الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُضْطَلِعَ بِهِ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الصَّوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فَلَا يَقْدُمُ عَلَى الْجَزْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَ الْخِلَافَ فِيهَا لِلسَّائِلِ.
وَكَثِيرًا مَا يُسْأَلُ الْإِمَامُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَقُولُ: فِيهَا قَوْلَانِ، أَوْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَجْوِبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِسَعَةِ عِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، يَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ يَقُولُ: فِيهَا قَوْلَانِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يُضَافُ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ يَحْكِيهِمَا إلَى مَذْهَبِهِ وَيُنْسَبَانِ إلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى طَرِيقَيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدٌ وَأُبَيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْمُفْتِي الْقَوْلُ الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ انْتَهَى إلَى مَا يَقْدِرْ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: سَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ لَا هُوَ مُمْسِكُهَا وَلَا هُوَ مُطَلِّقُهَا، فَقَالَ لَهَا: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: تُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ، وَيُبْعَثُ عَلَى التَّطَلُّبِ وَالِاكْتِسَابِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَمْ تَفْهَمْ الْمَرْأَةُ قَوْلَهُ، فَأَعَادَتْ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ: يَا هَذِهِ أَجَبْتُك عَنْ مَسْأَلَتِك، وَأَرْشَدْتُك إلَى طُلْبَتِك، وَلَسْتُ بِسُلْطَانٍ فَأُمْضِي، وَلَا قَاضٍ فَأَقْضِي، وَلَا زَوْجٍ فَأُرْضِي، فَانْصَرِفِي.
[الْإِفْتَاء فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ]
[الْإِفْتَاءُ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِيهَا شَرْطٌ وَاقِفٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ وَلَا يُسَوِّغُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَنْفِيذُهُ، وَلَا يَسُوغُ تَنْفِيذُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلْيَنْظُرْ: هَلْ فِيهِ قُرْبَةٌ أَوْ رُجْحَانٌ عِنْدَ الشَّارِعِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُرْبَةٌ، وَلَا رُجْحَانٌ لَمْ يَجِبْ الْتِزَامُهُ، وَلَمْ يُحَرَّمْ، فَلَا تَضُرُّ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى خِلَافِهِ فَلْيَنْظُرْ: هَلْ يَفُوتُ بِالْتِزَامِهِ وَالتَّقْيِيدِ بِهِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْضَى لَهُ وَأَنْفَعُ لِلْمُكَلَّفِ وَأَعْظَمُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ مِنْ الْأَجْرِ؟ فَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْتِزَامِهِ لَمْ يَجِبْ الْتِزَامُهُ وَلَا التَّقْيِيدُ بِهِ قَطْعًا، وَجَازَ الْعُدُولُ بَلْ يُسْتَحَبُّ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفَعُ لِلْمُكَلَّفِ وَأَكْثَرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ، وَفِي جَوَازِ الْتِزَامِ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي قُرْبَةٍ وَطَاعَةٍ وَلَمْ يَفُتْ بِالْتِزَامِهِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَتَسَاوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي تِلْكَ الْقُرْبَةِ، وَيَحْصُلُ غَرَضُ الْوَاقِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ وَغَيْرُهُ طَرِيقِينَ مُوَصِّلَيْنِ إلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْتِزَامُ الشَّرْطِ،
بَلْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ مُوجِبُ الشَّرْطِ وَكَانَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فِيهِ أَظْهَرَ وَجَبَ الْتِزَامُهُ.
فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْكُلِّيُّ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ، وَمَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ مِنْهَا، وَمَا يَسُوغُ، وَمَا لَا يَجِبُ، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ تَنَاقَضَ أَظْهَرَ تَنَاقُضٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ قَدَمٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
فَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإِلَى جَانِبِهِ الْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْتِزَامُهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ إمَّا شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَإِمَّا وَاجِبَةٌ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا الْعُقُوبَةُ، وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِمَّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ يُقَاتَلُ تَارِكُهَا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ شَرْطٍ يُخِلُّ بِهَا.
وَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الْعُزُوبِيَّةَ، وَتَرْكَ التَّأَهُّلِ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ وَلَا الْتِزَامُهُ، بَلْ مَنْ الْتَزَمَهُ رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي شَيْءٍ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ يَعْصِي تَارِكُهُ، وَإِمَّا سُنَّةٌ الِاشْتِغَالُ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ أَوْرَادِ التَّطَوُّعَاتِ، وَإِمَّا سُنَّةٌ يُثَابُ فَاعِلُهَا كَمَا يُثَابُ فَاعِلُ السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَرْكِهِ؛ إذْ يَصِيرُ مَضْمُونُ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَنَاوُلَ الْوَقْفِ إلَّا مَنْ عَطَّلَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمَنْ فَعَلَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَامَ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ شَيْئًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْتِزَامِ هَذَا الشَّرْطِ وَالْإِلْزَامِ بِهِ مِنْ مُضَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ اشْتِرَاطِهِ تَرْكَ الْوِتْرِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَصِيَامِ الْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَالتَّطَوُّعِ بِاللَّيْلِ، بَلْ أَقْبَحُ مِنْ اشْتِرَاطِهِ تَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا اشْتِرَاطُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ فِي التُّرْبَةِ الْمَدْفُونِ بِهَا وَيَدَعَ الْمَسْجِدَ، وَهَذَا أَيْضًا مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مُضَادَّةٍ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنْ الْمُتَّخِذِينَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَالصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بَاطِلَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِفِعْلِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْتِزَامُ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَهَا، وَتَعْطِيلُ شَرْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ فَهَذَا تَغْيِيرُ الدِّينِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ لَهُ مِنْ يُبَيِّنُ أَعْلَامَهُ وَيَدْعُو إلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ إيقَادِ سِرَاجٍ أَوْ قِنْدِيلٍ عَلَى الْقَبْرِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْوَاقِفِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ، وَلَا لِلْحَاكِمِ تَنْفِيذُهُ، وَلَا لِلْمُفْتِي تَسْوِيغُهُ، وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَالْتِزَامُهُ، فَقَدْ لَعَنْ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُلْزِمَ أَوْ يُسَوِّغَ فِعْلَ مَا لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعِلَهُ؟ وَحَضَرْتُ بَعْضَ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ وُقِفَ عَلَى تُرْبَةٍ؛ لِيُثْبِتَهُ، وَفِيهِ:" وَأَنَّهُ يُوقَدُ عَلَى الْقَبْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قِنْدِيلٌ " فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ يَحِلُّ لَك أَنْ تُثْبِتَ هَذَا الْكِتَابَ وَتَحْكُمَ بِصِحَّتِهِ مَعَ عِلْمِك بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ؟ فَأَمْسَكَ عَنْ إثْبَاتِهِ وَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا قُلْت، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ قَبْرِهِ دُونَ الْبُيُوتِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ بَعِيدًا مِنْهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِلُ وَوُصُولُهَا فَرْعُ حُصُولِ الصَّوَابِ لِلْقَارِئِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ، فَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَمَجِيئُهُ إلَى الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْجُعْلِ [وَ] لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابٌ، فَكَيْفَ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ فَرْعُهُ؟ فَمَا زَادَ بِمَجِيئِهِ إلَى التُّرْبَةِ إلَّا الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ لِلَّهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ فِي مَكَان يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ وَأَعْظَمَ لِإِخْلَاصِهِ ثُمَّ جَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ وَصَلَ إلَيْهِ.
وَذَاكَرْت مَرَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضَ الْفُضَلَاءِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ، وَقَالَ: لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ انْتِفَاعَهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ، وَوُصُولِ بَرَكَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: انْتِفَاعُهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَشْرُوطٌ بِحَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ كُلُّهُ.
وَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَكَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْحَظِّ الْعَظِيمِ؛ لِمُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إلَيْهِ فَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ حُضُورُ التُّرْبَةِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ.
وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ وَقَفَ وَقْفًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ؛ فَإِنْ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْنِيَةِ الْفَقِيرِ وَإِتْعَابِهِ وَإِزْعَاجِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى الْجَبَّانَةِ فِي حَالِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالضَّعْفِ حَتَّى يَأْخُذَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يُحْبِطَ أَجْرَهَا، وَيَمْنَعَ انْعِقَادَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَمِنْ هَذَا لَوْ شَرَطَ وَاقِفُ الْخَانْقَاهْ وَغَيْرِهَا عَلَى أَهْلِهَا أَنْ لَا يَشْتَغِلُوا بِكِتَابَةِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْفِقْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، لَا يَحِلُّ تَنْفِيذُهُ وَلَا الْتِزَامُهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مَنْ قَامَ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْوَقْفَ
الْمُعَيَّنَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَجَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، وَجَهِلَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْكَامَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ شِرَارِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَمْقَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَحِزْبُهُ {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَعْضُ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ وَقَفَ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَضْمُونُ هَذَا الشَّرْطِ الْمُضَادِّ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يُعَطِّلَ أَكْثَرَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَنْ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْتَفَّهُمْ، وَكَثِيرًا مِنْ السُّنَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا عَنْ أَنْ تُذْكَرَ أَوْ تُرْوَى أَوْ تُسْمَعَ أَوْ يُهْتَدَى بِهَا، وَيُقَامُ سُوقُ التَّجَهُّمِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ كَفِيلٌ بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَقِفَ مَكَانًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ رِبَاطًا عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَالْعَجَمِ مَثَلًا أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الشُّرُوطِ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ أَقَارِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذُرِّيَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَلَا يَنْزِلُوا فِي هَذَا الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ أَوْ الْخَانْقَاهْ، بَلْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرَّضْوَانِ رضي الله عنهم بَيْنَ أَظْهُرِنَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ النُّزُولُ بِهَذَا الْمَكَانِ الْمَوْقُوفِ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَالِاشْتِغَالُ بِهَا وَالِاعْتِدَادُ بِهَا مِنْ أَسْمَجِ الْهَذَيَانِ، وَلَا تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَلَا يُنَفِّذُهَا مَنْ شَمَّ رَوَائِحَ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُونَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُبْتَدَعِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ كَأَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ وَالْإِذْنِ وَالشَّيِّرِ وَالْعَنْبَرِ وَأَكْلِ الْحَيَّاتِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، وَأَشْبَاهِ الذِّئَابِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرَّقْصِ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَحَقَّ بِالْمَكَانِ مِنْهُمْ، وَشُرُوطُ اللَّهِ أَحَقُّ.
فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دُونَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، فَكَيْفَ بِمَا شَرَعَ خِلَافَهُ، وَالْوَقْفُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَصْرِفِهِ وَجِهَتِهِ وَشَرْطِهِ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ صِفَةٌ وَحَالٌ فِي الْجِهَةِ وَالْمَصْرِفِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرِفُ قُرْبَةً وَطَاعَةً فَالشَّرْطُ كَذَلِكَ، وَلَا يَقْتَضِي الْفِقْهُ إلَّا هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ
أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ هَذَا نَفْسُ قَوْلِهِمْ، وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ فِي فَهْمِ أَقْوَالِهِمْ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا.
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، هَلْ يَصِحُّ وَيَتَقَيَّدُ الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ؟ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَتَقْيِيدِ الِاسْتِحْقَاقِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَقَالَ: هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ شَيْخُنَا عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَقَالَ: مَقْصُودُ الْفُقَهَاءِ بِذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ أَوْ بِالتَّعْيِينِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ عِبَادَةَ الصَّلِيبِ، وَقَوْلَهُمْ إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ، حَتَّى إنَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّبَعَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَقْفِ، فَيَكُونُ حِلُّ تَنَاوُلِهِ مَشْرُوطًا بِتَكْذِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكُفْرِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ وَصْفِ الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا؛ فَغَلُظَ طَبْعُ هَذَا الْفَتَى، وَكَثُفَ فَهْمُهُ، وَغَلُظَ حِجَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمَيِّزْ.
وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقِفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَهَذَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ ذَا قَرَابَةٍ فَلَا يَكُونُ الْغِنَى مَانِعًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جِهَةُ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْغِنَى، فَيَسْتَحِقُّ مَا دَامَ غَنِيًّا، فَإِذَا افْتَقَرَ وَاضْطَرَّ إلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ وَصَحِبَهُ الْخِذْلَانُ، وَلَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاشْتَدَّ إنْكَارُهُ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلَمَا أَقَرَّهُ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ قَدْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِنْ الرِّجَالِ عَزَبًا غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ، فَإِذَا تَأَهَّلَ حَرَّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلَ الْوَقْفِ لَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَنَكِيرُهُ عَلَيْهِ، بَلْ دِينُهُ يُخَالِفُ هَذَا، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَهُ مَالٌ أَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا، وَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَلَاثَةً عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَمُلْتَزِمُ هَذَا الشَّرْطِ حَقٌّ عَلَيْهِ عَدَمُ إعَانَةِ النَّاكِحِ.
وَمِنْ هَذَا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ إلَّا مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ النُّصُوصِ وَمَعْرِفَتِهَا، وَالتَّفَقُّهِ فِي مُتُونِهَا، وَالتَّمَسُّكِ بِهَا، إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ فَقِيهٍ مُعَيَّنٍ يَتْرُكُ لِقَوْلِهِ قَوْلَ مَنْ سِوَاهُ، بَلْ يَتْرُكُ النُّصُوصَ لِقَوْلِهِ، فَهَذَا شَرْطٌ مِنْ أَبْطَلْ الشُّرُوطِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يَقْضِيَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْتِزَامُهُ.
وَفِي بُطْلَانِ التَّوْلِيَةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى بُطْلَانِ الْعُقُودِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْمُفْتِيَ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَلَا يُفْتِيَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ،
وَطَرْدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْوَاقِفَ مَتَى شَرَطَ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ لَا يَنْظُرَ وَلَا يَشْتَغِلَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بِحَيْثُ يَهْجُرُ لَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ؛ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ قَطْعًا، وَلَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ، بَلْ وَلَا يَسُوغُ.
وَعَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَضَابِطُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يُطَاعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَنْ يُقَدَّمَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُؤَخَّرَ مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، [وَيُعْتَبَرَ مَا اعْتَبَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُلْغَى مَا أَلْغَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ] ، وَشُرُوطُ الْوَاقِفِينَ لَا تَزِيدُ عَلَى نَذْرِ النَّاذِرِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُوَفِّي مِنْ النُّذُورِ إلَّا بِمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْوَاقِفُ إنَّمَا نَقَلَ مَالَهُ لِمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَهُوَ الَّذِي رَضِيَ بِنَقْلِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِنَقْلِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَالْوَقْفُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ، فَإِذَا بَذَلَ الْجَاعِلُ مَالَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
قِيلَ: هَذَا مَنْشَأُ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِ ضَعَفَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، فَالْتَزَمُوا، وَأَلْزَمُوا مِنْ الشُّرُوطِ بِمَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ، وَأَرْضَى لَهُ مِنْهُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِالضَّرُورَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ.
وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ أَنَّ الْجَاعِلَ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي غَرَضِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ، إمَّا مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا؛ لِيَنَالَ غَرَضَهُ الَّذِي بَذَلَ فِيهِ مَالَهُ، وَأَمَّا الْوَاقِفُ فَإِنَّمَا يَبْذُلُ مَالَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَثَوَابِهِ، فَهُوَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ بَذْلِ مَالِهِ فِي أَغْرَاضِهِ أَحَبَّ أَنْ يَبْذُلَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هَذَا غَرَضُ الْوَاقِفِينَ، بَلْ وَلَا يَشُكُّ وَاقِفٌ أَنَّ هَذَا غَرَضُهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى مَلَّكَهُ الْمَالَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمْ يُمَلِّكْهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، بَلْ حَجَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَلَّكَهُ ثُلُثَهُ يُوصِي بِهِ بِمَا يَجُوزُ وَيَسُوغُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، حَتَّى إنْ حَافَ أَوْ جَارَ أَوْ أَثِمَ فِي وَصِيَّتِهِ جَازَ بَلْ وَجَبَ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَرَثَةِ رَدُّ ذَلِكَ الْجَوْرِ وَالْحَيْفِ وَالْإِثْمِ، وَرَفَعَ سُبْحَانَهُ الْإِثْمَ عَمَّنْ يَرُدُّ ذَلِكَ الْحَيْفَ وَالْإِثْمَ، مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْأَوْصِيَاءِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَحْبِيسِ مَالِهِ بَعْدَهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ، وَيُدْنِيهِ مِنْ رِضَاهُ، لَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ، وَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَحْبِيسِ مَالِهِ بَعْدَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَهُ أَبَدًا.
فَأَيْنَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