الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمَا، وَكَذَلِكَ الرَّاوِي لَا تَبْطُلُ رِوَايَتُهُ بِمَوْتِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُفْتِي لَا تَبْطُلُ فَتْوَاهُ بِمَوْتِهِ، وَمَنْ قَالَ: تَبْطُلُ فَتْوَاهُ بِمَوْتِهِ قَالَ: أَهْلِيَّتُهُ زَالَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ عَاشَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُفْتِي أَبُو الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنْ مَاتَ الْمُفْتِي قَبْلَ عَمَلِ الْمُسْتَفْتِي فَلَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا يَعْمَلُ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ فَهَلْ يَسْتَفْتِي مِنْ جَدِيدٍ]
[إذَا تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ فَهَلْ يَسْتَفْتِي مِنْ جَدِيدٍ؟] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ: إذَا اسْتَفْتَاهُ عَنْ حُكْمِ حَادِثَةٍ فَأَفْتَاهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِتِلْكَ الْفَتْوَى الْأُولَى أَمْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِفْتَاءُ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ قَالَ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى وَإِنْ أَمْكَنَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْإِفْتَاءِ وَإِنْ جَازَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بَقَاءِ الْمُفْتِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيَكُونَ الْمُسْتَفْتِي قَدْ عَمِلَ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ مَنْ اسْتَفْتَاهُ، وَلِهَذَا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِ الْحَيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلِيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ
[هَلْ يَلْزَمُ اسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ إذَا تعدد الْمَفْتُون]
[هَلْ يَلْزَمُ اسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ؟] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ: هَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وَيَسْأَلَ الْأَعْلَمَ وَالْأَدْيَنَ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ كَمَا سَبَقَ، وَبَيَّنَّا مَأْخَذَهُمَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَأْمُورِ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ أَحَدُهُمَا أَوَرَعُ، وَالْآخَرُ أَعْلَمُ فَأَيُّهُمَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبُ سَبَقَ تَوْجِيهُهَا.
[هَلْ يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَة أُمّ لَا]
وَهَلْ يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ: [هَلْ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ؟] أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ دِينَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ انْطَوَتْ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ مُبَرَّأَةً مُبَرَّأَ أَهْلِهَا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ، بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبٌ وَلَوْ تَمَذْهَبَ بِهِ؛ فَالْعَامِّيُّ لَا مَذْهَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِالْمَذَاهِبِ عَلَى حَسْبِهِ، أَوْ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي فُرُوعِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَعَرَفَ فَتَاوَى إمَامِهِ وَأَقْوَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بَلْ قَالَ: أَنَا شَافِعِيٌّ، أَوْ
حَنْبَلِيٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا فَقِيهٌ، أَوْ نَحْوِيٌّ، أَوْ كَاتِبٌ، لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَائِلَ إنَّهُ شَافِعِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِذَلِكَ الْإِمَامِ، سَالِكٌ طَرِيقَهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَهُ إذَا سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَأَمَّا مَعَ جَهْلِهِ وَبُعْدِهِ جِدًّا عَنْ سِيرَةِ الْإِمَامِ وَعِلْمِهِ وَطَرِيقِهِ فَكَيْف يَصِحُّ لَهُ الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا بِالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ وَالْقَوْلِ الْفَارِغِ مِنْ كُلِّ مَعْنًى؟ وَالْعَامِّيُّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِحَّ لَهُ مَذْهَبٌ، وَلَوْ تَصَوَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا قَطُّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِحَيْثُ يَأْخُذُ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا وَيَدْعُ أَقْوَالَ غَيْرِهِ.
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ حَدَثَتْ فِي الْأُمَّةِ، لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ أَعْلَى رُتْبَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَنْ يُلْزِمُوا النَّاسَ بِذَلِكَ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ عَالِمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، مَاتَتْ مَذَاهِبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَذَاهِبُ التَّابِعِينَ وَتَابِعَيْهِمْ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَطَلَتْ جُمْلَةٌ إلَّا مَذَاهِبَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ فَقَطْ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَهَلْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ دَعَا إلَيْهِ أَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ؟ وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّتُهُ أَوْ قَدْرُهُ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ فَذَلِكَ أَيْضًا تَابِعٌ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ صَحَّحَ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبًا قَالَ: هُوَ قَدْ اعْتَقَدَ أَنْ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَوْ صَحَّ لَلَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ اسْتِفْتَاءِ أَهْلِ غَيْرِ الْمَذْهَبِ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ، وَتَحْرِيمُ تَمَذْهُبِهِ بِمَذْهَبِ نَظِيرِ إمَامِهِ أَوْ أَرْجَحَ مِنْهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي يَدُلُّ فَسَادُهَا عَلَى فَسَادِ مَلْزُومَاتِهَا، بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا رَأَى نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَوْلَ خُلَفَائِهِ الْأَرْبَعَةَ مَعَ غَيْرِ إمَامِهِ أَنْ يَتْرُكَ النَّصَّ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهَا قَوْلَ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِحَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ، بَلْ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ حِجَازِيًّا