الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثّالث:
عقيدته
، وأخلاقه، وصفاته
عقيدته:
ليسَ ثمّةَ أدَنى شك يُساورني في أَن شمسَ الدِّين محمَّد بن يُوسف الكِرمانيِّ أشعريُّ المعتقد؛ فقد بدا ذلك واضحًا جَليًّا من خلال كُتبهِ التي ألّفها، ويبدو بروز ذلك بِشَكلٍ ظاهرٍ في مولَّفَين من مؤلّفاته هما:
1 -
"الرُّدود والنُّقود". مؤلف في أُصول الفقه (1).
2 -
"تحقيقُ الفوائدِ الغياثيَّة". الكتابُ الذي بين يديّ.
ولعل السَّببَ في بروزِ معتقدهِ في هذين الكِتابين دونَ غَيْرهما من مؤلَّفاته يعودُ إلى طبيعةِ مادَّتِهما من جهةٍ، وما يَسْتلزمانه من كيفيَّة المعالجةِ من جهةٍ أُخرى. الأَمر الذي يؤوبُ بالباحثِ فِيهما إلى العودَةِ إلى كثيرٍ من المُرتكزاتِ العَقديَّة الّتي يَنْطلقُ منها.
والنَّاظرُ في هذين الكتَابين يقفُ عَلى مواضعَ عِدّةٍ، تؤكِّدُ انْتسابه إلى المذهبِ الأَشْعريّ، منها:
1 -
جاءَ في "الرُّدود والنُّقود" عند حديثِه عن مَسْألة التَّكليف بما لا يُطاق قولُه (2): "فإنَّا معشرَ الأَشَاعرةِ نُجوّزه -أَيْ: التّكليف بالمحال
(1) مخطوط في مكتبة المخطوطات في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، له نسخ متعددة أفضلها ذات الرقم (8887 ف 1)، وهي نسخة فلمية مصورة عن مكتبة لالى باستانبول. والكتاب مهم في بابه، ولأهميته عهد إلى بعض طلّاب الدراسات العليا بقسم أصول الفقه تحقيقه؛ فسجّل بعضه رسائل "ماجستير".
(2)
(ل 126 / ب) مخطوط رقم: (8887 ف 1) في الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنورة.
- وإِنْ لَمْ يقع، والمعتزلةُ تَمنعه".
والعبارة صريحة لا تحتمل صَرفًا ولا تَأويلًا.
2 -
جاء في "تحقيقِ الفوائد" عند حديثهِ عن الاستعارة التَّخْييليَّة -بعد إيراد قولَ الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) - قوله (2): "فإنَّه يلزم من ازدواج اللفظِ في {يُبَايِعُونَكَ} و {يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أَن يكون هُو -سبحانه- مبايِعًا، وإذ لا بدَّ للمبايع من يدِ فتُخيّل له سبحانه وتعالى شيءٌ يُشْبه اليد وهو القُدرة، فيطلق عليها لفظَ أَوْ يقول إنَّه استعارةٌ بالكناية بإدخال الله سبحانه وتعالى في جِنْس المبايعين ادِّعاء وإثبات ما هُو مِنْ خَواصّهم".
وظاهر أَن هذا القَولَ ينطلقُ من مُعتقدِ الأَشاعرة في الصِّفاتِ؛ حيثُ يثبتونَ للهِ سبحانه وتعالى سبعَ صفات هي: الإرادة، والحياة، والعِلم، والقدرة، والسَّمع، والبصر، والكلام، ويُؤوِّلون ما عَدا ذلك كاليَد، فإنّها -بزعمهم- تَعني القدرة (3).
(1) سورة الفتح؛ من الآية: 10.
(2)
قسم التّحقيق من هذا البحث ص: (761).
(3)
ينظر معتقدهم في الصفات في: الاقتصاد في الاعتقاد؛ للغزالي: (84 - 101)، تحفة المريد "شرح جوهرة التوحيد"؛ للبيجوري:(90).
وراجع الرد عليهم في هامش (5) من ص (761 - 762) من هذا البحث "قسم التحقيق".
3 -
جَاء في "الرّدود والنّقود" عند حَديثه عن القرآنِ وهو بصدد الرَّدِّ عَلى القُطيِّ في قوله إِن المعنَى القَائِم بذاتِ الله ليس بكتابٍ - قَوْلُه (1): "المشهورُ عند الأشَاعرة
…
أن كلامَ الله عبارةٌ عن ذلك المعنى، وهذه الألفاظ دَالَّةٌ عَلَيه".
ولا يكشف السِّياقُ الذي وردَت فيه تلك العبارة عن مسوِّغ مقنع لإيرادِ مَذْهب الأَشاعرةِ في كَلامِ الله هنا (في معرض الرَّدِّ) سوى انتسابِ الكِرمانيِّ إلى هذا المَذْهب (2). بل ظهر في غيرِ مَوْطن في "تحقيقِ الفوائدِ الغياثيّة" ثمرة اعتقادِه فِي كلامِ الله. بما يتَّفق مع المذهبِ الأَشْعريِّ، منها:
(1)(ل 144 / أ) مخطوط رقم (8887 ف 1) في الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنورة.
(2)
ينظر معتقدهم في كلام الله في: اللّمع في الردِّ على أهل الزيغ والبدع؛ لأبي الحسن الأشعريّ: (22)، وتمهيد الأوائل وتلخيص الدّلائل للقاضي الباقلّاني:(268 - 284)، والإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد؛ لأبي المعالي الجويني:(103 - 107).
وهو بخلافِ مذهب السَّلف من الصَّحابةِ والتَّابعين، الذين يُثْبتون صفةَ الكلام للهِ تعالى ويرون (شرح العقيدة الطحاوية: 180): "أنه تعالى لم يزل مُتكلِّمًا إِذا شاءَ ومتى شاءَ وكيف شاءَ، وهو يتكلمُ بصوتٍ، وأنّ نوعَ الكلام قديم وإِنْ لم يكن الصَّوت المعين قديمًا". وينظر: العقيدة الواسطيّة: (111). وتبعًا لذلك فإِنَّهم يعرِّفون القرآن بقولهم (العقيدة الطّحاوية: 179): "القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفيَّة قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقًّا، وأيقنوا أنَّه كلام الله تعالى بالحقيقة وليس. بمخلوق ككلام البريّة " وينظر: العقيدة الواسطّة: (136)، ومجموع الفتاوى لابن تيميّة (12/ 17، 65، 244، 306)، ومختصر الصواعق:(2/ 292).
إيرادُه لتعريفِ شيخهِ الإيجيِّ للأمر، وأَنَّه (1)"اقتضاء الفعلِ بالقولِ استعلاءً"، وشَرحه إِيَّاه وعدم تسجيلِ أيِّ اعتراضٍ عليه إلا في موافقتهِ المعتزلةِ في القَيْد الأَخير (الاستعلاء)، واعتذاره عن تلك الموافقةِ بقوله (2):"وذكره هذا من حيثُ متابعتُه السَّكاكيَّ وإلّا فعندَه -كمَا هُو مذهبُ أهلِ السُّنَّة- لا دخل للاسْتعِلاءِ في مَفْهومِ الأَمر".
وباعتذارِه عن القيدِ الأخير وتَسْليمه ببقيَّة القيودِ فإنَّه يقف جنبًا إلى جنب مع الأشَاعرة؛ الذين يسمون الأَمر بأَنه "اقتضاءُ الفعلِ بالقَول" انْطلاقًا من مُعتقدهم في كلامِ الله سبحانه وتعالى أنَّه معنى قائمٌ بنفسهِ. ولا يغرنّك قوله "كما هُو مذهب أهل السنة"؛ فإن الأشاعرة كثيرًا ما يُطْلقون عَلى أَنْفسهم "أهل السنة"، وبخاصَّةٍ عندما يكونون في مُواجهةِ المُعتزلة (3).
أَضف إلى ذَلك أَنه عُنيَ عناية خَاصَّةً بمؤلّفاتِ شيخه الإيجيّ -أحدِ أقطابِ الأشاعرة في زمانِه-، وأَشْبعها دَرسًا وشرحًا، ولَم يُنقَل
(1) قسم التّحقيق من هذا البحث ص (595).
(2)
قسم التّحقيق من هذا البحث ص (595 - 596).
(3)
والحقُّ أن للأشاعرة جهدًا محمودًا وسعيًا مشكورًا في الدِّفاع عن السنَّة وبخاصَّة أمام الباطنية والرّافضة والفلاسفة؛ في هتك أسرارهم وكشف أستارهم. يقول شيخ الإسلام في درء التعارض (8/ 275): "فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام، والرَّدِّ على طوائف من المخالفين لما جاء به الرّسول؛ فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السّعي الدّاخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح
…
وما من أحدٍ من هؤلاء ومن هو أفضل منه إلا وله غلط في مواضع".
وينظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، د. مانع الجهني:(1/ 87 - 98).