الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حُكْمُ أَخْذِ الْمُفْتِي أُجْرَةً أَوْ هَدِيَّةً]
ً] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالرِّزْقِ عَلَى الْفَتْوَى، فِيهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ مُخْتَلِفَةُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ.
فَأَمَّا أَخْذُهُ الْأُجْرَةَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفُتْيَا مَنْصِبُ تَبْلِيغٍ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَا أُعَلِّمُكَ الْإِسْلَامَ أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الصَّلَاةَ إلَّا بِأُجْرَةٍ، أَوْ سُئِلَ عَنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: لَا أُجِيبُكَ عَنْهُ إلَّا بِأُجْرَةٍ، فَهَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْعِوَضِ، وَلَا يَمْلِكُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ أَجَابَ بِالْخَطِّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لِلسَّائِلِ: لَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ خَطِّي إلَّا بِأُجْرَةٍ، وَلَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَةِ النَّاسِخِ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ عَلَى خَطِّهِ، وَلَا عَلَى جَوَابِهِ، وَخَطُّهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى جَوَابِهِ.
وَالصَّحِيحُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ مَجَّانًا لِلَّهِ بِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْوَرَقُ وَلَا الْحِبْرُ.
وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْفَتْوَى كَمَنْ عَادَتُهُ يُهَادِيهِ أَوْ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مُفْتٍ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُكَافِئَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الْفَتْوَى، فَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا إلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُهْدِي لَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ عِنْدَهُ فِي الْفُتْيَا، بَلْ يُفْتِيهِ بِمَا يُفْتِي بِهِ النَّاسُ، كَرِهَ لَهُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْإِفْتَاءِ.
وَأَمَّا أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ عَامِلِ الزَّكَاةِ وَعَامِلِ الْيَتِيمِ، فَمَنْ أَلْحَقَهُ بِعَامِلِ الزَّكَاةِ قَالَ: النَّفْعُ فِيهِ عَامٌّ، فَلَهُ الْأَخْذُ، وَمَنْ أَلْحَقَهُ بِعَامِلِ الْيَتِيمِ مَنَعَهُ مِنْ الْأَخْذِ، وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمُفْتِي، بَلْ الْقَاضِي أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَا يَصْنَعُ الْمُفْتِي إذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ مُسْتَنَدَهَا، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ اجْتِهَادِهِ أَفْتَى بِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اجْتِهَادٍ، وَإِنْ ذَكَرَهَا وَنَسِيَ مُسْتَنِدَهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا دُونَ تَجْدِيدِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْزَمَهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ؛ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَظُهُورِ مَا كَانَ خَافِيًا عَنْهُ، وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَا يُغَيِّرُ اجْتِهَادَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُهُ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُهُ مَعَ نَفْسِهِ فَادِحًا فِي عِلْمِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا خَرَجَ عَنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَأَكْثَرُ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حَضَرْتُ عَقْدَ مَجْلِسٍ عِنْدَ نَائِبِ السُّلْطَانِ فِي وَقْفٍ أَفْتَى فِيهِ قَاضِي الْبَلَدِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَقَرَأَ جَوَابَهُ الْمُوَافِقَ لِلْحَقِّ، فَأَخْرَجَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ جَوَابَهُ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: هَذَا جَوَابُكَ بِضِدِّ هَذَا فَكَيْفَ تَكْتُبُ جَوَابَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَوَجَمَ الْحَاكِمُ، فَقُلْتُ: هَذَا مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ، أَفْتَى أَوَّلًا بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَرَجَعَ إلَيْهِ، كَمَا يُفْتِي إمَامُهُ بِقَوْلٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ وَلَا دِينِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ، فُسِّرَ بِذَلِكَ وَسُرِّيَ عَنْهُ.
[كُلُّ الْأَئِمَّةِ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَدِيثِ وَمَتَى صَحَّ فَهُوَ مَذْهَبُهُمْ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: " إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَوُا مَا قُلْتُهُ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقُلْتُ أَنَا قَوْلًا فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْ قَوْلِي وَقَائِلٌ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ " وَقَوْلُهُ: " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ " وَقَوْلُهُ: " إذَا رَوَيْتُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَذْهَبْ إلَيْهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرِيحٌ فِي مَدْلُولِهِ، وَأَنَّ مَذْهَبَهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، لَا قَوْلَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ مَا خَالَفَ الْحَدِيثَ وَيُقَالُ:" هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِمَا خَالَفَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا الْحُكْمُ بِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَتْبَاعِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِلْقَارِئِ إذَا قَرَأَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً مِنْ كَلَامِهِ: قَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِخِلَافِهَا، اضْرِبْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَيْسَتْ مَذْهَبَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا نَصَّ عَلَيْهِ وَأَبْدَى فِيهِ وَأَعَادَ وَصَرَّحَ فِيهِ بِأَلْفَاظٍ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي مَدْلُولِهَا؟ فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ مَذْهَبَهُ وَقَوْلَهُ الَّذِي لَا قَوْلَ لَهُ سَوَاءٌ مَا وَافَقَ الْحَدِيثَ، دُونَ مَا خَالَفَهُ وَأَنَّ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ خِلَافَهُ فَقَدْ نَسَبَ إلَيْهِ خِلَافَ مَذْهَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا ذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَهُ لِضَعْفٍ فِي سَنَدِهِ أَوْ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْحَدِيثِ سَنَدٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَصَحَّحَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ تَبْلُغْهُ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ عَالِمٌ وَلَا يُمَارِي فِي أَنَّهُ مَذْهَبُهُ قَطْعًا، وَهَذَا كَمَسْأَلَةِ الْجَوَائِحِ؛ فَإِنَّهُ عَلَّلَ حَدِيثَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