الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَبَسٌ نَبَويّ
يُعدُّ بناءُ العبادة مكمِّلًا لبناء العقيدة، فالأولى تغذي الثانية بروحها، بل:"لابُدَّ لكي يظل غرس العقيدة قويًّا في النفس، من أن يُسقَى بماء العبادة، بمختلف صورها وأشكالها، وبذلك تنمو العقيدة في الفؤاد، وتترعرع، وتثبت أمام عواصف الحياة وزعازعها"
(1)
. فالعبادة هي المنعكس الذي يعكس صورة العقيدة ويُجسِّمها، والطفل عندما يتوجه لنداء ربه، ويستجيب لأوامره؛ فإنما يلبي غريزة فطرية في نفسه، فيشبعها ويرويها.
وتكوين العادة في الصغر أيسر بكثير من تكوينها في الكبر، ذلك أن الجهاز العصبي الغض للطفل أكثر قابلية للتشكيل، وأيسر حفرًا على مسطحه.
أما في الكبر: ففضلًا عن اشتغال الجهاز العصبي بكثير من المشاغل، ووجود مئات أو ألوف من القنوات المتشابكة على سطحه، التي لا تترك من ازدحامها مجالًا كبيرًا للإضافة؛ فإن الجهاز العصبي ذاته يفقد مع الكبر كثيرًا من مرونته الأولى، فيصبح الحفر عليه أشق!
(1)
محمد البوطي، «تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث» (ص/ 40).
ومن أجل هذه السهولة في تكوين العادة في الصغر يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعويد الأطفال على الصلاة قبل موعد التكليف بها بزمن كبير، حتى إذا جاء وقت التكليف كانت قد أصبحت عادة بالفعل، ولم تكن في حاجة إلى إنشائها ابتداء بما يستلزمه ذلك من جهد
(1)
.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في وصية تربوية إيمانية هامَّة: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر»
(2)
.
فمنذ السابعة يبدأ تعويد الأطفال على الصلاة، مع أنهم لن يُكلَّفُوا بها إلا بعد سنوات قد تمتد إلى خمس أو ست، وذلك لتكون هناك فسحة طويلة لإنشاء هذه العادة وترسيخها؛ حتى إذا بلغ الطفل العاشرة، وصار على مقربة من موعد التكليف، فقد وجب أن يكون قد تعوَّدها بالفعل. فإن لم يكن قد تعوَّدها من تلقاء نفسه خلال سنوات التعويد الثلاث؛ فلا بد من إجراء حاسم يضمن إنشاء هذه العادة وترسيخها
(3)
.
لم يكن التعليم القولي، وأسلوب الأمر والنهي، والحزم إذا اقتضى
(1)
محمد قطب، «منهج التربية الإسلامية» (2/ 383).
(2)
صحيح: أخرجه أحمد (6756) وأبو داود (495) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. وأخرجه أحمد (15339)، وأبو داود (494)، والترمذي (407) والحاكم (721، 948) من حديث سبرة بن معبد الجهني.
والحديث صحَّحه الترمذي، والحاكم، والألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 399).
(3)
محمد قطب، «منهج التربية الإسلامية» (2/ 383).
الأمر؛ هو الأسلوب النبوي الوحيد في تعويد الصغار على العبادة، وإنما سنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أسلوبًا آخر، ينتفع به الصغير، قبل حتى أن يبلغ السبع سنين المذكورة؛ ألا وهو: التعليم بالقدوة والمثال.
ها هو صبيٌّ صغيرٌ لم يبلغ، يتحيَّن فرصة لينظر إلى عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة خلوة، علَّه أن يتعلَّم ويستفيد ويطَّلع على ما لم يطَّلع عليه غيره ممن هم في سنِّه أو أكبر منه، وقد ساعده على الوصول إلى ما يريد: ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى بيت خالة الصبي ليبيت عندها، إذ كانت هذه الخالة إحدى أمهات المؤمنين؛ إنها: ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها.
لندع عبدالله بن عبَّاس الصغير وقتها ينقل لنا الصورة التي حُفرت في ذاكرته؛ فنقلها بعد إلى الأمة كلها، والتي لم يصدر فيها أمرٌ ونهيٌ وإنما هي القدوة والمثال فحسب:
يقول ابن عباس: رقدتُ في بيت (خالتي) ميمونة ليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم عندها لأنظر كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وقلتُ لها: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني.
فلما كان في بعض الليل: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضَّأ من شنٍّ مُعلَّقٍ وضوءًا خفيفًا، ثم حرَّكني فقمتُ، ثم قام يصلي، فتمطيتُ كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له، فتوضأت نحوًا مما توضأ، ثم جئت، فقمت عن
يساره، فحوَّلني، فجعلني عن يمينه، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، ثم صلَّى ما شاء الله، ثم اضطجع، فنام حتى نفخ، فأتاه المنادي يأذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة، فصلَّى ولم يتوضأ
(1)
.
لقد طلب ابنُ عبَّاسٍ التعليمَ بالمثل والقدوة، وقد أعانه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأيقظه، وأقامه بجواره، وجعل يؤنسه ويوقظه بفتل أذنه، وقد قيل إن المتعلم إذا تُعُوهِد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه
(2)
.
ومن نفس الباب، باب التعليم بالقدوة والمثال، ومع نفس الصبي الصغير؛ يُريه النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون تقديم الموعظة في يوم العيد للرجال، ثم للنساء إذا لم يسمعن ولم يصلهن كلام الإمام وخطبته.
يقول: عبدالرحمن بن عابس: سمعتُ ابنَ عبَّاس وقال له رجل: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا منزلتي منه، ما شهدته من الصغر، فأتى العَلَمَ الذي عند دار كثير بن الصَّلْت، ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهنَّ، وذكَّرهنَّ، وأمرهنَّ أن يتصدقن، فجعلت المرأة تُهوِي بيدها إلى حلقها، تلقي في ثوب بلال، ثم أتى هو وبلال البيت
(3)
.
(1)
متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري (859)، ومسلم (763).
والسِّياق المذكور هنا بعض ألفاظه في مسلم دون البخاري، ولكن أصل الحديث متَّفقٌ عليه بينهما.
(2)
ابن حجر، «فتح الباري» (2/ 485).
(3)
«صحيح البخاري» (863).
وهذه الأمثلة من العبادات المذكورة؛ كالوضوء، والصلاة، والخطابة، ليس المراد بها هنا الحصر، وإنما المراد: ضرب المثل بذكر طريقة التعليم والتربية.
وجميع آداب الإسلام وأوامره سائرة على ذات النهج، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدِّد لها زمنًا معينًا كالصلاة؛ فكلها تحتاج إلى تعويدٍ مبكِّر، وكلها تحتاج بعد فترة من الوقت إلى الإلزام بها بالحسم إن لم يتعوَّدها الصغير من تلقاء نفسه
(1)
.
حسنًا! نلج الآن إلى ما نمهِّد له؛ وهو: أنه بمثل هذه الطرق والأساليب المستخدَمة في التنشئة الإيمانية، تعامل الصحب والآل مع صغارهم، في مختلف أشكال العبادة؛ كالصلاة، والصيام، والحج، وقراءة القرآن، والدعاء، وغير ذلك، وفيما يلي -إن شاء الله- نستعرض صورًا من هذه النماذج التطبيقية التي وصلت إلينا من سيرهم وأخبارهم.
(1)
محمد قطب، «منهج التربية الإسلامية» (2/ 384).