المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصول التشريع وسن القوانين: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٩

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد التاسع

- ‌الفصل الخمسون: البيوت

- ‌مدخل

- ‌بيوت أهل المدر:

- ‌الأبراج:

- ‌الطرق:

- ‌أثاث البيوت:

- ‌وسائل الركوب:

- ‌آداب المجالس:

- ‌التحية:

- ‌ثقال الناس:

- ‌الصلف:

- ‌المجالس:

- ‌تنظيف الأجسام:

- ‌الخدم والخصيان:

- ‌الحياة الليلية:

- ‌الخصومات:

- ‌قتل الوقت:

- ‌اللباس:

- ‌المأكل والمشرب:

- ‌الذبح:

- ‌الضيافة والأضياف:

- ‌المتطفلون:

- ‌المعاقرة:

- ‌مبرات جاهلية:

- ‌مياه الشرب:

- ‌طرق معالجة الماء:

- ‌الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأفراح وأتراح

- ‌مدخل

- ‌الوأد:

- ‌الأفراح:

- ‌اللعب في العيد:

- ‌الغناء:

- ‌آلات الطرب:

- ‌أصول الغناء الجاهلي:

- ‌الرقص:

- ‌ألعاب مسلية:

- ‌القمار:

- ‌الأسفار:

- ‌مواسم الربيع:

- ‌البغاء:

- ‌صواحب الرايات:

- ‌المخادنة:

- ‌المضامدة:

- ‌الشذوذ الجنسي:

- ‌الأتراح والأحزان:

- ‌نعي الميت:

- ‌القبر:

- ‌ملابس الحزن:

- ‌الفصل الثاني والخمسون: الدولة

- ‌مدخل

- ‌أصول الحكم:

- ‌المكربون:

- ‌الملك:

- ‌الأمراء:

- ‌السادات:

- ‌علائم الملك:

- ‌مظاهر التتويج:

- ‌التيجان:

- ‌القصور:

- ‌الحكم وأخذ الرأي:

- ‌في أخلاق الحكام:

- ‌الراعي والرعية:

- ‌تحية الملك:

- ‌دور الندوة:

- ‌دار الندوة:

- ‌الملأ:

- ‌المشاورة:

- ‌حكم سادات القبائل:

- ‌حكم الملوك:

- ‌أصول التشريع وسن القوانين:

- ‌حكومات مدن:

- ‌الفصل الثالث والخمسون: حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل

- ‌مدخل

- ‌حقوق الملوك:

- ‌بيت المال:

- ‌أموال الدولة:

- ‌أموال الملوك:

- ‌الأوقاف:

- ‌سمات الملك:

- ‌اتجار الملوك وسادات القبائل:

- ‌غنائم الحروب:

- ‌الإقطاع والإقطاعيون:

- ‌حقوق سادات القبائل وامتيازاتها:

- ‌الحمى:

- ‌دواوين الدولة:

- ‌صاحب السر:

- ‌الموظفون:

- ‌الكبراء:

- ‌الأقيان:

- ‌الأقيال:

- ‌بطانة الملك:

- ‌إدارة المملكة:

- ‌موارد الدولة:

- ‌الأشناق والأوقاص:

- ‌تقدير الغلات الزراعية:

- ‌الركاز:

- ‌النذور والصدقات:

- ‌السخرة:

- ‌واجبات الدولة:

- ‌البريد:

- ‌حماية الحدود:

- ‌ضرب النقود:

- ‌قواعد السلوك:

- ‌العلاقات الخارجية:

- ‌صكوك المسافرين:

- ‌فهرس الجزء التاسع:

الفصل: ‌أصول التشريع وسن القوانين:

‌أصول التشريع وسن القوانين:

لا نملك اليوم نصوصًا في أصول التشريع وقواعده عند الجاهليين. إذ لم يعثر على نص خاص بهذا الموضوع. غير أن في بعض النصوص إشارات عابرة، يمكن أن نستنبط منها شيئًا عن قواعد التشريع عند العرب قبل الإسلام. وفي جملة هذه النصوص بعض النصوص القتبانية، ومنها النص الموسوم بـGlaser 1606.

