الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَبَسٌ نَبَويّ
«إنما بُعثت لأتمِّمَ صالح الأخلاق»
(1)
.
هكذا أعلنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم موجَزَة بليغة، للدنيا كلها، صغيرها وكبيرها، ذكرها وأنثاها، ولم يكتفِ بهذا البيان البديع فحسب؛ بل كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم وتعاملاته مع الجميع مثالًا عمليًّا، وتجسيدًا حيًّا لمقولته، ولم يكتفِ بذلك: حتى نشر تلك الأخلاق وعلمَّها الصغار والكبار.
لما تزوَّج بأمِّ سلمة، كانت ابنتها زينب صغيرة معها، فلربما جاءت أمَّها والنبي صلى الله عليه وسلم عندها يغتسل في بيتها، فتصرفها أم سلمة عنها بإرسالها للنبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب الصغيرة لتدخل عليه وهو يغتسل، فلا تمنعه شفقته عليها، ورحمته بها، من أن يعلمها ويؤدبها على خُلُق الحياء، وهي في هذا السن؛ فينضح الماء في وجهها، ويقول لها:«ارجعي»
(2)
.
(1)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (8952)، والبخاري في «الأدب المفرَد» (273)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي إسناده محمد بن عجلان، حكم عليه الحافظ في «التقريب» (6136) بأنه:"صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة". والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (45).
(2)
إسناده حسن: أخرجه ابن منيع كما في «إتحاف الخيرة» (7/ 67)، والطبراني في «المعجم الكبير» (24/ رقم 715)؛ من طريق عطَّاف بن خالد المخزومي، عن أمه، عن زينب بنت أم سلمة؛ به.
وعطَّاف هذا قال عنه الحافظ في «التقريب» (4612): "صدوق يهم"، وأُمُّه وثَّقها ابن معين، كما في «تاريخه، رواية الدارمي» (617).
فانتفعت بتعليمه، ونضحه؛ فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت
(1)
!
وفي بيت أم سلمة: لا يزال تعليمه للصغار قائمًا، فكان للصبي كما كانت للفتاة نصيبٌ من تهذيب الأخلاق وغرسها، فهذا عُمر بن أبي سلمة، أخو زينب، يجلس على الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يتعلَّم كيف يأكل في وجود الكبار، وما الآداب التي ينبغي أن يراعيها، فكانت يده تطيش في الصَّحفة، ويأكل من نواحيها، فجاد النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالتعليم، ولم يمنعه صغر سنه من أن يوجهه؛ فقال له:«يا غُلام! سمِّ الله، وكُل بيمينك، وكُل مما يليك» .
فانتفع عمر بتلك النصيحة باقي عمره كله؛ حتى أنه ذكر ذلك لما بلغ وقال: فما زالت تلك طِعْمتي بعد
(2)
.
ولم يكن اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتعليم الصغار وتوجيههم خاصًّا بأهل بيته، أو من هم في حِجْرِه، بل كان كل من يقابله أو يعرض له، وتسنح الفرصة بالتربية والتوجيه؛ لا يتأخر عنه بشيء.
(1)
ابن عبدالبر، «الاستيعاب» (4/ 1855).
(2)
متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
هذا غلامٌ من غلمان الأنصار، شأنه شأن الصغار، لا يكترث بأفعاله وتصرفاته، ويفعل ما يحلو له ويخطر بباله، يتحرك في بساتين المدينة، فإذا ما أحسَّ بجوع؛ التقط الحجر، ورمى النخل، فأسقط ما أسقط من التمر، وأكل!
ضاق به أصحاب البساتين، فأخذوه وانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف واجه تلك المشكلة؟
لم يقل للشاكين والمتضررين: إنه غلامٌ صغير، لا يفقه، دعوه حتى يكبر! لا، لم يفعل.
ولم يعنِّف الغلام على سوء فعله، وجنايته على حق غيره، بلا مراعاة لسنِّه، لا، لم يفعل.
وإنَّما نَظَر إلى الغلام الصغير، وسأله في رفق أمام من أحضروه:«يا رافع! لم ترمي نَخْلَهم؟» فأجاب الغلام ببراءة وعفوية الصغار: الجوع يا رسول الله، أريد أن آكل. فنصحه بما يسدُّ حاجته، ولا يؤذي غيره؛ فقال له:«فلا ترمِ النخل، وكُلْ ما يسقط في أسافلها» .
هكذا أدَّبه بعدم التعدِّي على حقِّ غيره، وسمح له بما تحتاج إليه نفسه، ولم يكتفِ بذلك؛ بل أَشْعَره مع النصح، بالشفقة والحب؛ فمسح رأسه، ودعا له:«اللهم أشبع بطنه»
(1)
.
(1)
في سنده مقال: أخرجه أحمد (20343)، وابن ماجه (2299)، وأبو داود (2622)، والترمذي (1288)، وقال:"هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب".
وللحديث طريقان في كل منهما مقال، ولذلك ضعَّفه الألباني في «ضعيف أبي داود» (2/ 327 - 328).
وحكم عليه مُحقِّقوا المسنَد (33/ 452) أنه قابلٌ للتحسين، وهو كما قالوا، والله أعلم.
نعم، لم تكن لتمنعه عاطفة المحبة والشفقة على الصغار، من نصحهم، وتوجيههم، بل ووَسْمهم ببعض ما يُشعرهم بخطئهم، حتى لا يصير ذلك النقص خُلُقًا لهم بعد بلوغهم، وهذا عكس ما يقع فيه بعض المربِّين؛ من إيثار ما يهواه صغارهم، ولو على سبيل أخلاقهم!
ها هو صلى الله عليه وسلم يُهدَى إليه ذات يومٍ عنبٌ من الطائف، وصادف هذا أن كان عنده صغير من صغار الصحابة، وهو: النعمان بن بشير رضي الله عنه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قِطْفًا له، وأرسل معه بآخر لأمه عَمْرة، وذاق الصبي العنب فأعجبه، فأكل نصيبه وأنهاه قبل أن يصل إلى أمِّه، فحدَّثته نفسه أن يأكل الآخر، واستحضر شفقة أُمِّه، ولم يستحضر وصية نبيِّه!
بعد أيام، لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْرة أمَّ النعمان، فسألها عما أرسل إليها مع ابنها، ففاجأته بأنها لم يصلها شيء!
فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليستوثق منه، ولعلَّ له عذرًا فيخبر به؛ فقال له:«هل بلَّغتَ» ؟
فأجابه الصغير -على استحياء- وقد ذهبت عنه شفقة أمه، ولم
يجد إلا غدره بعهد نبيِّه فيما عهد به إليه: لا!
كذا جاء جوابه مختصرًا، لا يحمل سببًا ولا عذرًا؛ ففهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع الصبي، فأراد أن يلقنه درسًا ينفعه سائر حياته بعد ذلك؛ فأخذ بأذنه، وقال له: «يا غُدَر
(1)
، يا غُدَر»
(2)
!
لقد أشفق صلى الله عليه وسلم على الصغير أن يكون أمينًا، أعظم من إشفاقه عليه أن يحرم من عنقود اشتهاه، فانتفع بذلك طوال حياته، وحدَّث به.
هذا القبس النبوي في تربية الصغار؛ أشعل منه الصحب والآل فتيل تعاملهم، فأوقد لهم في طريق التربية الأخلاقية مشاعل وسُرجًا، بها اهتدوا، وعلى أضوائها ساروا؛ فأخرجوا جيلًا حسن الأخلاق، حُقَّ له أن يخلف جيلهم، ليتلوه في الأفضلية، كما تلاه في الزمن والتبعية. وفيما يلي صور ونماذج من تعاملهم في هذا الباب مع صغارهم.
(1)
من الغدر، وهو: ترك الوفاء.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3368)، وفي إسناده عبدالرحمن بن عِرْق، قال عنه الحافظ في «التقريب» (3951):"مقبول".
وأخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (1487) من طريق آخر، وفي إسناده سليمان بن سلمة الخبائري، متروك، وله ترجمة سيئة في «لسان الميزان» (2/ 209).