وعنده ثلاثون موؤودة4. وذكر أنه فدى أربعمائة جارية، وقيل: ثلاثمائة جارية من الجاهلية حتى مجيء الإسلام. وذكر على لسان الفرزدق أنه قال: "أحيا جدي اثنتين وتسعين موؤودة"5. وأنه منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميمًا تئد وهو يقدر على ذلك6. وذكر أنه قال للرسول إنه اشترى "280" موؤودة، دفع عن كل واحدة منهن ناقتين عشراوين وجملًا7. وأنه كان لا يسمع بموؤودة يراد وأدها، وهو يتمكن من إحيائها، إلا جاء والدها
1 القرطبي، الجامع "7/ 91"، الماوردي، أعلام النبوة "126"، بلوغ الأرب "3/ 46 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 39"، البداية والنهاية، لابن كثيرط 2/ 248 وما بعدها".
2 الأمومة عند العرب "ص50".
3 المستطرف "2/ 77"، القرطبي، الجامع "10/ 117" وضع لفظة "عمي" في موضع "جدي" في شعر "الفرزدق"، و"صعصعة" جد الفرزدق، لا عمه، الإصابة "2/ 179"، "رقم 4068".
4 الاشتقاق "1/ 147"، المرزباني، معجم الشعراء "2/ 486".
5 أمالي المرتضي "2/ 284 وما بعدها"، الأغاني "19/ 2 وما بعدها".
6 أمالي المرتضي "2/ 284"، الأغاني "19/ 3"، تيسير الوصول "3/ 113".
7 نهاية الأرب "3/ 126 وما بعدها".
ففداها، وأنه سأل قومه في ترك الوأد، فخفف بذلك منه. وعد ذلك مكرمة ما سبقه إليها أحد من العرب1.
وإلى "صعصعة بن ناجية"، أشار الشاعر "الفرزدق"، مفتخرًا به في شعره، إذ قال:
وجديّ الذي منع الوائدات
…
وأحيا الوئيد فلم يوأد2
وله أشعار أخرى في هذا المعنى.
وكان "عمرو بن نفيل" يحيي الموؤودة لأجل الإملاق. يقول للرجل إذا أراد أن يفعل ذلك: لا تفعل! أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها3.
وذكر "القرطبي" في تفسير الآية: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 4. أنها "نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات"5. فنسب فعلهم الوأد إلى هذه العقيدة.
ولست أستبعد ما ذكره أهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهليين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته، وإرضاء الآلهة هي شعيرة من الشعائر الدينية المعروفة. فليس بمستبعد أن الوأد والقتل من بقايا تلك الشعائر، والغريب في الوأد أنه يكون بالدفن، بينما العادة في الضحايا التي تقدم إلى الآلهة أن تكون بالذبح أو بالطعن وبأمثال ذلك، كي يسيل الدم من
1 الأغاني "19، القسم الأول، ص3 وما بعدها".
2 اللسان "3/ 442 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 520 وما بعدها"، "وأد".
وقال:
ومنا من أحيا الوئيد وغالب
…
وعمرو ومنا حاملون ودافع
تفسير الطبري "30/ 46".
ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب
…
وعمرو ومنا حاجب والأقارع
3 السيرة الحلبية "1/ 53".
4 النحل، الآية 57 وما بعدها.
5 القرطبي، الجامع "10/ 116"، تفسير الخازن "3/ 119"، في تفسير سورة النحل.
الضحية، والدم هو الغاية من كل ضحية، لأنه الجزء المهم من الضحايا المخصص بالآلهة. وعلى الجملة إن الوأد هو نوع أيضًا من القتل، وذبح الأولاد وتقديمهم قرابين إلى الآلهة Infantcide، عبادة معروفة عند أمم أخرى كانت تمارسها لترضي بذلك الآلهة وتجيب مطالبها1.
وعد من الوأد "العزل"، وهو أن يعتزل الرجل امرأته لئلا تنجب له أولادا. وقد عرف في الإسلام بـ"الوأد الخفي" وبـ "الوأد الأصغر".
