الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَتَبُّعُ الرُّخَصِ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ، فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ فَسَقَ، وَحَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ، فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُ فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ، بَلْ اُسْتُحِبَّ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عليه السلام إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
«وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا إلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا آخَرَ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا» فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنْ الْمَآثِمِ، وَأَقْبَحُ الْحِيَلِ مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ، أَوْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحَقِّ اللَّازِمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ النَّوْعَيْنِ مَا لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِجُمْلَتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
[رُجُوع الْمُفْتِي عَنْ فَتْوَاهُ]
[حُكْمُ رُجُوعِ الْمُفْتِي عَنْ فَتْوَاهُ] الْفَائِدَةُ الْأَرْبَعُونَ: فِي حُكْمِ رُجُوعِ الْمُفْتِي عَنْ فُتْيَاهُ، إذَا أَفْتَى الْمُفْتِي بِشَيْءٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَإِنْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتِي بِرُجُوعِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ فَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَعِنْدِي فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ بِمُجَرَّدِ رُجُوعِ الْمُفْتِي، بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَإِنْ أَفْتَاهُ بِمُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ أَفْتَاهُ بِمُوَافَقَةِ الثَّانِي، وَلَمْ يُفْتِهِ أَحَدٌ بِخِلَافِهِ؛ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ سَأَلَهُ عَنْ رُجُوعِهِ عَمَّا أَفْتَاهُ بِهِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى اخْتِيَارٍ خِلَافَهُ مَعَ تَسْوِيغِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ لِخَطَأٍ بَانَ لَهُ وَأَنَّ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ صَوَابًا حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، هَذَا إذَا كَانَ رُجُوعُهُ لِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ لِمُجَرَّدِ مَا بَانَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ مَذْهَبِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُسْتَفْتِي مَا أَفْتَاهُ بِهِ أَوَّلًا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً.
فَلَوْ تَزَوَّجَ بِفَتْوَاهُ وَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ الْمُفْتِي لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ إمْسَاكُ امْرَأَتِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا بِمُجَرَّدِ رُجُوعِهِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ إنَّمَا رَجَعَ لِكَوْنِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ مَذْهَبِهِ وَإِنْ وَافَقَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَأَطْلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبَ مُفَارَقَتِهَا عَلَيْهِ، وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ، وَرَجَّحُوا وُجُوبَ الْمُفَارَقَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ فِي الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْأَصَحِّ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: الْمُسْتَفْتِي قَدْ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ دُخُولًا صَحِيحًا سَائِغًا، وَلَمْ يَفْهَمْ مَا يُوجِبُ مُفَارَقَتَهُ لَهَا مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا بِمُجَرَّدِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْمُفْتِي، وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ الْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ مِنْ الَّذِينَ شَرَكَ بَيْنَهُمْ أَوَّلًا، وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ
عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مَا فَعَلَهُ الْمَأْمُومُ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَيَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. بَلْ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَيُصَلِّي الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا:" إذَا كَانَ الْمُفْتِي إنَّمَا يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا رَجَعَ لِكَوْنِهِ بَانَ لَهُ قَطْعًا أَنَّهُ خَالَفَ فِي فَتْوَاهُ نَصَّ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ نَصَّ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي حَقِّهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ فِي حَقِّ الْمُفْتِي الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ " فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَا تَقْتَضِيهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَانَ نَصُّ إمَامِهِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ الشَّارِعِ لَحَرُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مُخَالَفَتُهُ وَفَسَقَ بِخِلَافِهِ.
وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَقْضَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَا إبْطَالَ فَتْوَى الْمُفْتِي بِكَوْنِهِ خِلَافَ قَوْلِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ سَوَّغَ النَّقْضَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِهِ مَا خَالَفَ قَوْلَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ، وَيُنْقَضُ مِنْ فَتْوَى الْمُفْتِي مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَكَيْف يَسُوغُ نَقْضُ أَحْكَامِ الْحُكَّامِ وَفَتَاوَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا خَالَفَتْ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؟ وَلَا سِيَّمَا إذَا وَافَقَتْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ يَسُوغُ نَقْضُهَا لِمُخَالَفَةِ قَوْلِ فُلَانٍ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ فَقِيهٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ خِلَافُهُ.
فَإِذَا بَانَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ خَالَفَ إمَامَهُ وَوَافَقَ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ وَيَخْرَبَ بَيْتَهُ وَيُشَتِّتَ شَمْلَهُ وَشَمْلَ أَوْلَادِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمُفْتِي ظَهَرَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ نَصِّ إمَامِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ:" فَارِقْ أَهْلَكَ " بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ النَّصُّ مَعَ قَوْلِ الثَّلَاثَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نَتَكَلَّفَ بَيَانَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُفْتِي، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي؟ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ، فَإِنَّهُ عَمِلَ أَوَّلًا بِمَا يَسُوغُ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَهُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ اسْتِمْرَارِهِ، وَقِيلَ: بَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ؛ لِأَنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ قَدْ اعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ، وَبَانَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ، كَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِين أَفْتَى رَجُلًا بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ سَافَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، فَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ، وَطَلَبَ هَذَا الرَّجُلَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ،