الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْإِبْرَارُ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ]
الْإِبْرَارُ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ]
الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُجَامِعْك الْيَوْمَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ اغْتَسَلْتُ مِنْكِ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يُجَامِعُهَا، فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " اغْتَسَلْت " الْمُجَامَعَةَ.
وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَطَأَكِ فِي رَمَضَانَ، فَسَافَرَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ وَطِئَهَا، فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ، وَلَا يُعْجِبُنِي الْحِيلَةُ فِي هَذَا، وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَقْصُودًا مُبَاحًا، وَهَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ حِلِّ الْيَمِينِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَيُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ مُبَاحٌ؛ لِقَصْدٍ صَحِيحٍ، وَإِرَادَةِ حِلِّ يَمِينِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ.
وَقَدْ أَبَحْنَا لِمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ قَصِيرَةٌ لَا يَقْصِرُ فِيهَا وَبَعِيدَةٌ أَنْ يَسْلُكَ الْبَعِيدَةَ؛ لِيُقْصِرَ فِيهَا الصَّلَاةَ وَيُفْطِرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ سِوَى التَّرَخُّصِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى.
قُلْت: وَيُؤَيِّدُ اخْتِيَارَ الشَّيْخِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ أَنْبَأَ الْأَزْهَرِيُّ أَنْبَأَ سُهَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَثُ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ثنا أُبَيٌّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ عليه السلام فِي رَجُلٍ حَلَفَ فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ يَطَأْهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَهَارًا، قَالَ: يُسَافِرُ ثُمَّ يُجَامِعُهَا نَهَارًا.
[الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْمَخَارِجُ مِنْ التَّحْلِيلِ فِي الطَّلَاقِ]
[الْمَخَارِجُ مِنْ التَّحْلِيلِ فِي الطَّلَاقِ]
الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: فِي الْمَخَارِجِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَاعِلَهُ وَالْمُطَلِّقَ الْمُحَلَّلَ لَهُ، فَأَيُّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ خَرَجَ بِهِ مِنْ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَعْذَرَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ارْتِكَابِهِ لِمَا يُلْعَنُ عَلَيْهِ، وَمَبَاءَتِهِ بِاللَّعْنَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَخَارِجَ الَّتِي نَذْكُرُهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ، بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ، أَوْ أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ، أَوْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ، أَوْ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ أَوْ إمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ أَتْبَاعِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تَخْرُجُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الَّتِي نَذْكُرُهَا عَنْ
ذَلِكَ، فَلَا يَكَادُ يُوصَلُ إلَى التَّحْلِيلِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ جَمِيعِهَا إلَّا فِي أَنْدَرِ النَّادِرِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ نَصَحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ، وَنَصَحَ نَفْسَهُ وَنَصَحَ عِبَادَهُ أَنَّ أَيًّا مِنْهَا ارْتَكَبَ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ.
[الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ زَائِلَ الْعَقْلِ]
الْمَخْرَجُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ أَوْ الْحَالِفُ زَائِلَ الْعَقْلِ إمَّا بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ شُرْبِ مُسْكِرٍ يُعْذَرُ بِهِ أَوْ لَا يُعْذَرُ أَوْ وَسْوَسَةٌ، وَهَذَا الْمُخَلِّصُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إلَّا فِي شُرْبِ مُسْكِرٍ لَا يُعْذَرُ بِهِ، فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.
[طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشَّكِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَتَلَا الشَّعْبِيُّ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ، «، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ» وَقَالَ «عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفِيَّ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِآبَائِي؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ» .
قَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ، وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ.
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ، هَذَا لَفْظُ التَّرْجَمَةِ، ثُمَّ سَاقَ بَقِيَّةَ الْبَابِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ خَالَفَ عُثْمَانَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ رَجَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُفْتِي بِنُفُوذِ طَلَاقِهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ الشَّافِي وَالزَّادِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: قَدْ كُنْت أَقُولُ بِأَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَجُوزُ، حَتَّى تَبَيَّنْتَهُ، فَغَلَبَ عَلَيَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ بَاعَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ.
قَالَ: وَأُلْزِمُهُ الْجِنَايَةَ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ، وَفِي مَسَائِلِ الْمَيْمُونِيِّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ طَلَاقِ السَّكْرَانِ، فَقَالَ: أَكْثَرُ مَا عِنْدِي فِيهِ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، قُلْت: أَلَيْسَ كُنْت مَرَّةً تَخَافُ أَنْ يَلْزَمَهُ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ أَكْثَرُ مَا عِنْدِي فِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، قُلْت: السُّكْرُ شَيْءٌ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ، قَالَ: قَدْ يَشْرَبُ رَجُلٌ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ، قُلْت: فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَإِقْرَارُهُ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: أَرْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ " لَيْسَ لِمَجْنُونٍ، وَلَا سَكْرَانَ طَلَاقٌ ".
