الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبدالملطلب رضي الله عنه، كان يرى احتفاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بابنه عبدالله بن عباس رضي الله عنهم، فأراد له أن تدوم هذه المنزلة عنده، فنصحه وقدَّم بين يدي النصيحة بسببها، وعاقبتها؛ فقال له يومًا:«يا بني! إني أرى أمير المؤمنين يقربك، ويخلو بك، ويستشيرك مع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عني ثلاثًا» ، ثم أوصاه بثلاث؛ كان منها:«ولا يجرِّبن عليك كذبة» .
حدَّث ابن عباس لاحقًا أصحابه من التابعين بهذه الوصية، فاستملحها عامر الشعبي؛ فقال لابن عباس: يا أبا عباس! كل واحدة خير من ألف.
قال ابن عباس: «نعم، ومن عشرة آلاف»
(1)
.
-
ثالثًا: خُلُق حفظ الأسرار:
عادة ما ينشأ الصغير الذي تعوَّد على كتم الأسرار قويَّ الإرادة، رابط الجأش، ضابط اللسان، وبهذا تنشأ الثقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، بحفظ أسرار بعضهم البعض
(2)
.
ولأهمية هذا الخُلُق: فقد اعتنى الصحب والآل بتربية صغارهم
(1)
في إسناده ضعف يسير: أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (1862)، وهناد في «الزهد» (2/ 566) من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن ابن عباس؛ به.
ومجالد قال عنه الحافظ في «التقريب» (6478): "ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره".
(2)
محمد نور بن عبدالحفيظ سويد، «منهج التربية النبوية للطفل» (ص/ 305).
عليه، وحثهم على التمسك به، حتى لو كان ذلك بكتم السر عنهم هم أنفسهم.
لأنه كان خادمه، ويقضي له كثيرًا من حوائجه، ويرسله في طلبات له ولآل بيته، اطَّلع أنس بن مالك رضي الله عنه الصبي الصغير على بعض أسراره صلى الله عليه وسلم، لكن إلى أي مدى يكتم أنس هذه الأسرار؟ وحتى متى لا يُحدِّث بها؟ لِنَدع الجواب لأنس نفسه:
يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، حتى إذا رأيت أني قد فرغت من خدمته، قلت: يقيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت متوجها إلى أهلي، فمررت بغلمان يلعبون، فأعجبني لعبهم، فقمت على الغلمان، فانتهى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم على الغلمان، فسلَّم على الغلمان، ثم أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، في فيء حتى أتيته، فرجعت إلى أهلي بعد الساعة التي كنت أرجع إليهم فيها، فقالت لي أمي: ما حبسك اليوم يا بني؟
فقلت: «أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له» .
فقالت: أي حاجة يا بني؟
فقلت: «يا أمَّاه! إنها سِرٌّ» .
فقالت: يا بني! احفظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سِرَّه.
أنْعِم بأمِّ سليم من أُمٍّ تربي صغيرها على حفظ السر، حتى عن نفسها،
فعلمنا بهذا إلى أي مدى حفظ الصبي السر، لكن حتى متى؟ أيفشيه بعد وفاة صاحب السر؟ أم بعد وفاة أمه؟
لقد سمع ثابت البُناني تلميذ أنس بن مالك هذا الحديث منه، فانتابه الفضول لمعرفة هذا الذي كتمه عن أمه؛ فقال له: يا أبا حمزة، أتحفظ تلك الحاجة اليوم أو تذكرها؟
قال أنس: «إي والله، وإني لأذكرها، ولو كنت محدِّثًا بها أحدًا من الناس لحدثتك بها يا ثابت»
(1)
! فانقطع الأمل عن ثابت أن يعرف هذا السرَّ، الذي دُفن مع أنس يوم مات!
يقول الحافظ ابن حجر: "قال بعض العلماء: كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه"
(2)
.
لم يربِّ الصحب والآل صغارهم على حفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما كان ذلك على حفظ السرِّ عمومًا، مع كل من يختصهم به، ويعلمونهم بأثر هذا في الدنيا قبل الآخرة.
في وصية العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه لابنه عبدالله، التي سقنا طرفًا منها منذ قليل، بعد أن ذكَّره بنعمة الله عليه، أن فتح له قلب أمير المؤمنين عمر، فصار الأخير يدنيه ويقربه، وينزله منزلة ليست لغيره؛
(1)
متَّفق عليه: أخرجه البخاري (6289)، ومسلم (2482)، وأحمد (13022، 13380)، وهذا لفظ أحمد.
(2)
ابن حجر، «فتح الباري» (11/ 82).