الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة
الحمد لله منزِّلِ القرآن، معلِّمِ الإنسان البيان، باعثِ محمَّد إلى كافَّة الخلق من إنسٍ وجان، نحمده ما تعاقبت الأزمان، وخُطَّ كلامٌ بقلم وبنان، والصلاة والسلام على خير رسل بني الإنسان، من ملك أزمَّة اللغة وخُطُم البيان، أفصح من تكلَّم وبلَّغ وأبان، وعلى آل بيته وأصحابه الضاربين بسهام الخير في كل سباق وميدان.
وبعد؛
فتعدُّ مرحلة الطفولة والصغر من أهمِّ مراحل الحياة الإنسانية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لما لها من أثر بالغ في حياة الأمة والمجتمعات في المستقبل، فالصغار لَبِناتٌ يقوم عليها بناء المستقبل؛ لأنهم سيمثلون القوة البشرية التي يُعتمَد عليها في البناء الحضاري، لذا أصبح من مسلَّمات عصرنا الحاضر: الاهتمام بهذه المرحلة العمرية، والعناية بها، والرغبة الأكيدة في الوصول إلى أفضل السبل التي تساعد على وضع الأسس السليمة لتربية الصغار.
ومما يزيد هذه المرحلة خطورة وأهمية: أنها إحدى المحطات الهامة التي تُبنى فيها شخصية الفرد، ففيها تُرسَم الخطوط الكبرى لما سيكون عليه الإنسان في المستقبل، حيث أكَّدت الدراسات النفسية على أهمية السنوات الأولى في حياة الفرد، لكونها تلعب دورًا هامًّا في تشكيل شخصيته، وتكوين اتجاهاته، وميوله، ونظرته للحياة، ويتم فيها وضع غالبية الأسس للجوانب التربوية المختلفة، كما أكَّدت تلك الدراسات على أنَّ كثيرًا من الانحرافات التي تظهر في الكبر ترجع إلى ما تعرَّض له الفرد في مواقف الحياة أثناء مرحلة الطفولة
(1)
!
وفي هذا المعنى يقول صالح بن عبدالقدوس:
وإن من أدَّبتَه في الصِّبا
…
كالعود يُسقى الماءُ في غرسه
حتى تراه مُوَنَّقًا ناضرا
…
بعد الذي أبصرتَ من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه
…
حتى يُوَارَى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله
…
كذا الصبا عاد إلى نكسه
(2)
ومن هنا: غَدَت العناية بالصغار اليوم معيارًا من المعايير التي يُقاس بها مدى تقدم الأمم، فأُنشئت منظَّمات محلية، وإقليمية، ودولية
(1)
عبدالمحسن عبدالعزيز حمادة، «أسس تربية الطفل في الخليج العربي» ، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، العدد (28) سنة 1981 م، (ص/ 89).
(2)
ابن عبدالبر، «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 370)، قال:"أنشدني غير واحد لصالح بن عبدالقدوس في شعر له:" فذكره.
لرعايتها، وتوفير المقومات الأساسية التي تكفل وقايتها، وتغذيتها، ونموها، وعلاجها.
وإذا كانت كل الأمم تُعنَى بالأطفال؛ فإنَّ الإسلامَ أشدُّ عنايةً بهم، فهو الدين الوحيد الذي نطق كتابه المقدَّس بأنَّ الله عز وجل قضى أن يجعل في الأرض خليفة، وأنَّ هذا الخليفة هو الإنسان الذي كرمه الله وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، ورَسَمَ القرآن خطى حياته الجسدية: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم مخلوقًا سويًّا، ورسم خطى حياته النفسية، التي تبدأ من حين إخراجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ثم يكتسب معارفه عن طريق الحواس، ثم يرتد إلى أرذل العمر لا يعلم شيئًا!
ولذا كانت حفاوة الإسلام بالطفل عظيمة، من قبل أن يُولَد، ومن بعد ولادته، فكانت التشريعات التي تُنظِّم حقوق الطفل من جميع النواحي، حتى يشبَّ على ما أراد له الإسلام من أقصى درجات الكمال البشري الممكن؛ ليكون -بحقٍّ- لَبِنةً في بناء صرح الإسلام
(1)
.
