الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُتْ عَلَى الْإِسْلَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا تَمُتْ إلَّا عَلَى تَوْبَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " رَدَّ الْمَشِيئَةَ إلَى مَعْنًى خَبَرِيٍّ، أَيْ: وَلَا تَقُومُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَمَّا " بِعْت إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاشْتَرَيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ صَحَّ وَانْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ لَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُ إنْشَاءً، وَتَنَافَى الْإِنْشَاءُ وَالتَّعْلِيقُ؛ إذْ زَمَنُ الْإِنْشَاءِ يُقَارِنُ وُجُودَ مَعْنَاهُ، وَزَمَنُ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ يَتَأَخَّرُ عَنْ التَّعْلِيقِ، فَتَنَافَيَا.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذَا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا مَاضِيًا أَوْ مُقَارِنًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَشِيئَةَ إلَى هَذَا اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ إنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يُرِدْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَلَّا يَقَعَ الطَّلَاقُ، فَرَدَّهُ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ إنْ شَاءَهُ بَعْدَ هَذَا وَقَعَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُرِيدُ طَلَاقَك، وَلَا أَرَبَ لِي فِيهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيَنْفُذُ رَضِيتُ أَمْ سَخِطْتُ، كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ عليه السلام:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أَيْ: نَحْنُ لَا نَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ، وَلَا نَخْتَارُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا شَيْئًا فَيَنْفُذُ مَا شَاءَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ:{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] أَيْ: لَا يَقَعُ بِي مَخُوفٌ مِنْ جِهَةِ آلِهَتِكُمْ أَبَدًا، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا فَيَنْفُذُ مَا شَاءَهُ.
فَرَدَّ الْأَنْبِيَاءُ مَا أَخْبَرُوا أَلَّا يَكُونَ إلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِلَى عِلْمِهِ اسْتِدْرَاكًا وَاسْتِثْنَاءً، أَيْ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَكِنْ إنْ شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حِكْمَتُهُ وَحْدَهُ.
[فَصْلٌ التَّحْقِيقُ فِي مَوْضُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ]
فَصْلٌ:
[التَّحْقِيقُ فِي مَوْضُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ]
فَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " التَّحْقِيقَ أَوْ التَّعْلِيقَ؛ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ لَمْ تَطْلُقْ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانِ فِي رِعَايَتِهِ: قُلْت: إنْ قَصَدَ التَّأْكِيدَ وَالتَّبَرُّكَ وَقَعَ، وَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ وَجَهِلَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا، وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا قَصَدَ التَّعْلِيقَ، وَكَانَ جَاهِلًا بِاسْتِحَالَةِ الْعِلْم بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ عَلِمَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى لَمْ يَنْعَقِدْ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِهِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَجَهْلِهِ بِهَا أَنَّهُ إذَا جَهِلَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا هُوَ مُمْكِنٌ
فِي ظَنِّهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجْهَلْ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَقَدْ عَلَّقَهُ عَلَى مُحَالٍ يَعْلَمُ اسْتِحَالَتَهُ فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمُحَالِ.
قُلْت: وَقَوْلُهُمْ: " إنَّ الْعِلْمَ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ مُحَالٌ " خَطَأٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ مَشِيئَةَ الرَّبِّ تُعْلَمُ بِوُقُوعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي مُسَبِّبَاتِهَا؛ فَإِنَّ مَشِيئَةَ الْمُسَبَّبِ مَشِيئَةٌ لِحُكْمِهِ، فَإِذَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ طَلَاقَهَا.
فَهَذَا تَقْرِيرُ الِاحْتِجَاجِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَخْفَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
[الْكَلَامُ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَتَى تُعْتَمَدُ؟]
وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَزَمَنِهَا، وَأَنَّ أَضْيَقَ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَأَوْسَعُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يَشْتَرِطُهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَأَوْسَعُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ إنْشَاءَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْكَلَامِ، كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَوْسَعُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِالْقُرْبِ، وَلَا يَشْتَرِطُ اتِّصَالَهُ بِالْكَلَامِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» إذْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ بِالْقُرْبِ، وَلَمْ يَخْلِطْ كَلَامَهُ بِغَيْرِهِ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، فَقَالَ: مَنْ اسْتَثْنَى بَعْدَ الْيَمِينِ فَهُوَ جَائِزٌ، عَلَى مِثْلِ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ قَالَ:«وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ، قَالَ: وَلَا أَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ إلَّا مُتَّصِلًا، هَذَا لَفْظُ الشَّالَنْجِيِّ فِي مَسَائِلِهِ.
وَأَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَصِحُّ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَوْسَعُ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ قَوْلُ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ بِحَالٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي الْفَصْلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَلَا يَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ، فَعِلْمُهُ وَجَهْلُهُ يَكُونُ سَوَاءً، وَلَوْ قَالَ لَهَا:" أَنْتِ طَالِقٌ " فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ " إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَكَانَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ وُجِدَ حَقِيقَةً، وَالْكَلَامُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ إيقَاعًا.
وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي مُتَرْجَمِهِ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ ثنا عُمَرُ قَالَ: سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ رحمه الله عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ
كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَيَقُولُ لَهُ إنْسَانٌ إلَى جَانِبِهِ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ؟ فَقَالَ: أَرَاهُ قَدْ اسْتَثْنَى.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَصَلَهُ قَرِيبُهُ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا آخُذُهَا، فَقَالَ قَرِيبُهُ: وَاَللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا، فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ:" وَاَللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا " اسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا آخُذُهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَلَامٌ إلَّا انْتِظَارَهُ مَا يَقُولُ قَرِيبُهُ، أَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ إنْ هُوَ أَخَذَهَا؟ فَقَالَ: لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَفْقَهُ وَأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ اشْتَرَطَ نِيَّتَهُ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْيَمِينِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِعْلًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحِكَايَةً عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " بَعْدَمَا حَلَفَ وَذِكْرُهُ ذَلِكَ كَانَ نَافِعًا لَهُ، وَمُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَالِاتِّصَالِ الشَّدِيدِ لَزَالَتْ رُخْصَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَلَّ مَنْ انْتَفَعَ بِهَا إلَّا مَنْ قَدْ دَرَسَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجَعَلَهُ مِنْهُ عَلَى بَالٍ.
وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ نَافِعًا إلَّا وَقَدْ أَرَادَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُتَمِّمَ الْيَمِينَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: شَرْطُ نَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا، وَلَوْ لِآخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَتِهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ أَنَّهَا لِصَاحِبِهَا مَا لَمْ يَقْطَعْ كَلَامَهُ، وَمَا كَانَ نَسَقًا يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا قَبْلَ أَنْ يَسْكُتَ، فَإِذَا سَكَتَ وَقَطَعَ كَلَامَهُ فَلَا ثُنْيَا لَهُ، انْتَهَى.
وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَطُّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ مَعَ الشُّرُوعِ وَلَا قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْأَتْبَاعِ.
فَصْلٌ:
[هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ النُّطْقُ بِهِ؟]
وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَنْفَعَ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ؟ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِي
فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: لَوْ قَالَ: " نِسَائِي طَوَالِقُ "، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ " إلَّا فُلَانَةَ " صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَلَمْ تَطْلُقْ، وَلَوْ قَالَ ": نِسَائِي الْأَرْبَعُ طَوَالِقُ "، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ إلَّا فُلَانَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ نَصًّا فِي الْأَرْبَعِ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ الثَّانِي، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَنْ يَصِحَّ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ تَقْيِيدُ مُطْلَقٍ؛ فَعَمَلُ النِّيَّةِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ عَمَلِهَا فِي
تَخْصِيصِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ مُتَنَاوِلٌ لِلْأَفْرَادِ وَضْعًا، وَالْمُطْلَقُ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ بِالْوَضْعِ، فَتَقْيِيدُهُ بِالنِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ: إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " وَنَوَى بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ وَقَالَ:" نَوَيْت شَهْرًا: " قُبِلَ مِنْهُ، أَوْ قَالَ:" إذَا دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَنَوَى تِلْكَ السَّاعَةَ، أَوْ ذَلِكَ الْيَوْمَ قُبِلَتْ نِيَّتُهُ، قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا تُقْبَلُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ ": أَنْتِ طَالِقٌ "، وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَى سَنَةٍ تَطْلُقُ، لَيْسَ يُنْظَرُ إلَى نِيَّتِهِ، وَقَالَ: إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " وَقَالَ: نَوَيْت إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ، لَا يُصَدَّقُ، قَالَ الشَّيْخُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي الْقَبُولِ عَلَى أَنَّهُ يُدَيَّنُ، وَقَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى الْحُكْمِ؛ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ.
قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا - يَعْنِي مَسْأَلَةَ نِسَائِي طَوَالِقُ وَأَرَادَ بَعْضَهُنَّ - أَنَّ إرَادَةَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ شَائِعٌ كَثِيرٌ، وَإِرَادَةُ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ غَيْرُ شَائِعٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ مِنْ جُمْلَةِ التَّخْصِيصِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا أَرَادَ الشَّرْطَ دُيِّنَ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يُفَرِّقُ فَقِيهٌ وَلَا مُحَصِّلٌ بَيْنَ الشَّرْطِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَنْفَعُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إنْ كَانَ مَظْلُومًا فَاسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ رَجَوْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى خِلَافِ هَذَا فِي الْمَظْلُومِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ، وَخَاصُّ كَلَامِهِ وَمُقَيَّدُهُ يَقْضِي عَلَى مُطْلَقِهِ وَعَامِّهِ؛ فَهَذَا مَذْهَبُهُ.
فَصْلٌ:
[هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ؟]
وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ أَوْ يَكْفِيَ تَحَرُّكُ لِسَانِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ؟ فَاشْتَرَطَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا مِنْ لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ وَلَا شَرْعٍ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ.
قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاللَّفْظُ لِصَاحِبِ الذَّخِيرَةِ: وَشَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْمُوعًا أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ.
وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَمِيلُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهَذَا بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَخْرَجِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَعَلَّك لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.