الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ]
فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الرَّابِعُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ]
الْمَخْرَجُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي يَمِينِهِ أَوْ طَلَاقِهِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيقَاعِ وَالْحَلِفِ، فَإِذَا قَالَ:" أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ " نَفَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَوْضِعِ [الَّذِي] يُعْتَبَرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، فَاشْتَرَطَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ اتِّصَالَهُ بِالْكَلَامِ فَقَطْ، سَوَاءٌ نَوَاهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ كَلَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ عَقَدَ الْيَمِينَ ثُمَّ عَنَّ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ عَنَّ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَثْنَاءِ الْيَمِينِ فَوَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ، وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ عَقْدِ الْيَمِينِ صَحَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى كَذَا وَكَذَا امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَهَا لَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَقْصُودِ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ.
وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثُمَّ سَكَتَ قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا [أَلْبَتَّةَ] فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَنَفْعِهِ أَنْ يَنْوِيَهُ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْيَمِينِ، وَلَا قَبْلَهَا، بَلْ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ " لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا "، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى نَفْعِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ النِّسْيَانِ أَظْهَرُ دَلَالَةً.
وَمَنْ شَرَطَ النِّيَّةَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النِّسْيَانِ عِنْدَهُ تَأْثِيرٌ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ،، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَجْزَائِهِ، وَأَبْعَاضِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ مَا يَرْفَعُ بَعْضَهَا، وَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي حَالِ تَكَلُّمِهِ بِهَا، فَيَقُولُ: لِزَيْدٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ فِي الْحَالِ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْهَا مِائَةً فَيَقُولُ: إلَّا مِائَةً، فَلَوْ اشْتَرَطَ نِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَتَعَذَّرَ
عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكُ ذَلِكَ وَأُلْجِئَ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ وَالْكَذِبِ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِخْبَارِ فَمِثْلُهُ فِي الْإِنْشَاءِ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيُعَلِّقُ الْيَمِينَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَدْ يَذْهَلُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ عَنْ قَصْدِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ يَشْغَلُهُ شَاغِلٌ عَنْ نِيَّتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَكُونَ نَاوِيًا لَهُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينِهِ لَفَاتَ مَقْصُودُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَحَصَلَ الْحَرَجُ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأُمَّةِ بِهِ، وَلَمَّا قَالَ لِرَسُولِهِ إذَا نَسِيَهُ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ لِذِكْرِهِ إذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ قَطْعًا، فَإِنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ وَتَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ مُرَادٌ قَطْعًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ إنْ طَرَدَهُ لَزِمَهُ أَلَّا يَصِحَّ مُخَصِّصٌ مِنْ صِفَةٍ أَوْ بَدَلٍ أَوْ غَايَةٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ بِإِلَّا وَنَحْوِهَا حَتَّى يَنْوِيَهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ فَإِذَا قَالَ ": لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ إلَى سَنَةٍ " هَلْ يَقُولُ عَالِمٌ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهَا بِالتَّأْجِيلِ حَتَّى يَكُونَ مَنْوِيًّا مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ؟ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ " بِعْتُك هَذَا بِعَشَرَةٍ " فَقَالَ " اشْتَرَيْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ، بَلْ عَنَّ لَهُ الِاشْتِرَاطُ عَقِيبَ الْقَبُولِ.
وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ ": وَقَفْت دَارِي عَلَى أَوْلَادِي أَوْ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ كَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ مُسْلِمِينَ، أَوْ مُتَأَهِّلِينَ، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِلْبَاقِينَ " صَحَّ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَّ لَهُ ذِكْرُ هَذِهِ الشُّرُوطِ بَعْدَ تَلَفُّظِهِ بِالْوَقْفِ.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: لَا تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَاهَا قَبْلَ الْوَقْفِ أَوْ مَعَهُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ قَطُّ سُؤَالُ الْوَاقِفِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ " لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً " فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَنْفَعُهُ، وَلَا يَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ كُنْت نَوَيْت الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِك لَزِمَك تِسْعُونَ، وَإِنْ كُنْت إنَّمَا نَوَيْتَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَزِمَك مِائَةٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَالُ لَبَيَّنَ لَهُ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، وَلَسَاغَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ بَلْ يُحَلِّفُهُ أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَاغِ إذَا طَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَهُ أَرْضًا فَقَالَ: نَعَمْ بِعْتُهُ هَذِهِ الْأَرْضَ إلَّا هَذِهِ الْبُقْعَةَ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بَيْعَ الْأَرْضِ جَمِيعِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى اسْتِثْنَاءَ الْبُقْعَةِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَكَّةَ: إنَّهُ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» وَقَالَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ: «لَا يَنْفَلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: إلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَقَالَ: إلَّا سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ.» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ، بَلْ اسْتَثْنَاهُ لَمَّا ذُكِّرَ بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُ بِهِ الْمِلْكُ نَفَعَهُ ذَلِكَ.