الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع عشر باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليهما كان والممتنع دخولها عليهما لاشتمال المبتدأ على استفهام
[ظن وأخواتها وحكم المفعولين معها]
قال ابن مالك: (فتنصبهما مفعولين ولا يحذفان معا أو أحدهما إلّا بدليل ولهما من التّقديم والتّأخير ما لهما مجرّدين ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر «كان» فإن وقع موقعهما ظرف أو شبهه أو ضمير أو اسم إشارة امتنع الاقتصار عليه إن كان أحدهما لا إن لم يكنه ولم يعلم المحذوف).
قال ناظر الجيش: قال [2/ 164] المصنف (1): أفعال هذا الباب هي النوع الثالث من نواسخ الابتداء وآخر أبوابها، لأن جزأي الإسناد فيه مستويان في النصب كما هما في باب الابتداء مستويان في الرفع، فجعلا طرفين في الترتيب واكتنفا بأن «كان» و «إنّ» لأن أحد الجزأين فيهما مرفوع والآخر منصوب فلم يفترقا، وقد تقدم بيان ما تدخل عليه كان وما لا تدخل عليه، فلذلك أحلت عليه (2).
إلا أن مما لا يدخل عليه «كان» ما اشتمل عليه من المبتدآت على استفهام نحو:
أيهم أفضل، وغلام من عندك، فهذا النوع لا يمتنع دخول أفعال هذا الباب عليه «كما امتنع دخول كان عليه» (3)، فلذلك قلت بعد: الداخل عليهما «كان» :
والممتنع دخولها عليهما لاشتمال المبتدأ على استفهام فيقال في أيهم أفضل، وغلام من عنده، أيهم ظننت (4) وغلام من ظننت عنده، ولا يحذف أحدهما إلا بدليل، -
(1) شرح التسهيل لابن مالك: (2/ 72) تحقيق د/ عبد الصمد السيد، ود/ بدوي المختون.
(2)
انظر باب كان وأخواتها. فقد بين المصنف هناك ما تدخل عليه «كان» وما لا تدخل عليه، وينظر في هذه المسألة أيضا شرح الجمل لابن عصفور (1/ 379) تحقيق د/ صاحب أبو جناح، ط مؤسسة دار الكتب العراقية.
(3)
جاز دخول أفعال هذا الباب على المبتدأ الذي هو اسم استفهام أو مضاف إليه لأنه يجوز أن يقدم عليها نحو: أيهم ظننت أفضل ولم يجز أن تدخل عليه كان لأن اسمها لا يقدم عليها. ينظر حاشية الصبان (2/ 18).
(4)
زاد في (ب)(أفضل) بعد قوله (أيهم ظننت).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا يجوز لك في: ظننت زيدا منطلقا أن نقتصر على منطلق، ولا على زيد لئلّا تذكر خبرا دون مخبر عنه أو مخبرا عنه دون خبر.
فإن دلّ دليل على المحذوف جاز الحذف كقولك: (قائما) لمن قال: (ما ظننت زيدا) وزيدا لمن قال: من ظننت قائما (1).
قال عنترة: -
1089 -
ولقد نزلت فلا تظنّي غيره
…
منّي بمنزلة المحبّ المكرم (2)
أي فلا تظني غيره كائنا.
وقال الآخر:
1090 -
كأن لم يكن بين إذا كان بعده
…
تلاق ولكن إخال تلاقيا (3)
أي لا إخال الكائن تلاقيا، أو لا إخال بعد البين تلاقيا.
ومن الحذف لدليل قول الشاعر: -
(1) المقصود من قول المصنف «ولا يحذف أحدهما إلا بدليل» هو ما يعبر عنه النحاة بحذف الاختصار وأما الحذف من غير دليل فهو حذف الاقتصار.
ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 312) ط مؤسسة دار الكتب العراقية. والتصريح (1/ 260)، وشرح الألفية للمرادي (1/ 389).
(2)
البيت من الكامل وهو في شرح الجمل لابن عصفور (1/ 312) ط دار الكتب العراقية، والتذييل (2/ 944)، والمقرب (1/ 117)، والخصائص (2/ 216)، والمحتسب (1/ 78)، والخزانة (1/ 539)، (4/ 214)، وشذور الذهب (ص 452)، وشرح الألفية للمرادي (1/ 389)، وشرح ابن عقيل بحاشية الخضري (1/ 154)، وشرح شواهده (ص 97)، والتصريح (1/ 260)، والهمع (1/ 252)، والدرر (1/ 134)، والأشموني (2/ 35)، وديوانه (ص 119) ط بيروت، وأوضح المسالك (1/ 125).
والشاهد قوله: (فلا تظني غيره) حيث إن المفعول الثاني لتظني محذوف والأول هو قوله «غيره» والتقدير فلا تظني غيره واقعا أو نحو ذلك والحذف هنا للاختصار.
(3)
البيت من بحر الطويل، قيل: هو لابن الدمينة أو قيس بن معاذ وهو في التذييل (2/ 946)، وشرح الحماسة للتبريزي (3/ 294) بدون نسبة وروايته فيه (التلاقيا) مكان (تلاقيا) وسمط اللآلئ (ص 842)، وزيادات ديوان ابن الدمينة (ص 206)، برواية «نأى» مكان «بين» .
والشاهد قوله: (ولكن لا إخال تلاقيا) حيث حذف أحد مفعولي «إخال» اختصارا وهو إما المفعول الأول أو المفعول الثاني فإن كان الأول فالتقدير لا إخال الكائن تلاقيا وإن كان الثاني فيكون التقدير لا إخال تلاقيا بعد البين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
1091 -
وأنت غريم لا أظنّ قضاءه
…
ولا العنزيّ القارظ الدّهر جائيا (1)
وقد يحذفان معا إن وجدت فائدة: كقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2)، وقوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (3) ومنه قول العرب:
«من يسمع يخل» (4)، وقول الشاعر (5):
1092 -
بأيّ كتاب أم بأي سنّة
…
ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (6)
فلو لم يقارن الحذف قرينة يحصل بسببها فائدة لم يجز كاقتصارك على أظن من قولك: (أظن زيدا منطلقا)، فإنه غير جائز فإن غرضك الإعلام بأن إدراكك لمضمون الجملة بظن لا يتعين فتنزل أظن من جزأي الحديث منزلة في ظني، فكما لا يجوز لمن قال:(زيد منطلق في ظنّي) أن يقتصر على (في ظني)، كذا لا يجوز لمن قال:(أظن زيدا منطلقا) أن يقتصر على أظن، ولأن قائل أظن أو أعلم دون قرينة يدل على تحدد ظن أو علم بمنزلة قائل:(النار حارة) في عدم الفائدة إذ لا -
(1) البيت من الطويل لذي الرمة وهو في التذييل (2/ 946)، والأشموني بحاشية الصبان (3/ 119)، وديوانه (ص 1307).
اللغة: العنزي: نسبة إلى قبيلة عنزة. القارظ: أحد رجلين خرجا يجنيان القرظ فلم يرجعا أصلا فضرب بهما المثل.
والشاهد قوله: (لا أظن قضاءه) حيث حذف المفعول الثاني لأظن والتقدير لا أظن قضاءه واقعا.
(2)
سورة البقرة: 216.
(3)
سورة النجم: 35.
(4)
المثل في مجمع الأمثال للميداني (2/ 300) تحقيق محمد محيي الدين، وجمهرة العرب (2/ 263)، والكافي شرح الهادي (ص 413)،
وأسرار العربية (ص 159)، والمعنى: من يسمع أخبار الناس ومعايبهم يقع في نفسه عليهم المكروه والمثل يضرب في ذم مخالطة الناس واستحباب الاجتناب.
(5)
وهو للكميت بن زيد الأسدي.
(6)
البيت من الطويل وهو في المحتسب (1/ 173)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 310) ط العراق، والمقرب (1/ 116)، والتذييل (2/ 939، 940)، والخزانة (4/ 5)، والعيني (2/ 413)، وشرح الألفية للمرادي (1/ 388)، وشرح الكافية للرضي (2/ 279)، وشرح المكودي على الألفية (ص 69)، وشرح ابن عقيل بحاشية الخضري (1/ 154)، وشرح شواهده (ص 96)، والتصريح (1/ 259)، والهمع (1/ 152)، والدرر (1/ 134)، والأشموني (2/ 35).
