الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَقِفَ مَا أَرَادَ عَلَى مَنْ أَرَادَ، وَيَشْرُطَ مَا أَرَادَ، وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ أَنْ يُنَفِّذُوا وَقْفَهُ، وَيُلْزِمُوا بِشُرُوطِهِ، وَأَمَّا مَا قَدْ لَهِجَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ " شُرُوطُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ " فَهَذَا يُرَادُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ وَمَعْنًى بَاطِلٌ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ وَتَقْيِيدِ مُطْلَقِهَا بِمُقَيَّدِهَا وَتَقْدِيمِ خَاصِّهَا عَلَى عَامِّهَا، وَالْأَخْذُ فِيهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَهَذَا حَقٌّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ مُرَاعَاتِهَا وَالْتِزَامِهَا وَتَنْفِيذِهَا فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، بَلْ يَبْطُلُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ وَلِرَسُولِهِ مِنْهُ، وَيَنْفُذُ مِنْهَا مَا كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا نَذَرَ أَبُو إسْرَائِيلَ أَنْ يَصُومَ وَيَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَجْلِسُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْلِسَ فِي الظِّلِّ وَيَتَكَلَّمَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَأَلْزَمَهُ بِالْوَفَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ.
وَهَكَذَا أُخْتُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ أَمَرَهَا أَنْ تَخْتَمِرَ وَتَرْكَبَ وَتَحُجَّ وَتُهْدِيَ بَدَنَةً، فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَى أَتْبَاعِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَنْ يَعْتَمِدُوا فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[لَا يُطْلِقُ الْمُفْتِي الْجَوَابَ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ]
[لَا يُطْلِقُ الْمُفْتِي الْجَوَابَ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُطْلِقَ الْجَوَابَ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا تَفْصِيلٌ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ السَّائِلَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ، بَلْ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى التَّفْصِيلِ اسْتَفْصَلَهُ، كَمَا اسْتَفْصَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا: هَلْ وَجَدَ مِنْهُ مُقَدِّمَاتِهِ أَوْ حَقِيقَتَهُ؟ فَلَمَّا أَجَابَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ اسْتَفْصَلَهُ: هَلْ بِهِ جُنُونٌ، فَيَكُونُ إقْرَارُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ أَمْ هُوَ عَاقِلٌ؟ فَلَمَّا عَلِمَ عَقْلَهُ اسْتَفْصَلَهُ: بِأَنْ أَمَرَ بِاسْتِنْكَاهِهِ؛ لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ سَكْرَانُ أَمْ صَاحٍ؟ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ صَاحٍ اسْتَفْصَلَهُ: هَلْ أُحْصِنَ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أُحْصِنَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ.
وَمِنْ هَذَا «قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَتْهُ: هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ الِاسْتِفْصَالِ بِأَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ فِي حَالٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِي حَالٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ أَبَا النُّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْهَدَ عَلَى غُلَامٍ نَحَلَهُ ابْنَهُ،
فَاسْتَفْصَلَهُ، وَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْتَهُ كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ» .
وَتَحْتَ هَذَا الِاسْتِفْصَالِ: أَنَّ وَلَدَك إنْ كَانُوا اشْتَرَكُوا فِي النِّحَلِ صَحَّ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ اسْتَفْتَاهُ: هَلْ يَجِدُ لَهُ رُخْصَةً أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ؟ فَقَالَ هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَأَجِبْ» فَاسْتَفْصَلَهُ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ النِّدَاءَ أَوْ لَا يَسْمَعَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ «لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي فَتَاوِيهِ صلى الله عليه وسلم.