وقد حدَّد القرآن الكريم في آياتٍ متعدِّدةٍ حقوقًا للطفل، ودعا إلى احترامها وحمايتها؛ كحقِّه في الحياة. قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}
(2)
، وخصَّه بعدَّة حقوق
(1)
أحمد العيسوي، «إتحاف أولي الألباب، بحقوق الطفل وأحكامه في سؤال وجواب» (ص/ 9).
(2)
سورة الإسراء (31).
ما دام لم يبلغ سنَّ الرشد؛ كحقه في الرضاعة، والحضانة، والولاية، كما خصَّ الطفل المحروم؛ كاليتيم، واللقيط، وذي العاهة، بحقوق إضافية، وأحاطه بأنواع من الكفالة المادية، والمعنوية، لتضمن تربيته تربية صالحة.
وبالرغم مما صدر حتى الآن من اهتمامات خاصة بحقوق الطفل، على الصعيدين الدولي والمحلي؛ إلا أن الطفولة الإسلامية تمر حاليًا بمرحلة لا تُحسدُ عليها، حيث تمر بأزمات تربوية نتيجة للتغيرات الثقافية والحضارية الجديدة السريعة والمتلاحقة، ونتيجة للتغيرات في الأدوار داخل الأسرة والمجتمع، ولقد جاءت النتائج تؤكِّد صحة هذا، فقد أوضحت أبحاث الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية أن الطفولة المعاصرة تعاني من مشكلات مختلفة؛ مصدرها: تواجد هذه الطفولة في مجتمع ينغمس في موجة زاحفة من التبدل المادي السريع والمستعار، وما يصاحب ذلك من تحولات نفسية وأخلاقية
(1)
.
ومن هنا: وجب على الآباء والمربين والقائمين على أمر تربية الأولاد والصغار أن يُولوا هذا الموضوع اهتمامًا أكبر، وعناية أوفر، وذلك بالاطلاع على ما يستجد من دراسات، وما تناله اليد من أطروحات وإحصائيات؛ ليكون الأمر متمَّما على قواعدَ متينة، وأسسٍ رسيخة، نرجوا من ورائه بناءً سامقًا، وشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ فتؤتي أكلها كل حين.
(1)
محمد جواد رضا، «الطفولة في مجتمع عربي متغير» (ص/ 5).
* ومن جوانب الفخر والاعتزاز أن نقول: إنه مع ما بلغته عقولُ البشر من تطوُّر في الفكر وأدواته ووسائله؛ فلا يزال تراث الأمَّة الإسلامية يُشكِّل مخزوناً هائلاً يجترُّ منه أهله المنتسبون إليه، وينهل منه المحبُّون له، ليس في الأفكار فحسب؛ بل أيضاً في طريقة التربية، والتوجيه، والتعليم، ووسائل ذلك.
لذا فالدعوة إلى الانقطاع عن تراث الأمة وأصولها، ليست دعوةً مقبولة، لا في السياق العقلي ولا الشرعي، كما أن نقيضتها على الطرف الآخر من دفن الرأس في الرمال، وغضِّ الطرف عن آخر ما توصل إليه المتخصِّصُون في هذه الأبواب؛ تشابهها في الحكم عليها، والانفضاض عنها، وإنما الدعوة التي نرجوها: التوسُّط في الأمر، عن طريق مواكبة العصر بأصولنا الإسلامية، لتتلاقح الأفكار، ويجني صغارُنا الثمار. والحكمة ضالُّة المؤمن، أنَّى وجدها؛ فهو أحقُّ بها.
لكن: ثمَّ سؤال قد يراود الأذهان؛ وهو: هل دَرَسَ الصَّحْب والآل والسَّلف علوم التربية هذه ووسائلها التي نتحدَّث عنها، حتى نأخذ عنهم، ونستفيد من تجاربهم؟!