والشاهد في قوله: (وتحسب) حيث حذف مفعولاه والتقدير وتحسبه عارا عليّ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يخلو إنسان من ظن «ما» ولا من منع (1) ما ومنع الاقتصار على أظن وغيره على الوجه المذكور هو مذهب سيبويه (2) والمحققين ممن تدبر كلامه كأبي الحسن بن خروف وابن طاهر (3)، وأبي علي الشلوبين (4).
ومما يدل على ذلك من كلام سيبويه قوله في باب إضمار المفعولين اللذين [2/ 165] يتعدى إليهما فعل الفاعل: «وذلك أن حسبت بمنزلة كان إنما يدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال، ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبان بعد «حسبت» بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد «ليس» و «كان» ، وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبت، وكان» (5) هذا نصه.
فصرح بأن حسبت مع مرفوعها في احتياج إلى المنصوبين بمنزلة «ليس» و «كان» في احتياجهما إلى المرفوع والمنصوب، فكما لا يقتصر على «ليس» و «كان» دون المرفوع والمنصوب لا يقتصر على «حسبت» ومرفوعها دون المنصوبين، وهذا واضح، ويؤيده قوله في آخر الباب الذي يلي الباب المشار إليه بعد ذكر حسبت وأخواتها: والأفعال الأخر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ والأسماء مبنية عليها، ألا ترى أنك تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبني على المبتدأ يريد أنك تقتصر على ضربت، كما تقتصر على المبتدأ وخبره. ثم قال: فلما صار «حسبت» وأخواتها بتلك المنزلة جعلت بمنزلة إنّ وأخواتها إذا قلت «إني» و «لعلي» لأن «إنّ» وأخواتها لا يقتصر على الأسم الذي يقع بعدها (6) فجعل افتقار «حسبت» وأخواتها مع فاعلها إلى الجزأين كافتقار «إنّ» و «لعل» مع منصوبيهما إلى الخبر وهذا أيضا واضح. -
(1) ينظر شرح الألفية للمرادي (1/ 391)، والجامع الصغير لابن هشام (ص 73)، وشرح الألفية لابن الناظم (ص 79).
(2)
ينظر: الكتاب (2/ 365 - 366).
(3)
سبقت ترجمته.
(4)
ينظر في هذه الأراء: شرح الصفار للكتاب (ق 46 / أ)، والتوطئة للشلوبين (ص 163)، وقد منع الاقتصار فقال: فهذا الباب لا يجوز فيه الاقتصار. اه. وينظر التذييل (2/ 940).
(5)
الكتاب (2/ 365 - 366).
(6)
الكتاب (2/ 368).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفي الكلام تسوية بين حسبت وأخواتها نعم إنه حين قال: لأنك قد تقول:
ظننت فيقتصر، لم يقصد الإطلاق والاختصاص، بل قصد التنبيه على أن بعض المواضع قد يقتصر فيه على الفعل ومرفوعه لقرينة تحصل بها الفائدة واكتفي بظننت اختصارا واتكالا على العلم بمساواة غير ظننت لظننت، وذهب ابن السراج (1) والسيرافي إلى جواز الاقتصار على مرفوع هذه الأفعال مطلقا (2) وكان الذي دعاهما لهذا أن الأخفش قال في كتابه المسمى بالمسائل الصغرى: تقول: خبرت عبد الله، وظن عبد الله، وأعلم عبد الله، إذا كنت تخبر عن الفعل (3) هذا نصه. والذي عندي في هذا أن الأخفش لم يقصد جواز الاقتصار مطلقا، بل مع قرينة محصلة للفائدة، كقولك لمن قال:(من ظنني ذاهبا؟): (ظن عبد الله)، ولمن قال:
(من أعلمك أني ذاهب؟): (أعلم عبد الله) ولذلك قال: إذا كنت تخبر، فإن الناطق بما لا فائدة فيه ليس بمخبر.
وأشرت بقولي: «ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين» إلى أن الأصل تقديم المفعول الأول وتأخير المفعول الثاني، وأنه قد يعرض ما يوجب البقاء على الأصل، وما يوجب الخروج عنه، كما يعرض في باب الابتداء، فإن لم يعرض موجب لأحد الأمرين جاز التقديم والتأخير فمن [2/ 166] موجبات البقاء على الأصل: تساويهما في تعريف أو تنكير (4)، نحو: ظننت زيدا صديقك وعلمت خيرا منك فقيرا إليك، ومن موجبات الخروج عن الأصل حصر المفعول الثاني (5) نحو: ما ظننت زيدا إلا بخيلا، وقد بينت أسباب البقاء على الأصل والخروج عنه في باب الابتداء مستوفاة فأغنى ذلك عن استيفائها هنا وأكتفي بالإحالة -
(1) سبقت ترجمة ابن السراج.
(2)
ينظر: أصول النحو لابن السراج (1/ 216 - 217)، وشرح السيرافي للكتاب (1/ 100 - 101) تحقيق د/ سيد شرف الدين، (2/ 620) تحقيق د/ دردير محمد أبو السعود.
(3)
ينظر: التذييل: (2/ 940)، وشرح الصفار للكتاب (ق 46 / أ).
(4)
لأنه لو قدم الخبر على المبتدأ وهما متساويان تعريفا وتنكيرا لا يعلم أن المقدم هو الخبر إذ ليس هناك سبب لتقديمه حينئذ.
(5)
في (ب) حصر المفعول الأول نحو: «ما ظننت بخيلا إلا زيدا» وقد أشار الناسخ في هامش (أ) إلى هذه الزيادة بقوله: لعل الأول نحو: ما ظننت بخيلا إلا زيدا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عليها (1).
ثم قلت: ولثانيهما من الأقسام والأحوال فالخبر «كان» أي لثاني مفعولي هذه الأفعال من ذلك ما لخبر «كان» (2) وإنما كان ما قرر لذلك لتساويهما في الخبرية، واستحقاق النصب، وقد ذكرت الأقسام والأحوال هناك فلم يكن هنا حاجة إلى ذكرها، وقد يقع بعد إسناد هذه الأفعال إلى فاعليها ظرف أو جار ومجرور، أو ضمير أو اسم إشارة فيمتنع الاقتصار عليه إن كان أحد المفعولين لا إن لم يكن أحدهما فالاقتصار على «عندك» إذا قلت: ظننت عندك - جائز، إن جعل ظرفا لحصول الظن، وغير جائز إن جعل مفعولا ثانيا والآخر محذوف والاقتصار على لك إذا قلت: ظننت لك جائز إن جعل علة لحصول الظن، وغير جائز إن جعل مفعولا ثانيا، والآخر محذوف وكذا لو قلت: ظننته أو ظننت ذاك مقتصر جاز إن عني بالضمير واسم الإشارة المصدر ولم يجز إن عني أحد المفعولين، ولم يفهم الآخر بدليل كقول من قيل له:(أظننته صديقك؟): (نعم ظننته)(3)، وقال الفراء في «ظننت ذاك»:
ذاك اسم إشارة إلى الحديث أجرته العرب مجرى المفعولين يقول القائل: كان من الأمر كذا وكذا فيقول المخبر: قد ظننت ذاك، قال ابن خروف: وهو قول لا بأس به، وقال أبو زيد في مصادره: خلت ذاك أخاله خالا، والأظهر أن يكون ذاك إشارة إلى الحديث لذكره المصدر بعده (4). انتهى.
وهو كلام مختصر نظيف واف بالمقصود يشنف الأسماع ويستميل الطباع.
لكن ثمّ أمور ننبه عليها:
منها: أن السهيلي نازع في كون مفعولي هذه الأفعال أصلهما المبتدأ والخبر مستدلا بأنك تقول: ظننت زيدا عمرا، ولا يجوز أن تقول: زيد عمرو إلا على -
(1) ينظر: باب الابتداء ومسائل تقديم الخبر.
(2)
أي من جواز تقديمه أو وجوب تأخيره ونحو ذلك. ينظر شرح عمدة الحافظ (ص 146).
(3)
ينظر: الهمع (1/ 152).
(4)
ينظر: الإيضاح للفارسي (ص 137)، والتذييل (2/ 949)، وقد ذكر أبو حيان أن هذا مذهب المازني أيضا وينظر شرح الكافية للرضي (2/ 278).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
جهة التشبيه، وأنت لم ترد ذلك مع ظننت (1)، ولك أن تدعي أن من قال: ظننت زيدا عمرا صح عنده قبل دخول ظننت أن يكون زيد عمرو مبتدأ وخبرا، لأن حقيقة ظننت زيدا عمرا، ظننت المسمى زيدا المسمى عمرا. وإذا كان كذلك صح أن يقال: المسمى زيدا في نفس الأمر هو المسمى عمرا عندي، فقد صح الإخبار بالثاني عن الأول، باعتبار ما يتوهمه المتكلم، وإن كان ذلك ليس بصحيح في الواقع، وإذا كان كذلك فظننت [2/ 167] في قول القائل: ظننت زيدا عمرا إنما دخلت على ما كان مبتدأ وخبرا عنده، فهو يخبر بذلك منبها على غلطه أولا.
ومنها: أنهم قالوا: إن حق هذه الأفعال المذكورة في هذا الباب أن لا تعمل، لأن كل عامل يدخل على الجملة، فإنه لا يعمل فيها نحو قولك: قال زيد عمرو منطلق، وقرأت «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» *، قالوا: لكنها شبهت بأفعال باب أعطيت في أنها أفعال كما أن تلك أفعال وتطلب اسمين كطلبها، فلذلك نصبت المفعولين قال. وإنما لم يشبه «قال» و «قرأت» بأعطيت فتنصب بهما لأن ظننت وأخواتها لا يليها إلا اسمان أو ما هو بمنزلتهما كما أن أعطيت وأخواتها لا تطلب إلا اسمين. وقال وقرأت قد تدخل بعدهما الجمل الفعلية نحو: قال زيد قائم عمرو، وقرأت «اقتربت السّاعة» فكانت ظننت وأخواتها أشبه بأعطيت وأخواتها من «قلت» و «قرأت» وأمثالهما، قالوا: ولكون حق هذه الأفعال أن لا تعمل انفردت بجواز -
(1) ما قاله السهيلي في نتائج الفكر (ص 277) من قسم التحقيق يخالف ما ذكره عنه ناظر الجيش هنا فالسهيلي قد بين هناك أن المنصوبين بعد علمت وظننت لم يكونا مفعولين في الحقيقة وإنما هي مبتدأ وخبر يقول السهيلي: وأما نصب علمت وظننت لمفعولين فليس هنا مفعولان في الحقيقة إنما هو المبتدأ والخبر وهو حديث إما معلوم وإما مظنون، فكان حق الاسم الأول أن يرتفع بالابتداء والثاني بالخبر ويلغى الفعل لأنه لا تأثير له في الاسم، وإنما التأثير لعرفت المتعلقة بالاسم المفرد يقينا وتمييزا، ولكنهم أرادوا تشبث علمت بالجملة التي هي الحديث؛ كيلا يتوهم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله، لأن الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله. اه.
وقد ذكر هذه المخالفة د/ سيد تقي الدين في تحقيقه للتذييل والتكميل أيضا حيث قال: الذي في نتائج الفكر يخالف ما هنا. اه. التذييل (2/ 936).
وكأن ناظر الجيش هنا تابع لإسناده أبي حيان في هذه المسألة، ولكن قد يكون هذا الرأي للسهيلي في مصنفات أخرى له لم نتوصل نحن إليها وقد بحثت عنه في كتابه الأمالي فلم أجده.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإلغاء، لأن في ذلك رجوعا إلى الأصل. انتهى ما قالوه (1).
ولم يظهر لي كون هذه الأفعال إنما عملت لشبهها بأعطيت، لأن الشبه الذي ذكروه من وقوع اسمين بعدها لا أثر له في استحقاق العمل بوجه، وقد يقال: إن هذه الأفعال لما أحدثت في النسبة التي بين الاسمين الواقعين بعدها يقينا أو ظنّا كان لها تسليط (2) على النسبة لتعلقها بها فاستحقت التأثير فيما تعلقت به كما استحق أعطيت التأثير في زيد درهم إذا قلت: أعطيت زيدا درهما لتعلقه بهما لكن النسبة لا يظهر للعامل أثر فيها فجعلوا تأثير الأفعال المذكورة في المنتسبين الواقعين بعدها دليلا على تعلقها بالنسبة، وأنها أحدثت أمرا لم يكن قبل.