فَإِذَا سُئِلَ الْمُفْتِي عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى قَصَّارٍ يُقَصِّرُهُ، فَأَنْكَرَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ، هَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى الْقِصَارَةِ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ بِالْإِطْلَاقِ خَطَأٌ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ قَصَّرَهُ قَبْلَ الْجُحُودِ فَلَهُ أُجْرَةُ الْقِصَارَةِ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ قَصَّرَهُ بَعْدَ جُحُودِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِنَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَفَعَلَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِحِنْثِهِ حَتَّى يَسْتَفْصِلَهُ: هَلْ كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ وَقْتَ فِعْلِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ فَهَلْ كَانَ مُخْتَارًا فِي يَمِينِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ مُخْتَارًا فَهَلْ اسْتَثْنَى عَقِيبَ يَمِينِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَسْتَثْنِ فَهَلْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا ذَاكِرًا مُخْتَارًا أَمْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا مُخْتَارًا فَهَلْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ دَاخِلًا فِي قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ أَوْ قَصَدَ عَدَمَ دُخُولِهِ فَخَصَّصَهُ بِنِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ دُخُولَهُ وَلَا نَوَى تَخْصِيصَهُ؟ فَإِنَّ الْحِنْثَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَرَأَيْنَا مِنْ مُفْتِي الْعَصْرِ مَنْ بَادَرَ إلَى التَّحْنِيثِ، فَاسْتَفْصَلْنَاهُ، فَوَجَدَهُ غَيْرَ حَانِثٍ فِي مَذْهَبِ مِنْ أَفْتَاهُ، وَقَعَ ذَلِكَ مِرَارًا؛ فَخَطَرُ الْمُفْتِي عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ مُوَقِّعٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، زَاعِمٌ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا وَحَرَّمَ كَذَا أَوْ أَوْجَبَ كَذَا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَثَلًا: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟ فَجَوَابُهُ بِتَفْصِيلِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ إنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْأُولَى لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ جَازَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ " إنْ لَمْ تُحْرِقْ هَذَا الْمَتَاعَ أَوْ تَهْدِمْ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ تُتْلِفْ هَذَا الْمَالَ، وَإِلَّا قَتَلْتُك " فَفَعَلَ: هَلْ يَضْمَنُ أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِهِ لِلْمُكْرَهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ الْمُظَاهِرُ إذَا وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ الْكَفَّارَةِ: هَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ أَوْ يَبْنِي؟ فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ فَوَطِئَ فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْنَافُ، وَلَهُ الْبِنَاءُ؛ فَإِنَّ حُكْمَ تَتَابُعِ الصَّوْمِ، وَكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ قَدْ انْقَطَعَ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ الْمُكَفِّرِ بِالْعِتْقِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَقْطُوعَةً أُصْبُعُهُ، فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ إبْهَامًا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: مَقْطُوعُ الْأُصْبُعَيْنِ - وَهُمَا الْخِنْصَرُ وَالْبِنْصِرُ فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ أَيْضًا: إنْ كَانَا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ أُصْبُعٍ مِنْ يَدٍ أَجْزَأَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ فَاسِقٍ الْتَقَطَ لُقَطَةً أَوْ لَقِيطًا، هَلْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ؟ فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، تُقَرُّ اللُّقَطَةُ دُونَ اللَّقِيطِ؛ لِأَنَّهَا كَسْبٌ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُلْتَقِطُ، وَثُبُوتُ يَدِهِ عَلَى اللَّقِيطِ وِلَايَةٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَلَوْ قَالَ لَهُ " اشْتَرَيْت سَمَكَةً فَوَجَدْت فِي جَوْفِهَا مَالًا مَا أَصْنَعُ بِهِ "؟ فَجَوَابُهُ إنْ كَانَ لُؤْلُؤَةً أَوْ جَوْهَرَةً فَهُوَ لِلصَّيَّادِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالِاصْطِيَادِ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ لَك بِهِ، وَإِنْ كَانَ خَاتَمًا أَوْ دِينَارًا فَهُوَ لُقَطَةٌ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا كَغَيْرِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ ": اشْتَرَيْت حَيَوَانًا فَوَجَدْت فِي جَوْفِهِ جَوْهَرَةً " فَجَوَابُهُ إنْ كَانَتْ شَاةً فَهِيَ لُقَطَةٌ لِلْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا ثُمَّ هِيَ لَهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ سَمَكَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلصَّيَّادِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ عَبْدٍ الْتَقَطَ لُقَطَةً فَأَنْفَقَهَا: هَلْ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إنْ أَنْفَقَهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ حَوْلًا فَهِيَ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ أَنْفَقَهَا بَعْد حَوْلِ التَّعْرِيفِ فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، نَصَّ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْحَوْلِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَإِنْفَاقُهُ لَهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ الْحَوْلِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهَا، فَإِذَا أَنْفَقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَكَأَنَّهُ أَنْفَقَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَتَتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ كَدُيُونِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ رَدَّ عَلَيْهِ لُقَطَتَهُ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ رَدَّهَا؟ فَجَوَابُهُ إنْ الْتَقَطَهَا قَبْلَ بُلُوغِ قَوْلِ الْجَاعِلِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَقِطْهَا لِأَجْلِ الْجُعْلِ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا بِظُهُورِ مَالِكِهَا، وَإِنْ الْتَقَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ اسْتَحَقَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولُ: هَلْ يَجُوزُ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَتَمَلَّكَا مَالَ وَلَدِهِمَا أَوْ يَرْجِعَانِ فِيمَا وَهَبَاهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْأَبِ، دُونَ الْأُمِّ.
وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ غَيْرُ الْأَبِ وَالِابْنِ بِالْجُرْحِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ شَهِدَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَمْ يُقْبَلَا لِلتُّهْمَةِ، وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَهُ قُبِلَتْ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَأَقَرَّتْ لَهُ، هَلْ يُقْبَلُ إقْرَارُهَا أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ ادَّعَى زَوْجِيَّتَهَا وَحْدَهُ قُبِلَ إقْرَارُهَا، وَإِنْ ادَّعَاهَا مَعَهُ آخَرُ لَمْ يُقْبَلْ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ فَادَّعَى وَرَثَتُهُ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَأَقَامُوا شَاهِدًا، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَمِينًا مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ اسْتَحَقَّ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُدَّعَى، وَهَلْ يُشَارِكُهُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ الَّتِي انْتَزَعَهَا بِيَمِينِهِ أَوْ لَا يُشَارِكُهُ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ، إنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا لَمْ يُشَارِكْهُ وَيَنْفَرِدُ الْحَالِفُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا شَارَكَهُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَمَنْ حَلَفَ فَإِنَّمَا ثَبَتَ بِيَمِينِهِ مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ لَا غَيْرُهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ يُقِرُّ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، وَحُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِهِ، فَالْمُخَلَّصُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، وَالْبَاقِي غَصْبٌ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَعْدَى عَلَى خَصْمِهِ وَلَمْ يُحَرِّرْ الدَّعْوَى، هَلْ يُحْضِرُهُ الْحَاكِمُ؟ الْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ اسْتَعْدَى عَلَى حَاضِرٍ فِي الْبَلَدِ أَحْضَرَهُ؛ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يُحْضِرْهُ حَتَّى يُحَرِّرَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ عُضْوًا مِنْ صَيْدٍ وَأَفْلَتَ، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُ الْعُضْوِ؟ الْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ صَيْدًا بَحْرِيًّا حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ بَرِّيًّا لَمْ يَحِلَّ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ تَاجِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ؟ فَالْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ رَجُلًا أُخِذَ مِنْهُ [الْعُشْرُ] ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، إنْ اتَّجَرَتْ إلَى أَرْضِ الْحِجَازِ أُخِذَ مِنْهَا الْعُشْرُ، وَإِنْ اتَّجَرَتْ إلَى غَيْرِهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا تُقَرُّ فِي غَيْرِ أَرْضِ الْحِجَازِ بِلَا جِزْيَةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَيِّتٍ مَاتَ فَطَلَبُ الْأَبُ مِيرَاثَهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ الْوَرَثَةِ غَيْرُهُ، كَمْ يُعْطَى الْأَبُ؟ فَالْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا أُعْطِيَ الْأَبُ أَرْبَعَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مَعَهُ زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَابْنَتَانِ، فَلَهُ أَرْبَعَةٌ بِلَا شَكٍّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى فَلَهُ سَهْمَانِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ زَوْجٌ [وَأُمٌّ] وَابْنَتَانِ، فَلَهُ سَهْمَانِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَطْعًا.
فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: مَاتَ مَيِّتٌ وَتَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، مَعَ الْعُلْيَا
جَدُّهَا، قَالَ الْمُفْتِي: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَالْمَسْأَلَةُ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ جَدَّ الْعُلْيَا نَفْسُ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى فَجَدُّ الْعُلْيَا إمَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجَ الْمَيِّتِ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا فَلَهُ الرُّبْعُ، وَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ.
فَلَوْ قَالَ السَّائِلُ: مَيِّتٌ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ، وَلَمْ تُقَسَّمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إحْدَاهُمَا وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ، قَالَ الْمُفْتِي: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَمَسْأَلَتُهُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلْأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمَانِ، فَلَمَّا مَاتَتْ إحْدَاهُمَا خَلَّفَتْ جَدَّةً وَجَدًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَرِكَتُهَا سَهْمَانِ تُوَافِقُ مَسْأَلَتُهَا بِالنِّصْفِ فَتُرَدُّ إلَى تِسْعَةٍ، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ تَكُونُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى فَفَرِيضَتُهَا أَيْضًا مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ عَنْ سَهْمَيْنِ، وَخَلَّفَتْ جَدَّةً وَجَدًّا مِنْ أُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْجَدِّ، وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَسِهَامُهَا اثْنَانِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى وُجُوبِ التَّفْصِيلِ إذَا كَانَ يَجِدُ السُّؤَالَ مُحْتَمِلًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَكَثِيرًا مَا يَقَعُ غَلَطُ الْمُفْتِي فِي هَذَا الْقِسْمِ، فَالْمُفْتِي تَرِدُ إلَيْهِ الْمَسَائِلُ فِي قَوَالِبَ مُتَنَوِّعَةٍ جِدًّا، فَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِحَقِيقَةِ السُّؤَالِ وَإِلَّا هَلَكَ وَأَهْلَكَ، فَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَتَانِ صُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ فَصُورَةُ الصَّحِيحِ وَالْجَائِزِ صُورَةُ الْبَاطِلِ وَالْمُحَرَّمِ وَيَخْتَلِفَانِ بِالْحَقِيقَةِ، فَيَذْهَلُ بِالصُّورَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ، وَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَتَانِ صُورَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ وَحَقِيقَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَحُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، فَيَذْهَلُ بِاخْتِلَافِ الصُّورَةِ عَنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَلَةً تَحْتَهَا عِدَّةُ أَنْوَاعٍ، فَيَذْهَبُ وَهْمُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَيَذْهَلُ عَنْ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْهَا، فَيُجِيبُ بِغَيْرِ الصَّوَابِ، وَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ الْبَاطِلَةُ فِي دِينِ اللَّهِ فِي قَالَبٍ مُزَخْرَفٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ، فَيَتَبَادَرُ إلَى تَسْوِيغِهَا وَهِيَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، وَتَارَةً بِالْعَكْسِ؛ فَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَمْ هَهُنَا مِنْ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَجَالِ أَوْهَامٍ، وَمَا دُعِيَ مُحِقٌّ إلَى حَقٍّ إلَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَخِيهِ، وَوَلِيِّهِ مِنْ الْإِنْسِ فِي قَالَبٍ تَنْفِرُ عَنْهُ خَفَافِيشُ الْبَصَائِرِ وَضُعَفَاءُ الْعُقُولِ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَا حَذَّرَ أَحَدٌ مِنْ بَاطِلٍ إلَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ وَلِيِّهِ مِنْ الْإِنْسِ فِي قَالَبٍ مُزَخْرَفٍ يَسْتَخِفُّ بِهِ عُقُولَ ذَلِكَ الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ نَظَرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَى الصُّوَرِ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا إلَى الْحَقَائِقِ، فَهُمْ مَحْبُوسُونَ فِي سِجْنِ الْأَلْفَاظِ، مُقَيَّدُونَ بِقُيُودِ الْعِبَارَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ - وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113] .