الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَبَسٌ نَبَويّ
لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم مغلقًا مجلسه، أو قاصرًا تفاعله ومشاعره على الكبار فقط، بل كان للصغار والأطفال من ذلك نصيبٌ وافر، وحظٌّ حاضر، سواء ظهر ذلك بقوله، أو بفعله، أو بإقراره لفعل أصحابه وآله من حوله.
يُعلِّم أصحابه أن الرفق بالصغير، والشفقة عليه خصلة للمسلم لا تنفكُّ عنه؛ فيقول:«ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا»
(1)
.
وكان يُؤتَى بالصغار إلى مجلسه، متفاوتة أعمارهم، مختلفةً اهتماماتهم وتصرفاتهم، فيتحمَّل صلى الله عليه وسلم ما يصدر منهم، ولا تصدُّه هذه التصرفات عن استقبالهم، أو الإفساح لهم في مجالسه، لتخرج تربيتهم وتنشئتهم في محيط اجتماعي مخالطٍ لهم، غير منعزل عنهم.
يُؤتَى عليه الصلاة والسلام بصبيٍّ صغير لم يأكل الطعام، فيجلسه في حجره، والصبي لا يدري شرف من يحمله، ولا قدر من يتعامل معه؛ فبحركة لا شعورية، وطبيعة لا إرادية، يبول الصبي في حجره الشريف صلى الله عليه وسلم، فيا لحَرَج أمِّه!
(1)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد (6733)، وأبو داود (4943)، والترمذي (1920)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (5444).
إلا أنه صلى الله عليه وسلم لا يبدي ضَجَرًا، ولا يُظهِر تأفُّفًا؛ فضلًا عن أن يعاتب أو يلوم، بل في تواضعٍ ولينٍ «يدعو بماء، فينضح مكان بول الصبي، ولا يغسله»
(1)
!
وفي مجلس آخر من مجالسه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، يُؤتَى بثيابٍ فيها خميصة سوداء صغيرة، فيقول:«من ترون أن نكسو هذه؟» فسكت القوم، وترقبوا من سيدعو؟ هل سيدعو أحد أقاربه، وينحله هذه الخميصة لابنته؟ أو يلبسها هو لإحدى بناته؟
لا، لم يفعل، وإنما فاجأهم بقوله:
وقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يعطيها والدَها خالد بن سعيد رضي الله عنه ليكسوَها إيَّاها، لكنه طلب إحضارها في مجلسه، فأُتي بها تُحمَل، وانتظر الجميع أن تنال الصغيرة شرف تسليم النبي صلى الله عليه وسلم لها الخميصة بيده، وأن تنال ابتسامة ونظرة ودعوة منه، لكنَّ كرمَه النبوي كان فوق ما ينتظرون، وعطاءَه فوق ما يطمحون!
لقد فاجأهم أخرى فأخذ الخميصة بيده، فألبسها لأم خالد، وقال:«أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي» ، وكان فيها علم أخضر أو أصفر، فقال:«يا أمَّ خالد، هذا سناه، هذا سناه» -وسناه
(1)
مُتَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري (223)، ومسلم (287).
بالحبشية: حسن-
أحضرها، وبيده الشريفة ألبسها، وبكلامه ودعائه جمَّلها ورفع ذكرها، فطمحت الصغيرة -وحُقَّ لها- فيما هو أكثر، فقامت تدور حوله، ورأت خاتم النبوة، فأطلقت ليدها العنان، لتتحسَّس هذا الذي لم تعهده على أحد، ولتلعب به كعادة الصغار.
أصاب الخجلُ خالدًا والدها، فذهب ينهرها ويزجرها، محاولًا أن يحفظ جانب نبيه الشريف عن عبث الصغيرة، وإن كانت ابنته، لكن مفاجآته لهم جميعًا هذا اليوم لم تنقضِ بعد؛ إذ ختمها بقوله لوالدها:«دعها»
(1)
!
لنا أن نتساءل: إلى أي مدى سيكون هذا الموقف مؤثِّرًا في نفس الصغيرة، فيجعلها تشب متكيِّفة مع هذه البيئة التي احتضنتها؟ بل كيف تأثيره في نفوس الحاضرين من أصحابه، الذين كانوا منذ سنوات قليلة يئدون بناتهم، وبعضهم لا يعبأ بالصغير أصلًا؟!
ومن هذا الحديث والذي قبله: أخذ العلماء فائدة في التعامل مع الصغار، لتُعمَّم بعد ذلك؛ فقال الحافظ ابن حجر:
"ويستفاد منه: الرفق بالأطفال، والصبر على ما يحدث منهم، وعدم مؤاخذتهم لعدم تكليفهم"
(2)
.
(1)
«صحيح البخاري» (3071، 5823، 5993).
(2)
ابن حجر، «فتح الباري» (10/ 434).
كذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا زار أحد أصحابه، ورأى طفله: خاطبه، وداعبه، وشاركه مشاعره، ولم يكن يهمله أو يتجاهله.
يقول أنس بن مالك، خادمه الصغير الذي خدمه عشر سنين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وإن كان ليخالطنا
(1)
، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، قال: أحسبه كان فطيمًا، قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه، قال: «يا أبا عُمَيْر! ما فعل النُّغَيْر
(2)
؟» قال: فكان يلعب به
(3)
.
وكان يرى أحفاده وآل بيته مع الصبيان يلعبون، فلا يُحجِّر عليهم، بل يمازحهم أمامهم، ليكون هذا ماثلًا في ذهن الآباء، فيحرصون على أن يُنشَّأَ صغارهم في جو جماعيٍّ بين الأطفال والصغار ممن هم في مثل عمرهم، غير منزوين أو منعزلين عنهم.
يخرج صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى طعام دُعُوا له، فإذا حسين يلعب مع الغلمان في الطريق، فاستمثل
(4)
أمام القوم، ثم بسط يده وطفق الصبي يفر هاهنا مرة وهاهنا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه، حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى تحت قفاه، ثم أقنع رأسه
(5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع فاه على فيه فقبله فقال: «حسين مني وأنا
(1)
أي: يلاطفنا بطلاقة الوجه والمزح.
(2)
النُّغير: مصغر نغر، وهو طير كالعصفور محمر المنقار، يسميه أهلُ المدينة: البلبل.
(3)
متَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاري (6203)، ومسلم (2150).
(4)
أي: انتصب قائمًا، وقف، من: مثُل يمثُل، قام يقوم.
(5)
أي: رفعه.
من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط
(1)
»
(2)
.
هذا قبسٌ يسير من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالتربية الاجتماعية للصغار، وسيأتي في تطبيقات آله وأصحابه ما يدل على المزيد مما عايشوه معه عليه الصلاة والسلام.
(1)
أي: أمة من الأمم في الخير.
(2)
حسنٌ بطرقه: أخرجه أحمد (17561)، والبخاري في «الأدب المفرد» (364)، وابن ماجه (144)، والترمذي (3775) -مختَصرًا-، وقال:"هذا حديثٌ حسن". وحسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1227).