وقد نزع الإمام بدر الدين ولد المصنف منزعا غير ما ذكروه فقال: الجملة الواقعة بعد القول تحكى ولا يعمل فيها القول كما يعمل الظن، لأن الظن يقتضي الجملة من جهة معناها، فجزآها معه كالمفعولين من باب أعطيت، فصح أن ينصبهما الظن نصب أعطيته مفعوليه، وأما القول فيقتضي الجملة من جهة لفظها، فلم يصح أن ينصب جزأيها مفعولين لأنه لم يقتضها من جهة معناها، فلم يشبه باب أعطيت ولا أن ينصبها مفعولا واحدا، لأن الجمل لا إعراب لها فلم يبق إلا الحكاية (3).
وقال ابن هشام (4): هذا قول بعض المتأخرين يعني قول من قال: إن ظننت إنما عملت للتشبيه بأعطيت، وذلك أن كل عامل يدخل على الجملة فإنه لا يعمل فيها نحو «قلت» ، و «كنت» إذا كانت الجملة في موضع خبرها، وكذلك أسماء الزمان إذا أضفتها إلى جملة المبتدأ والخبر وكذلك المبتدأ [2/ 168] إذا كان خبره جملة، فكان الواجب في هذه الأفعال أن تكون كذلك، لولا هذا التشبيه، وقد أولع أبو علي الشلوبين بهذا المذهب، وهو لا يصح إذا حقق النظر فيه. انتهى. -
(1) ينظر في شرح الجمل لابن عصفور فقد رد فيه هذا القول الذي ذكره ناظر الجيش هنا بالمعنى، شرح الجمل (1/ 315) ط العراق، وينظر شرح المكودي على الألفية (ص 66)، والهمع (1/ 151).
(2)
سبقت ترجمته.
(3)
شرح الألفية لابن الناظم (ص 80).
(4)
سبقت ترجمته وهو محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي توفي سنة (646 هـ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهذا الذي ذكره ابن هشام يحقق ما قلته أولا في البحث المتقدم آنفا.
ثم قال ابن هشام: ومذهب سيبويه أن ما دخل على الجملة مما شأنه وأصله أن يدخل على المفرد فالجملة تبقى معه على حالها حكاية، لأنها بجملتها تنزلت منزلة المفرد فالاسم منها والفعل أحد جزئيها فينزل منزلة بعض الكلمة والعامل لا يعمل في بعض الكلمة، فبقيت على إعرابها حكاية والذي ليس من شأنه أن يدخل على مفرد مثل كان وأخواتها، وإنّ وأخواتها وظننت وأخواتها يصير مثل الفعل الداخل على اثنين، فما كان فعلا يجري مجرى الأفعال لأجل التشبيه وما كان غير فعل عمل بالتشبيه، لو لم يعمل بحكم أصله، هذا مذهب سيبويه والنحويين المتقدمين (1) قال: وقد رأينا العامل اللفظي يزيل الابتداء نحو: زيد قام إذا قدمت الاسم رفعت الاسم به ولم تشغله بضميره كما تعمل إذا تأخر، وكذلك ما يدخل عليه طالبا له من جهة والخبر مع جهة تخلع الابتداء وتستأثر بالعمل، لأنه أقوى منه، وإذا عملت الحروف نحو: إنّ وأخواتها وما ولا، ولات في هذه الجملة بما أدت معانيها فيها، فالفعل أولى بالعمل وأوجب أن لا يجوز فيها غير ذلك انتهى (2) كلام ابن هشام، وهو كلام سديد تركن إليه النفس وتقبله.
ومنها: أنك قد عرفت من كلام المصنف في متن الكتاب وتقريره في الشرح - أن حذف المفعولين في هذا الباب، وحذف أحدهما لا يجوز إلا لدليل وأما من غير دليل فلا يجوز والحذف لدليل هو حذف الاختصار والحذف لا لدليل هو حذف الاقتصار، وحذف المفعولين اختصارا مجمع على جوازه ومنه:
1093 -
بأيّ كتاب أم بأيّ سنّة
…
... البيت (3)
أي وتحسب حبّهم عارا عليّ.
وأما حذفهما اقتصارا فذكر ابن عصفور فيه ثلاثة مذاهب:
قال: منهم من منع وهو الأخفش ومنهم من أخذ بمذهبه ومنهم من أجاز وعليه أكثر النحويين. -
(1) ينظر الكتاب: (1/ 122، 123)، (3/ 119 - 120).
(2)
التذييل (2/ 938).
(3)
تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومنهم من فصل فأجاز في «ظننت» وما في معناها، ومنع في «علمت» وما في معناها وهو مذهب الأعلم (1) ومن أخذ بمذهبه.
فأما الأخفش فحجته أن هذه الأفعال قد تجرى مجرى القسم ومفعولاتها تجرى مجرى جواب القسم بدليل أن
العرب تتلقاها [2/ 169] بما تتلقى به القسم، فكما لا يبقى القسم دون جواب كذلك لا تستغني هذه الأفعال عن مفعولاتها.
وهذا لا حجة فيه، لأن العرب لا تضمّنها معنى القسم على اللزوم، فماذا يمنع من الحذف إذا لم يضمن معنى القسم؟
وأما الأعلم فحجته أن الكلام مبني على الفائدة، وإذا قلت:«ظننت» كان مفيدا، لأن الإنسان قد يخلو من الظن، وإذا قلت «علمت» كان غير مفيد لأن الإنسان لا يخلو من علم.
وهذا فاسد، لأن الكلام إذا أمكن حمله على ما فيه فائدة كان أولى: فإذا قال قائل: علمت - علمت أنه أراد أن يخبر بأنه وقع منه علم ما لم يكن يعلم إذ حمله على خلاف ذلك غير مفيد.
والصحيح أنه يجوز حذف المفعولين في علمت وظننت وما في معناهما وقد جاء ذلك في كلامهم: حكى سيبويه: أنهم يقولون: من يسمع يخل معناه يقع منه خيلة وقال الله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (2) أي يعلم وليس في الكتاب خلاء عن مذهب سيبويه.
فأما حذف أحدهما اختصارا: فجائز لكنه قليل ومنه:
1094 -
ولقد نزلت فلا تظنّي غيره (3)
…
... البيت
أي فلا تظني غيره كائنا أو واقعا.
وأما حذفه اقتصارا: فلا يجوز أصلا ولا خلاف في منعه بين أحد من النحويين لما يؤدي إليه من بقاء خبر دون مخبر عنه أو في مخبر عنه دون خبر (4) انتهى. -
(1) سبقت ترجمته.
(2)
سورة النجم: 35.
(3)
تقدم.
(4)
شرح الجمل لابن عصفور (1/ 191) رسالة بجامعة القاهرة، وشرح الجمل لابن عصفور أيضا -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد تبين من كلام المصنف المتقدم واستدلاله أن حذف المفعولين اقتصارا غير جائز، ولا يبعد أن ذاك هو الحق، وما استدل به ابن عصفور على جواز الحذف اقتصارا قد استدل به المصنف على أن الحذف فيه حذف اختصارا (1).
واعلم أن بعض المغاربة، وهو ابن ملكون (2) قد شذ فذهب إلى أنه لا يجوز حذف أحد المفعولين اختصارا كما لا
يجوز اقتصارا، وقاس هذا الباب على باب كان (3)، وقد رد عليه ذلك وفرقوا بين هذا الباب وباب كان بأن المرفوع هناك كالفاعل فلا يحذف والمنصوب كالحدث للأفعال فصار عوضا منه، فامتنع حذفه إذ صار جزءا من الفعل (4)، وقد تقدم ذكر شواهد الحذف أعني حذف أحد المفعولين ومنها قول الشاعر:
1095 -
تلذّ لطعمه وتخال فيه
…
إذا نبّهتها بعد المنام (5)
-
- (1/ 311 - 312) ط العراق، وينظر الغرة لابن الدهان (2/ 22)، وقد اختار فيه مذهب الأخفش وهو المنع مطلقا.
(1)
في (أ)(اقتصارا) في الأولى والثانية والصواب ما أثبته من (ب). ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 312) ط العراق، والمقرب (1/ 116).
