الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[دَلَالَةُ الْعَالِمِ لِلْمُسْتَفْتِي عَلَى غَيْرِهِ]
ِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي دَلَالَةِ الْعَالِمِ لِلْمُسْتَفْتِي عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ خَطَرٍ جِدًّا، فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ مَا يَحْدُثُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ بِدَلَالَتِهِ إمَّا إلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَحْكَامِهِ أَوْ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَهُوَ مُعِينٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِمَّا مُعِينٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فَكَانَ شَيْخُنَا - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - شَدِيدَ التَّجَنُّبِ لِذَلِكَ، وَدَلَّلْتُ مَرَّةً بِحَضْرَتِهِ عَلَى مُفْتٍ أَوْ مَذْهَبٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ؟ دَعْهُ، فَفَهِمْتُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّكَ لَتَبُوءُ بِمَا عَسَاهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِثْمِ وَلِمَنْ أَفْتَاهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا مَنْصُوصَةً عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
قَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْأَلُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَأَدُلُّهُ عَلَى إنْسَانٍ يَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ - يَعْنِي الَّذِي أَرْشَدْتَهُ إلَيْهِ - مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ، فَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إنَّهُ يُرِيدُ الِاتِّبَاعَ وَلَيْسَ كُلُّ قَوْلِهِ يُصِيبُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ يُصِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟ قُلْتُ لَهُ: فَرَأْيُ مَالِكٍ، فَقَالَ: لَا تَتَقَلَّدْ فِي مِثْلِ هَذَا بِشَيْءٍ، قُلْتُ: وَأَحْمَدُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَدُلُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ عَلَى إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ عَنْهُ فِي اسْتِفْتَاءِ هَؤُلَاءِ، وَلَا خِلَافَ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِي أَهْلَ الرَّأْيِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَتْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رَأَى رَجُلٌ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ اسْتَفْتَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ: وَلِبَعْضِ مَنْ يُفْتِي هَهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا، وَإِقْدَامُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَى الْفُتْيَا، وَتَوَثُّبَهُ عَلَيْهَا، وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إلَيْهَا، وَتَسَلُّقَهُ بِالْجَهْلِ وَالْجُرْأَةَ عَلَيْهَا مَعَ قِلَّةِ الْخِبْرَةِ وَسُوءِ السِّيرَةِ وَشُؤْمِ السَّرِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُنْكَرٌ أَوْ غَرِيبٌ، فَلَيْسَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ نَصِيبٌ، وَلَا يُبْدِي جَوَابًا بِإِحْسَانٍ، وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدْرُ فَتْوَاهُ كَذَلِكَ يَقُولُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ.
يَمُدُّونَ لِلْإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْفَتَاوَى يُكَذْلِكُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ نَصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا مُفْتٍ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ، فَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ مَنْ يَكْتُبُ الْجَوَابَ فَيَكْتُبُ تَحْتَهُ: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ، فَقُدِّرَ أَنْ اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ فِي جَوَابٍ، فَكَتَبَ تَحْتَهُمَا: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا قَدْ تَنَاقَضَا، فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا تَنَاقَضْتُ كَمَا تَنَاقَضَا، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لِكُلِّ
عَالِمٍ وَرَئِيسٍ وَفَاضِلٍ مِنْ يُظْهِرُ مُمَاثَلَتَهُ، وَيَرَى الْجُهَّالُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ مُسَاجَلَتَهُ وَمُشَاكَلَتَهُ، وَأَنَّهُ يَجْرِي مَعَهُ فِي الْمَيْدَانِ، وَأَنَّهُمَا عِنْدَ الْمُسَابَقَةِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، وَلَا سِيَّمَا إذَا طَوَّلَ الْأَرْدَانَ، وَأَرْخَى الذَّوَائِبَ الطَّوِيلَةَ وَرَاءَهُ كَذَنَبِ الْأَتَانِ، وَهَدَرَ بِاللِّسَانِ، وَخَلَا لَهُ الْمَيْدَانُ الطَّوِيلُ مِنْ الْفُرْسَانِ.
فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ لَقَالَ النَّاسُ: يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ وَهَذَا الضَّرْبُ إنَّمَا يَسْتَفْتُونَ بِالشَّكْلِ لَا بِالْفَضْلِ، وَبِالْمَنَاصِبِ لَا بِالْأَهْلِيَّةِ، قَدْ غَرَّهُمْ عُكُوفُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَيْهِمْ، وَمُسَارَعَةُ مَنْ أَجْهَلُ مِنْهُمْ إلَيْهِمْ، تَعِجُّ مِنْهُمْ الْحُقُوقُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَجِيجًا، وَتَضِجُّ مِنْهُمْ الْأَحْكَامُ إلَى مَنْ أَنْزَلَهَا ضَجِيجًا.
فَمَنْ أَقْدَمَ بِالْجُرْأَةِ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ مِنْ فُتْيَا أَوْ قَضَاءٍ أَوْ تَدْرِيسٍ، اسْتَحَقَّ اسْمَ الذَّمِّ، وَلَمْ يَحِلَّ قَبُولَ فُتْيَاهُ وَلَا قَضَائِهِ، هَذَا حُكْمُ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفٌ مِنْ أُنَاسٍ فَقُلْ: يَا رَبِّ لَا تُرْغِمْ سِوَاهَا
[كذلكة الْمُفْتِي] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ كَذْلَكَةِ الْمُفْتِي، وَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ إمَّا أَنْ يَعْلَمَ صَوَابَ جَوَابِ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِالْفُتْيَا أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ عَلِمَ صَوَابَ جَوَابِهِ فَلَهُ أَنْ يُكَذْلِكَ، وَهَلْ الْأَوْلَى لَهُ الْكَذْلَكَةُ أَوْ الْجَوَابُ الْمُسْتَقِلُّ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يَخْلُو الْمُبْتَدِئُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلًا أَوْ مُتَسَلِّقًا مُتَعَاطِيًا مَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتَرْكُهُ الكذلكة أَوْلَى مُطْلَقًا؛ إذْ فِي كذلكته تَقْرِيرٌ لَهُ عَلَى الْإِفْتَاءِ، وَهُوَ كَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَضْرِبُ عَلَى فَتْوَى مِنْ كُتُبٍ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفَ الْفِتْنَةِ مِنْهُ فَقَدْ قِيلَ: لَا يَكْتُبُ مَعَهُ فِي الْوَرَقَةِ، وَيَرُدُّ السَّائِلَ، وَهَذَا نَوْعُ تَحَامُلٍ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَكْتُبُ فِي الْوَرَقَةِ الْجَوَابَ، وَلَا يَأْنَفُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِدِينِ اللَّهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِهِ لِكِتَابَةِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عُذْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي كِتْمَانِ الْحَقِّ، بَلْ هَذَا نَوْعُ رِيَاسَةٍ وَكِبْرٍ، وَالْحَقُّ لِلَّهِ عز وجل، فَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يُعَطِّلَ حَقَّ اللَّهِ وَيَكْتُمَ دِينَهُ لِأَجْلِ كِتَابَةِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ؟ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا شَهِدَ الْجِنَازَةَ فَرَأَى فِيهَا مُنْكَرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَرَأَى فِيهَا مُنْكَرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا عَنْ الْفَرْقِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْجِنَازَةِ لِلْمَيِّتِ، فَلَا يُتْرَكُ حَقُّهُ لِمَا فَعَلَهُ الْحَيُّ مِنْ الْمُنْكَرِ، وَالْحَقُّ فِي الْوَلِيمَةِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَتَى فِيهَا بِالْمُنْكَرِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِي بِالْجَوَابِ أَهْلًا لِلْإِفْتَاءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْلَمَ المكذلك صَوَابَ