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي"، وفي حديث آخر:"تلك الموؤودة الصغرى"2. وقد بحث عنه في كتب الفقه والتفسير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ناس: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، ولا يضر أولادهم ذلك شيئًا". ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"ذلك الوأد الخفي، وهو {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} "3. والغيلة إذا أتيت المرأة وهي ترضع ولدها، وكذلك إذا حملت أمه وهي ترضعه4. وقد جعل الحديث "العزل" عن المرأة بمنزلة الوأد إلا أنه خفي؛ لأن من يعزل عن امرأته إنما يعزل هربًا من الولد. ولذلك سماه الموؤودة الصغرى؛ لأن وأد البنات الأحياء الموؤودة الكبرى5.
ولم ينفرد العرب بقتل الأولاد وبوأد البنات، بل نجد ذلك عند غيرهم من الشعوب كذلك، مثل المصريين واليونان والرومان وشعوب أسترالية. أما العوامل التي حملت تلك الشعوب عليها فهي عديدة، منها عوامل دينية مثل الاعتقاد بحلول الأرواح، ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر، ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفًا فيقضي عليها الوالدان6.
ومن ذيول الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، انتشار اللصوصية والاعتداء على أموال الناس، وابتزازها وقطع الطرق وسلب الناس. وما الذي يفعله الفقير
1 Ency. Relig I، P. 669، Smith، Kinship، P. 370
2 بلوغ الأرب "3/ 53"، النهاية في غريب الحديث "4/ 189"، اللسان "3/ 442 وما بعدها"، "وأد".
3 تفسير ابن كثير "4/ 477".
4 تاج العروس "8/ 53"، "غيل".
5 اللسان "3/ 443"، "وأد".
6 Ency. Brita.، 12، P. 322
والمحتاج ومن له منعة في الجسم وضعف شديد في الجيب لإعاشة نفسه وأهله غير اللجوء إلى هذه الطرق في الحصول على لقمة العيش، إن لم يجد له وسيلة كسب أخرى؟
واللص، هو السارق. وذكر أن اللفظة من لغة طيء وبعض الأنصار1.
وتقابل Listis في اليونانية، بمعنى السارق. لذلك ذهب البعض على أنها من هذا الأصل2.
ونظرًا لتستر اللص في حرفته، وممارسته لها بتكتم وحذر خوفًا من الفضيحة والقبض عليه. مارس عمله بالليل في الغالب، حيث يرقد الناس. مارسه بخفة ومهارة، فكنى عنه بكنى. منها:"ابن الليل" و"ابن الطريق"، لأنه يمارس اللصوصية بالليل وعلى الطرق3.
ويقال لمن يسرق الدراهم بين أصابعه "القفاف". يقال: "قف الصيرفي قفوفًا"، بمعنى سرق الدراهم بين أصابعه4. وأظن أن هذا الاستعمال استعمال مولد، ولد في الإسلام.
ويعبر عن السطو والاستيلاء عنوة وعن سرقة أموال الناس، بتعابير أخرى في اللغات العربية الجنوبية، منها "خرط"5، بمعنى سرق، و"حلص"6، بمعنى سرق ونهب وسلب، وكل ما يؤخذ حيلة وسرقة.
وتعدّ السرقة عيبًا عند العرب، لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته. والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة. أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعد نقصًا عندهم ولا شيئًا ولا يعد سرقة، لأن السالب قد استعمل حق القوة، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب. فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة. ولذلك فرقوا بين لفظة "سرق" وبين الألفاظ الأخرى التي تعني أخذ مال الغير، ولكن من
1 تاج العروس "4/ 432"، "لص".
2 غرائب اللغة "268".
3 اللسان "بني"، "14/ 92".
4 تاج العروس "6/ 224"، "قف".
5 South Arabian Inscriptions، P. 436
6 المصدر نفسه.