والجواب: أنهم حققوا النموذج العملي الراقي في كل مجالات الحياة، وليس فقط في مجال التربية، لكن الأمر كما في علم النحو والصرف، واللغة والبيان والبديع، وغيرها، أن السَّلف لم يدرسوا النحو والصرف وغيره، ومع ذلك كانوا أفصح الناس؛ لأن ذلك كان عندهم
بالسليقة، وبالاستعدادات الفطرية، بجانب تهذيب الوحي الشريف لهم، كذلك التربية، هم مارسوها بالفعل؛ لكن ضبط هذه الأشياء وتبسيطها وتقنينها لا يمكن أن يتصادم مع هذا
(1)
.
ومن شواهد هذا الجواب وأدلته: ما نجده في سيرهم وتراجمهم، من أقوال وأفعال وتقريرات، تدل على اهتمامهم بالأمر؛ ومن ذلك:
* قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا}
(2)
.
قال: «علموهم وأدبوهم» ، وفي رواية:«علموا أنفسكم وأهليكم الخير»
(3)
.
وترجم ابن أبي الدنيا لهذا الأثر بقوله: «باب تعليم الرجل أهله، وتعليم ولده، وتأديبهم»
(4)
.
(1)
محمد إسماعيل المقدم، «محو الأمية التربوية» ، سلسلة محاضرات مفرَّغة.
(2)
سورة التحريم (6).
(3)
في إسناده ضعف: أخرجه عبدالرزاق (4741)، والحسين بن حرب في «البر والصلة» (189)، من طريق منصور بن المعتمر، عن رجل، عن علي؛ به.
وهذا إسناد ضعيف، لإبهام الراوي عن علي.
وقد أخرجه الحاكم (3826) -وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (8331) - من طريق عبدالرزاق؛ فسمى ذلك المبهم: ربعي بن حراش، وهذا لو صحَّ: لكان الإسناد مقبولًا صحيحًا.
لكن الراجح عندي أن هذا وهم أو تصحيف، لأنه من غير طريق عبدالرزاق بالإبهام أيضًا. والله أعلم.
(4)
ابن أبي الدنيا، «العيال» (1/ 491).
* وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان، فكان عمر يرزق كل واحد منهم خمسة عشر درهمًا كل شهر»
(1)
.
* وابنه عبدالله بن عمر رضي الله عنه ينصح رجلًا ذات يومٍ مؤكِّدا على أهمية التربية والتأديب؛ فيقول له: «أدِّبْ ابنك فإنك مسئول عن ولدك، ما علمته؟ وهو مسئول عن برِّك وطاعته لك»
(2)
.
* وكان سعيد بن العاص رضي الله عنه يقول: «إذا علمتُ ولدي، وزوَّجتُه، وأحجيتُه؛ فقد قضيت حقَّه، وبقي حقي عليه»
(3)
.
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (20835)، والبيهقي (6/ 206)، من طريق صدقة بن عبدالله السمين الدمشقي، عن الوضين، عن عمر؛ به.
وصدقة هذا قال عنه الحافظ في «التقريب» (2913): "ضعيف". كما أن شيخه الوضين لم يدرك عمر!
(2)
صحيح لغيره: أخرجه البيهقي (3/ 120)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 176)، من طريق عثمان بن إبراهيم الحاطبي، عن ابن عمر؛ به.
وهذا إسنادٌ حسن لأجل بعض الكلام في عثمان، كما في «لسان الميزان» (5/ 373)، لكنه لا ينزل بالأثر إلى الضعف، خاصَّة وقد وُجد له طريق آخر عند ابن أبي الدنيا في «العيال» (334) من طريق سعيد بن محمد الثقفي، عن عنبسة بن عمار، عن ابن عمر؛ به. والثقفي وإن كان ضعيفًا، كما في «التقريب» (2387)؛ إلا أنه يصلح هنا في تقوية الطريق الأول.
(3)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (26319)، وابن أبي الدنيا في «العيال» (170، 312)، من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال سعيد؛ به.
وهذا إسناد رجاله ثقات؛ خلا طلحة هذا، فقد قال عنه الحافظ في «التقريب» (3036):"صدوق يخطئ".