والعرب من الشعوب التي تميل إلى الأخذ بالرأي، واستشارة ذوي الرأي والخبرة والسن. فنجد سيد القبيلة يستشير سادات القبيلة ووجوهها في الأمور الخطيرة التي تقع لقبيلته. كما نجد المدن والقرى تستنير برأي أولي الأمر في المشكلات التي تقع لها، لحلها وفقًا لما يستقر عليه رأي ساداتها. وفي العربية الجنوبية نجد للقبائل مجالسها كذلك، حيث يجتمع أصحاب الرأي في القبيلة، للنظر فيما يقع لقبيلتهم من أمر نابه وقضايا خطيرة يجب أخذ الرأي فيها. وكان للملوك مستشارون يستشارون في القضايا التي يعرضها الملك عليهم، بالإضافة إلى "المزاود" والمجالس الأخرى.

وقد استشار الملوك أصحاب الأرض من طبقة "طبنن""الطبن". والمستشارين الذين عرفوا بـ"فقضت" و"بتل"1، كانوا يجمعونهم لأخذ رأيهم في أمور الأرض وفي مسائل أخرى. كما استشاروا كبار رجال المعابد من درجة "رشو" و"شوع"2. وكان لرأي هؤلاء أهمية كبيرة بالنسبة للملوك، لما كان لهم من نفوذ وكلمة في المجتمع.

ولم يكتف الملوك بأخذ رأي الطبقات المذكورة عند إقرار قانون، بل كانوا يرسلون آرائها ووجهة نظرها إلى مجالس القبائل وإلى سادات ووجوه المدن والقرى والمستوطنات للوقوف عليها ولبيان رأيهم فيها، وذلك في القضايا العامة التي تشمل

1 Glaser 1606، Arabien، S. 128

2 Arabien، S. 127

ص: 241

كل الدولة، مثل تنظيم أمور استثمار الأرض وفرض الضرائب والقوانين التجارية، لتدرس وتعالج على ضوء مصالح كل المتنفذين من ذوي الرأي والجاه في المملكة، على قدر الإمكان، وليكون في الإمكان تطبيقها وتنفيذها دون كبير اعتراض.

ومتى جاء رأيهم ووقف الملك على كل الآراء وأحاط علمًا بها، عمل برأيه فيها واتخذ قرارًا باتًّا بموجبها. ويعبر عن اتخاذ قراره هذا بلفظة "جزمن" أي:"الجزم".

جزم الملك برأيه وإمضائه لإصدار ذلك القانون. ويأمر عندئذ بتدوينه، ويعبر عن ذلك بجملة "سطرن ذت يدن"، أي:"وقد كتب القرار بيده"، كناية عن أنه أمر بنفسه بتدوينه ونشرهن فكأن يده ذاتها قد سطرته. وقد تدون جمل أخرى في هذا المعنى، مثل "تعلمه ذت يدن" و"تعلمه يدن" أي ووقعه بيده. بمعنى أمضاه وختمه بختمه، وذلك على ما يفعل رؤساء الدول من التوقيع تحت نص القوانين والأوامر، لإكسابها صبغة رسمية. وتذكر بعد اسم الملك أسماء بعض رجال الحاشية وكبار السادات وأعضاء المزاود، ممن يكونون قد ساهموا في إصدار القانون. ولهم قوة تنفيذية في المملكة. على نحو ما نفعل من ذكر اسم رئيس الوزراء والوزراء المختصين ممن لهم علاقة بتنفيذ القانون بعد اسم رئيس الدولة، دلالة على موافقتهم عليها، وإقرارهم لها.

وبعد الانتهاء من موافقة الملك عليه بتثبيت اسمه عليه يدون وتحفظ نسخًا منه في خزائن الحكومة للرجوع إليها، ويقرأ القانون على الناس للاطلاع عليه. ثم يكتب على أحجار تثبت في جدر الساحات الكبيرة التي يتجمع فيها، لا سيما ساحات أبواب المدن والقرى التي تكون عند المداخل، وهي ساحات الإعلان1 ويكون القانون بذلك ملزمًا واجب التنفيذ، وعلى موظفي الحكومة والرعية العمل بما جاء فيه.

وفي حالات سن القوانين التي تخص قبيلة واحدة أو مكانًا معينًا، يجتمع المجلس الاستشاري "المزود" لتلك القبيلة أو المكان، ثم يتداول في الأمر.

وقد يحضره الملك بنفسه. وقد يحضره ممثل أو ممثلون عنه. وإذا اتخذ المجلس قرارًا في أمر ما، فله الحق بإصداره باسم الملك، كما أن له الحق بإصداره باسمه، أي: باسم المجلس الاستشاري الذي اتخذ القرار. وإذا صدر باسم الملك

1 Arabien، S. 128

ص: 242

دلّ ذلك على أنه قانون رسمي وافقت الدولة عليه، أما في حالة إغفال الإشارة إلى اسم الملك في القرار، فإن ذلك يدلّ على أنه قانون خاص خصص بالموضع الذي أصدر المجلس قراره فيه. وتطبق أحكامه عليه وحده.

ومن حق المجالس إقرار القوانين القديمة وتثبيتها، كما أن لها حق إلغائها أو تعديلها، ويصدر قرارها بقانون. ومن حقها أيضًا العفو عن المحكوم عليهم، عفوًا كليًّا أو جزئيًّا. وتنظيم حقوق الأرض بقوانين يصدرها عند الحاجة وحسب مقتضيات الأحوال1.

ومن الصعب علينا في الوقت الحاضر تثبيت أسماء الهيئات المشرعة في العربية الجنوبية، أي: الهيئات التي كان من حقها سن القوانين ووضع الأنظمة. لأننا نجد في نصوص المسند أسماء مؤسسات سنّت قوانين ووضعت أنظمة في جباية الضرائب وفي تنظيم معاملات البيع والشراء والأرض. مثل "ذو عهرو""عهرو" في قبيلة "فيشن""فيشان" من قبائل سبأ و"مسخنن""مسخنان" في سبأ كذلك. ومؤسسات أخرى لا نعرف الآن من أمرها شيئًا يذكر. يظهر أنها كانت مجالس ومؤسسات ذات طابع محلي تشمل صلاحيتها الموضع الذي تكون فيه وكان من حقها تشريع ما ترى ضروريًّا بالنسبة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المكان2.

ويستنبط من تعدد المجالس والجمعيات ومن الأعمال التي قامت بها، أن الحكم في العربية الجنوبية قبل الميلاد كان حكمًا قريبًا من الحكم "الديمقراطي" الشعبي. وأن سلطات الملوك كانت مقيدة ببعض القيود، فلم يكن الملك يصدر أمرًا إلا بعد أخذ رأي المجالس المختصة واستشارتها وأخذ موافقتها. والمجالس المذكورة وإن كانت في الواقع مجالس كبار أصحاب الأرض وأصحاب الجاه والنفوذ، ولا رأي لسواد الناس فيها، وكان للملوك نفوذ عليها ودخل في قراراتها، ولا سيما الملوك الكبار أصحاب الشخصية، إلا أن وجودها على تلك الصورة وعلى هذا النحو من الحكم، هوخير بكثير من عدم وجودها ومن حكم لا يستند على أي مجلس ولا على أية استشارة أو رأي، كما كان الوضع عند

1 Handbuch I، S. 125

2 Handbuch، I. S. 128

ص: 243

بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكمًا فرديًّا تعسفيًّا، لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب.

ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريبًا، ثم تبدل وتغير.

فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبرًا. ويظهر أن العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للأخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشًا كثير العدد غزوا به أمارات والمخاليف، ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحد بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف".

ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الإقطاع بالحكم، هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأقيال والأذواء وذوي الإقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدو قوة اعترف الملوك بها، فأشاروا إليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم.

وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه إليهم، ببراعة ودهاء فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفسح لهم المجال للغزو والسلب والنهب، ومن يزيد على غيره في إعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إلى أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطربًا قلقًا. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق "بال" الحكومات والرعية، وجعل الناس

ص: 244