الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[عُدُولُ الْمُفْتِي عَنْ السُّؤَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ]
لِلْمُفْتِي الْعُدُولُ عَنْ السُّؤَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:
يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ جَوَابِ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ بَيَانَ مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ عِلْمِ الْمُفْتِي وَفِقْهِهِ وَنُصْحِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] فَسَأَلُوهُ عَنْ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ؛ إذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ بِالسِّيَاقِ، مَعَ ذِكْرِهِ لَهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وَهُوَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ إنْفَاقُهُ وَلَا يَضُرُّهُمْ إخْرَاجُهُ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ ظُهُورِ الْهِلَالِ خَفِيًّا ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ فِيهِ النُّورُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَكْمُلَ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ، فَأَجَابَهُمْ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ مَوَاقِيتِ النَّاسِ الَّتِي بِهَا تَمَامُ مَصَالِحِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَوَاقِيتِ أَكْبَرِ عِبَادَتِهِمْ وَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ السَّبَبِ فَقَدْ أُجِيبُوا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ عَيْنِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَلَفْظُ سُؤَالِهِمْ مُحْتَمِلٌ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى يَتِمَّ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النَّقْصِ؟ .
[جَوَابُ الْمُفْتِي بِأَكْثَرَ مِنْ السُّؤَالِ]
[جَوَابُ الْمُفْتِي بِأَكْثَرَ مِنْ السُّؤَالِ] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ كَمَالِ نُصْحِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَمَنْ عَابَ ذَلِكَ فَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَضِيقِ عَطَنِهِ وَضَعْفِ نُصْحِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ: بَابُ مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرِ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ، فَأَجَابَ عَمَّا لَا يَلْبَسُ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْجَوَابَ عَمَّا يَلْبَسُ؛ فَإِنَّ مَا لَا يَلْبَسُ مَحْصُورٌ، وَمَا يَلْبَسُهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ النَّوْعَيْنِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ لُبْسِ الْخُفِّ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلِ، وَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُمْ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .
[مَنْعُ الْمُفْتِي الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ مَحْظُورٍ دَلَّ عَلَى مُبَاحٍ]
[إذَا مَنَعَ الْمُفْتِي مِنْ مَحْظُورِ دَلَّ عَلَى مُبَاحٍ] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:
مِنْ فِقْهِ الْمُفْتِي وَنُصْحِهِ إذَا سَأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَنْ شَيْءٍ فَمَنَعَهُ مِنْهُ،
وَكَانَتْ حَاجَتُهُ تَدْعُوهُ إلَيْهِ، أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ لَهُ مِنْهُ، فَيَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الْمَحْظُورِ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْمُبَاحِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ عَالِمٍ نَاصِحٍ مُشْفِقٍ قَدْ تَاجَرَ اللَّهَ وَعَامَلَهُ بِعِلْمِهِ.
فَمِثَالُهُ فِي الْعُلَمَاءِ مِثَالُ الطَّبِيبِ الْعَالِمِ النَّاصِحِ فِي الْأَطِبَّاءِ يَحْمِي الْعَلِيلَ عَمَّا يَضُرُّهُ، وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، فَهَذَا شَأْنُ أَطِبَّاءِ الْأَدْيَانِ وَالْأَبْدَانِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» .
وَهَذَا شَأْنُ خُلُقِ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَأَيْت شَيْخَنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ فِي فَتَاوِيهِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فَتَاوِيَهُ وَجَدَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهَا، «وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا أَنْ يَشْتَرِيَ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِصَاعَيْنِ مِنْ الرَّدِيءِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَاحِ، فَقَالَ بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَمَنَعَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْمُحَرَّمِ، وَأَرْشَدَهُ إلَى الطَّرِيقِ الْمُبَاحِ.
وَلَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي جِبَايَةِ الزَّكَاةِ؛ لِيُصِيبَا مَا يَتَزَوَّجَانِ بِهِ مَنَعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ مَحْمِيَةَ بْنَ جزو - وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ - أَنْ يُعْطِيَهُمَا مَا يَنْكِحَانِ بِهِ، فَمَنَعَهُمَا مِنْ الطَّرِيقِ الْمُحَرَّمِ، وَفَتَحَ لَهُمْ الطَّرِيقَ الْمُبَاحَ، وَهَذَا اقْتِدَاءٌ مِنْهُ بِرَبِّهِ تبارك وتعالى فَإِنَّهُ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَمْنَعُهُ إيَّاهَا، وَيُعْطِيهِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ وَأَنْفَعُ مِنْهَا، وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ وَالْحِكْمَةِ.
[يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ السَّائِلَ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُوهِمِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ:
إذَا أَفْتَى الْمُفْتِي لِلسَّائِلِ بِشَيْءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَازِ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ الْوَهْمُ مِنْهُ مِنْ خِلَافِ الصَّوَابِ، وَهَذَا بَابٌ لَطِيفٌ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ وَالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ.
وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَتْبَعَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ؛ رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إهْدَارِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانُوا فِي عَهْدِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» فَرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى أَنَّ دِمَاءَهُمْ هَدَرٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ أَحَدَهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَلَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ اللَّطِيفَةُ الْحَسَنَةُ عَلَى مَنْ قَالَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ، وَقَدَّرَ فِي الْحَدِيثِ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا نَوْعَ تَعْظِيمٍ لَهَا عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهَا حَتَّى تُجْعَلَ قِبْلَةً.
وَهَذَا بِعَيْنِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنِسَاءِ نَبِيِّهِ:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] فَنَهَاهُنَّ عَنْ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ، فَرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى الْإِذْنِ فِي الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ وَالتَّجَاوُزِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ:{وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى