الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد جَرَت العادة في أهل كل دينٍ وملَّة وجيل وأهل نحلة بطلب الكُفاة في باب النكاح والإنكاح، وجَعَل الدينُ هذا شريعةً من الشرائع؛ كلُّ ذلك: طلبًا لنجابة النَّسل، وتخيُّرًا للطروقة والفحل، وضنّا بالنجابة التي في النِّجار
(1)
أن تنتقل إلى غيره، وهربًا من تدنيس النسب
(2)
.
ولقد وعى الصَّحبُ الكرام هذه المسألة، فاعتنوا بها، وأعطوها حقَّها، حتى أنَّ العَيْنَ لا تخطئ ذلك النموذج الفريد لهذا الشاب الأنصاري الذي قدَّم الاختيار بعقله على مشاعره وعواطفه، مراعاة لأمر التربية والتنشئة؛ ذلك الشاب هو:
جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه
-:
في أثناء عودته من إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحرَّكت به أشواقه، ولو تُرك العنان لها لسبقت جميع من حوله، لكن قعدت به ناقته، حتى لحق به النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابت بركته الناقة؛ فسابقت أشواق جابر إلى المدينة، فاستفسر منه النبي صلى الله عليه وسلم عن سر هذا الشوق والإسراع؛ فأجابه جابر بأنه: حديثُ عهدٍ بعُرس.
سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن حالة من تزوَّجها: «بكرًا؟ أم ثيِّبًا؟»
قال جابر: بل ثيِّبًا.
(1)
النِّجار -بكسر النون وبضمِّها-: الأصل، والحسب.
(2)
الماوردي، «نصيحة الملوك» (ص/ 164).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فهلّا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟»
(1)
.
وكانت المفاجأة!
لم يكن جابرٌ بغافلٍ عن مزايا البكر عن الثيِّب، لكنه كان يحمل همَّ تربية بناتٍ صغيراتٍ، ويعلم ما للثيِّب من مزيِّةٍ في هذه المهمة عن البكر؛ فكان بين اختيارين: إما أن يُقدِّم متعته وعاطفته في الاختيار، ولو على حساب هؤلاء الصغار، وإما أن يُقدِّم الأنفع لهن ولو على حساب عاطفته، فماذا يفعل؟!
لقد اختار جابرٌ أن يغالب عاطفته، ليُقدِّم المنفعة الأكبر، والأثر الأعظم، ليشابه جابرٌ والده عبدالله، الذي ضحَّى برعاية بناته والبقاء معهنَّ، وهي عاطفة الأبوَّة الشديدة، في مقابل الخروج للجهاد والشهادة في سبيل الله يوم أحد
(2)
.
انتزع جابرٌ نفسَه من هذه الذكريات والنزاعات التي واجهها داخليًّا في سالف وقته ليجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا:
يا رسول الله، إن أبي قُتِل يوم أُحُد وترك تِسْع بنات، جواري صغارًا، كُنَّ لي تسعَ أخوات، فكرهتُ أن أجمع إليهن جاريةً -أي:
(1)
«صحيح البخاري» (5367).
(2)
«صحيح البخاري» (1351).
بكرًا صغيرة- خَرْقاء مِثلَهنَّ
(1)
، فتزوَّجتُ امرأةً تقوم عليهن وتصلحهنَّ
(2)
، تُعلّمهنَّ وتؤدِّبهنَّ
(3)
، تمشطهنَّ وتقوم عليهنَّ
(4)
.
فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم له: «أصبتَ
(5)
، بارك الله لك»
(6)
.
فيا لسعادة جابر، لا لتغلُّبه على شهوته وحظِّ نفسه وإيثار الآجل على العاجل فحسب؛ بل لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على فعله وتصويبه له.
يقول الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث فضيلةٌ لجابر، لشفقته على أخواته، وإيثاره مصلحتهن على حظِّ نفسه. ويُوخذُ منه: أنه إذا تزاحمت مصلحتان؛ قُدِّم أهمهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوَّب فعل جابر، ودعا له لأجل ذلك"
(7)
.
وإذا كان هذا شأنَ فتى من الصَّحْب في الاختيار لتربية بنات صغيرات، لَسْنَ من صُلبه، ولن تقوم الزوجة بالحمل والرضاع، وإنما ستتعاهد التربية والقيام بما يصلحهن؛ فلنا أن نتصور كيف سيكون أحدهم حريصًا أشدَّ الحرص على اختيار من ستحمل النُطفة في رحمها،
(1)
«صحيح البخاري» (4052).
(2)
«صحيح البخاري» (5367).
(3)
«صحيح البخاري» (2406).
(4)
«صحيح البخاري» (4052).
(5)
«صحيح البخاري» (4052).
(6)
«صحيح البخاري» (5367).
(7)
ابن حجر، «فتح الباري» (9/ 123).