(2)
هو إبراهيم بن محمد بن منذر بن سعيد بن ملكون الخضرمي الأشبيلي أبو اسحاق، أستاذ نحوي جليل روى عن أبي الحسن بن شريح وأبي مروان بن محمد، وأجاز له القاسم بن تقي، وروى عنه ابن حوط الله وابن خروف والشلوبين.
له شرح الحماسة، النكت على تبصرة الصيمري، وغير ذلك. توفي سنة (584 هـ) البغية (1/ 431) تحقيق: محمد أبو الفضل.
(3)
ينظر التذييل (2/ 944)، والتصريح (1/ 260)، والهمع (1/ 152)، وقد منع ابن الحاجب حذف أحد المفعولين مطلقا، قال: ومن خصائصها أنه إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر بخلاف باب أعطى. اه.
شرح الكافية للرضي (2/ 279)، وينظر شرح الأشموني (2/ 35)، وشرح الألفية للمرادي (1/ 390)، وأوضح المسالك (1/ 125).
(4)
ينظر التصريح (1/ 260)، والهمع (1/ 152).
(5)
البيت من الوافر وهو للنابغة الذبياني وهو في التذييل (2/ 945)، وديوان النابغة (ص 112)، ط. بيروت.
والشاهد قوله: (وتخال فيه) حيث حذف المفعول الأول لـ (تخال) اختصارا والتقدير: وتخال ما ذكرت في فمها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أي تخال ما ذكرت فيه من المشعشعة الموصوفة.
فإن قبل هذا البيت:
1096 -
كأنّ مشعشعا من خمر بصرى
…
نمته البخت مشدود الختام
على أثيابها بفريض مزن
…
تقبّله الجباة من الغمام (1)
وقال صاحب الإفصاح (2): زيدا ظننته قائما، هذا مما يحذف منه أحد مفعولي ظننت لأنك تقدر ظننت زيدا قائما، فتحذف استغناء بظننت هذه الظاهرة، ويحذف قائما استغناء بقائم هذه الظاهرة (3) هذا كلام النحويين.
ومنها: أنه قد سبق في كلام [2/ 170] المصنف أنه إذا وقع بعد إسناد هذه الأفعال إلى فاعليها ظرف أو جار ومجرور ولم يكن أحد المفعولين جاز الاقتصار عليه، ولا شك أنه لا يلزم من جواز الاقتصار عليه أن لا يذكر معه المفعولان لكن صرح ابن عصفور في شرح الجمل: أنك إذا أتيت في باب ظننت بعد الفعل بمجرور، وجعلته ظرفا للفعل فإنك تستغني به عن المفعولين ولا يجوز الجمع بينه وبين المفعولين أصلا فتقول: ظننت بزيد، وعلمت ببكر أي جعلته موضع علمي، وجعلت زيدا موضع ظني قال: ومنه قول الحماس:
1097 -
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّج
…
سراتهم بالفارسيّ المسرّد (4)
يريد ظنوا في ألفي مدجج أي اجعلوهم موضع ظنكم (5).
(1) البيتان أيضا للنابغة الذبياني كالذي قبلهما وهما من قصيدة يمدح فيها عمرو بن هند، وكان قد غزا الشام بعد مقتل أبيه المنذر. والبيتان أيضا في التذييل (3/ 945)، وديوانه (ص 112).
(2)
هو ابن هشام الخضراوي وقد تقدمت ترجمته.
(3)
ينظر التذييل (2/ 947).
(4)
البيت من الطويل وهو لدريد بن الصمة وهو في المحتسب (2/ 342)، وجمل الزجاجي (ص 358)، وابن يعيش (7/ 81)، والتذييل (2/ 966)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 309) ط. العراق، وشرح الحماسة للمرزوقي (ص 812)، والأصمعيات (ص 107)، برواية (علانية ظنوا)، والبحر المحيط (5/ 110)، واللسان (ظنن).
اللغة: مدجج: تام السلاح. سراتهم: أشرافهم. الفارسي: الدرع الذي يصنع بفارس. المسرد: المحكم النسيج.
والشاهد فيه: استعمال «ظن» في غير المتيقّن.
(5)
شرح الجمل لابن عصفور (1/ 309). ط. العراق.