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَاَلَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ قَدْ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَأَحَلَّهَا لِغَيْرِهِ، فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَأَنَا اتَّقِي جَمِيعَهَا.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ نُفُوذِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ.
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيّ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَهُمَا.
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي النِّهَايَةِ، وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَنَصَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَمِنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْ الظِّهَارِ قَوْلًا إلَى الطَّلَاقِ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ حُكْمَ النَّصَّيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بِطَائِلٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِأَقْوَالِهِ مِنْ طَلَاقٍ، وَلَا عَتَاقٍ، وَلَا بَيْعٍ، وَلَا هِبَةٍ، وَلَا وَقْفٍ، وَلَا إسْلَامٍ، وَلَا رِدَّةٍ، وَلَا إقْرَارٍ؛ لِبِضْعَةِ عَشَرَ دَلِيلًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا، وَيَكْفِي مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَدَمُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ بِتَجْدِيدِ إسْلَامِهِ لَمَّا قَالَ فِي سُكْرِهِ " أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِآبَائِي " وَفَتْوَى عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمَحْضُ عَلَى زَائِلِ الْعَقْلِ بِدَوَاءٍ أَوْ بَنْجٍ أَوْ مُسْكِرٍ هُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَا قَصْدَ لَهُ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ مِنْ اللَّاغِي، وَمَنْ جَرَى اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ، وَقَالُوا: لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَعْتُوهِ، وَهُوَ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ، وَلَا يَشْتُمُ كَمَا يَفْعَلُ الْمَجْنُونُ.
فَصْلٌ:
[الْمَخْرَجُ الثَّانِي وَيَشْتَمِلُ عَلَى الْقَوْلِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ]
الْمَخْرَجُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَحْلِفَ فِي حَالِ غَضَبٍ شَدِيدٍ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَمَالِ قَصْدِهِ وَتَصَوُّرِهِ؛ فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَا عِتْقُهُ، وَلَا وَقْفُهُ، وَلَوْ بَدَرَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكْفُرْ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْغَلْقِ وَالْإِغْلَاقِ الَّذِي مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِيهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ زَادِ الْمُسَافِرِ لَهُ: بَابٌ فِي الْإِغْلَاقِ فِي الطَّلَاقِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: وَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا طَلَاقَ، وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ» يَعْنِي الْغَضَبَ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَالْإِغْلَاقُ أَظُنُّهُ الْغَضَبَ.
وَقَسَّمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ الْغَضَبَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُزِيلُ الْعَقْلَ كَالسُّكْرِ، فَهَذَا لَا يَقَعُ مَعَهُ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ.
وَقِسْمٌ يَكُونُ فِي مَبَادِئِهِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَصَوُّرِ مَا يَقُولُ وَقَصْدُهُ، فَهَذَا يَقَعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ.
وَقِسْمٌ يَشْتَدُّ بِصَاحِبِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ زَوَالَ عَقْلِهِ، بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّثَبُّتِ وَالتَّرَوِّي وَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالِ اعْتِدَالِهِ، فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَلْقَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ انْغَلَقَ عَلَيْهِ طَرِيقُ قَصْدِهِ وَتَصَوُّرِهِ كَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمُكْرَهِ وَالْغَضْبَانِ، فَحَالُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ حَالُ إغْلَاقٍ، وَالطَّلَاقُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ وَطَرٍ؛ فَيَكُونُ عَنْ قَصْدِ الْمُطَلِّقِ وَتَصَوُّرٍ لِمَا يَقْصِدُهُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ": أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَقُولَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، أَوْ خَرَجْت مِنْ بَيْتِي بِغَيْرِ إذْنِي، ثُمَّ بَدَا لِي فَتَرَكْت الْيَمِينَ، وَلَمْ أُرِدْ التَّنْجِيزَ فِي الْحَالِ، إنَّهُ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ التَّنْجِيزَ، وَلَمْ يُتِمَّ الْيَمِينَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ " أَنْتِ طَاهِرٌ " فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لَا فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَقَعُ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ عُمَارَةَ سُئِلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ غَلِطَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَلَطٌ، ثنا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرٍ فِي رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ فَغَلِطَ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.
فَصْلٌ:
[الْمَخْرَجُ الثَّالِثُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى الْقَوْلِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ]
الْمَخْرَجُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ الْحَلِفِ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِكْرَاهِ وَشُرُوطِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: يَمِينُ الْمُسْتَكْرَهِ إذَا ضُرِبَ.
ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُرِيَاهُ شَيْئًا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا طَلَّقَ الْمُكْرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، فَإِذَا فَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِثَابِتِ بْنِ الْأَحْنَفِ فَهُوَ مُكْرَهٌ؛ لِأَنَّ ثَابِتًا عَصَرُوا رِجْلَهُ حَتَّى طَلَّقَ، فَأَتَى ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَرَيَا ذَلِكَ شَيْئًا، وَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَلِلْكُفْرِ أَحْكَامٌ، فَلَمَّا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَقَطَتْ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ عَنْ الْقَوْلِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ عَنْ النَّاسِ سَقَطَ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي» وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا تُوَسْوِسُ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ» .
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: «وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَا طَلَاقَ لِمُكْرَهٍ، وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ وَابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَجُزْ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ طَلَاقَهُ غَيْرَ جَائِزٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدِينِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَلَا الْمُضْطَهَدِ طَلَاقٌ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى أَهْل الْمَدِينَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَا لَا يَرَيَانِ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا، ثنا وَكِيعٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا.
قُلْت: قَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْجُمَحِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا تَدَلَّى يَشْتَارُ عَسَلًا فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَوَقَفَتْ عَلَى الْحَبْلِ، فَحَلَفَتْ لَتَقْطَعَنَّهُ أَوْ لِتُطَلِّقْنِي ثَلَاثًا، فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، فَأَبَتْ إلَّا ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. فَلَمَّا ظَهَرَ أَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهَا إلَيْهِ وَمِنْهُ إلَيْهَا، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى أَهْلِك فَلَيْسَ هَذَا بِطَلَاقٍ، تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بِهَذَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: فَرَفَعَ إلَى عُمَرَ فَأَبَانَهَا مِنْهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ خِلَافُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَنْفِيذُ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ سِوَى هَذَا الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ إبَانَتُهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْوُقُوعِ، بَلْ لَعَلَّهُ رَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُمَا لَا يَتَصَافَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَلْزَمَهُ بِإِبَانَتِهَا.
وَلَكِنَّ الشَّعْبِيَّ وَشُرَيْحًا وَإِبْرَاهِيمَ يُجِيزُونَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ: لَوْ وَضَعَ السَّيْفَ عَلَى مَفْرِقِهِ ثُمَّ طَلَّقَ لَأَجَزْتُ طَلَاقَهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: قَالَ ابْنُ شَيْبَةَ: ثنا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ الْعَتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَقَالَ: إذَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ جَازَ، وَإِذَا أَكْرَهَهُ اللُّصُوصُ لَمْ يَجُزْ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ غَوْرٌ وَفِقْهٌ دَقِيقٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
فَصْلٌ:
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُكْرَهِ يَظُنُّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهِ فَيَنْوِيهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَمَنْ أَلْزَمَهُ رَأَى أَنَّ النِّيَّةَ قَدْ قَارَنَتْ اللَّفْظَ، وَهُوَ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى النِّيَّةِ، فَقَدْ أَتَى بِالطَّلَاقِ الْمَنْوِيِّ اخْتِيَارًا فَلَزِمَهُ، وَمَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ بِهِ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، وَهِيَ لَا تَسْتَقِلُّ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ.
فَصْلٌ:
وَاخْتُلِفَ فِي مَا لَوْ أَمْكَنَهُ التَّوْرِيَةُ فَلَمْ يُوَرِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ تَرَكَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ التَّوْرِيَةَ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، مَعَ أَنَّ التَّوْرِيَةَ هُنَاكَ أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِمَعْنَاهُ، وَلَا مُرِيدٍ لِمُوجِبِهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِدَاءً لِنَفْسِهِ مِنْ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ، فَصَارَ تَكَلُّمُهُ بِاللَّفْظِ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَمَنْ لَا قَصْدَ لَهُ، سَوَاءٌ وَرَّى أَوْ لَمْ يُوَرِّ.
وَأَيْضًا فَاشْتِرَاطُ التَّوْرِيَةِ إبْطَالٌ لِرُخْصَةِ التَّكَلُّمِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَرُجُوعٌ إلَى الْقَوْلِ بِنُفُوذِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَرَّى بِغَيْرِ إكْرَاهٍ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَالتَّأْثِيرُ إذًا إنَّمَا هُوَ لِلتَّوْرِيَةِ لَا لِلْإِكْرَاهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُوَرِّيَ إنَّمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ مَعَ قَصْدِهِ لِلتَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي الْإِكْرَاهِ، فَالْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ النُّفُوذِ فِي التَّوْرِيَةِ هُوَ الَّذِي مَنَعَ النُّفُوذَ فِي الْإِكْرَاهِ.