الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أخلاق الحكام:
ليس لدينا وثائق جاهلية في أخلاق الحكام والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم، ليتمكن بها من حكم الناس ومن الحكم بينهم. وكل ما لدينا، نتف ومقتبسات في أصول الحكم تنسب إلى الجاهليين، مدونة في المؤلفات الإسلامية، يظهر أن بعضها أخذ من حكم الفرس ومن آداب اليونان في السياسة، فنسب إلى الجاهليين، وبعضه إسلامي خالص وضع ليكون وعظًا وإرشادًا وإشارة هادية إلى الخلفاء والحكام في كيفية حكم الرعية وفي تنبيههم إلى واجباتهم وإبعادهم عن الظلم والاتعاظ بمصير الحكام الطغاة الماضين حتى لا يكون مصيرهم مصير أولئك الملوك.
وفي كتاب "تاريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"، لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وصايا وعظات في أصول الملك والحكم، نسبها إلى ملوك العرب الماضين قبل الإسلام، دوّنها للخليفة "المأمون" لتكون له هاديًا ومرشدًا في كيفية الحكم. وقد استهله بوصية نسبها إلى "قحطان بن هود" أوصى بها بنيه أن يتعظوا بما نزل بقوم عاد حين عتوا على ربهم، وعصوا أمر نبيهم، فحثهم على التآلف والتعاضد والتناصر وعلى الطاعة للحكام، ثم حث ابنه "يعرب" كبير أولاده على العمل بسيرته ومنهجه، وأن يصل ذوي القربى، وأن يحفظ لسانه ويصونه، وأن يكون كاظمًا للغيظ، يقظًا من الأعداء، حليمًا، لأن الذين سادوا لم يسودوا إلا بالعلم، وأن يكون كريمًا، لأن البخل يبعد الأتباع من الحاكم1.
وذكر "الأصمعي" أن يعرب أوصى أبناءه بخصال وبما وصاه به أبوه. أوصى بأن يتعلم العلم ويعمل به، وأن يترك الحسد، وأن يتجنب الشر وأهله، وأن ينصف الناس، وأن يبتعد عن الكبرياء، لأن الكبرياء تبعد قلوب الرجال عن
1 تاريخ ملوك العرب، "ط. الشيخ محمد حسن آل يسين"، سنة 1959م ببغداد "ص3 وما بعدها".
المتكبر، وأوصى بالتواضع، فإنه يقرب المتواضع من الناس ويحببه إليهم، وأن يصفح عن المسيء، وأن يحسن إلى الجار، ولأن يسوء حال أحدهم، خير له من أن يسوء حال جاره، وأن يوصي بالمولى، لأن المولى منكم وإليكم، وأن يخلص بالاستشارة والنصيحة، وأن يتمسك الإنسان باصطناع الرجال1.
ونجد في الوصايا التي ذكرها "الأصمعي" وصايا بوجوب التعاضد والتآزر، والابتعاد عن الفرقة، والطاعة من غير خوف2، والعدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء، والكف عن أذى العشيرة3، والأخذ بالرأي لأنه لا بد للملك ممن يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك4. والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته، استجاد الناس له، فكسب المال والجاه؛ وإن استهان بها، ذهبت الصنعة من يده، وكسب الندم والحرمان5.
واستمر "الأصمعي" يذكر الوصايا التي ذكر أن ملوك العرب الماضين وضعوها في كيفية الحكم حذر الزلل، ولتجنب الوقوع في الخطأ، وهي نثر وشعر، قد تكون من وضعه وصنعته، صنعها للخليفة ليتعظ بها في الحكم على نسق ما كان يفعله أدباء الفرس والهند في وضع الوصايا والمواعظ والقصص على ألسنة الملوك الماضين والحكماء ليتعظ بها الحكام في أثناء حكمهم للناس. ونجد أمثلة كثيرة من هذا النوع دبجت في كتب السياسة والأدب، على ألسنة أرسطو أو الإسكندر أو أكاسرة الفرس6.
ونجد في شعر ينسب إلى "لقيط الإيادي"، أن الحاكم الذي يقلد الأمر يجب أن يكون رحب الذراع، مضطلعًا بأمر الحرب، لا مترفًا ولا إذا عض به مكروه خشع وخضع، يحلب دَرَّ الدَّهْر، يكون مُتَّبِعا طورًا ومُتَّبعًا، متسحصد الرأي لا قحمًا ولا ضرعًا7.
1 "ص9 ومابعدها".
2 "ص17 وما بعدها".
3 "ص20 وما بعدها".
4 "ص25".
5 "ص33، وما بعدها".
6 نهاية الأرب "6/ 16""في وصايا الملوك".
7 نهاية الأرب "6/ 17".
وكان الملوك على استبدادهم أحيانًا بآرائهم يستشيرون من يرون فيه الأصالة في الرأي، ولا سيما المتقدمون في السن، فقد "كانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقديمها في السن، ولأنها لا تُتبع حسناتها بالأذى والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التي عرفت بها عواقب الأمور، حتى كأنها تنظرها عيانًا، وطرأ عليها من الحوادث التي أوضحت لها طريق الصواب وبينته تبيانًا، ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها"1.
ويظهر أن الملوك الغساسنة والمناذرة كانوا قد تطبعوا بطباع الروم والفرس، وأخذوا عنهم أبهة الحكم، فحجبوا أنفسهم عن رعيتهم، مخالفين بذلك العرف العربي، وحصروا أنفسهم في قصورهم وفي قبابهم، حتى أن من كان يريد الوصول إليهم من ذوي الحاجات كان عليه أن يقف أيامًا أمام باب الملك، حتى يأتيه الإذن بالدخول عليه، وهذا ما أزعج الوافدين عليهم كثيرًا، وسبب إلى تجاسر الشعراء وذوي الألسنة الحادة عليهم. وكان على أكثر الوافدين التقرب إلى "الحاجب" والتذلل إليه ورشوته ليعجّل لهم بالدخول على الملوك، ومنهم من كان يتعهد له بأن يجعل له نصيبًا فيما قد يناله من جوائز الملك وهداياه، فيسرع الحاجب عندئذ إلى الملك، لطلب أخذ الإذن منه بدخول ذلك الوافد عليه.
وتوصف أخلاق الملوك بالتلون والتغير، لأن الملوك لهم بَدَوات. حتى ضرب بتلون أخلاقهم المثل. فقيل:
ويومٍ كأخلاق الملوك ملوّنٍ
…
فشمسٌ ودجنٌ ثم طلٌّ ووابلُ2
ولهذا حذر أصحاب المكانة والجاه من الوصول إليهم في أيام غضبهم وبؤسهم. خشية صدور شيء منهم قد يزعجهم فيغضبوا عليه، أو يتفوهوا بعبارات قد تخدش من كرامتهم، وتسبب لهم الألم والأذى. وقد ورد في الحكم: اتقوا غضب الملوك ومدّ البحر3. وقد ضرب المثل بيومي البؤس والنعيم.
وقد وردت في الكتابات الجاهلية مصطلحات تعبر عن تقدير الناس لملوكهم،
1 نهاية الأرب "6/ 74".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "184"، "أخلاق الملوك. رقم263".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "186".